بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 تموز 2020 12:00ص أيام بيروتية (27) هل تصلح بيروت مركزاً ثم عاصمة..؟!

حجم الخط
صدر في السابع من شهر جمادى الثانية سنة 1281هـ الموافق 8 تشرين الثاني 1864م نظام الولايات. وشارك في وضعه فؤاد باشا ومدحت باشا وبموجب هذا القانون قسّمت ولايات الإمبراطورية العثمانية السبع والعشرون الى ثلاثين ولاية، وقسّمت الولاية الى ألوية يرأس كلأ منها متصرف. وقسّمت الألوية بدورها الى أقضية يرأس كلاً منها قائمقام. وبموجب هذا النظام أنيطت أمور الولاية المدنية والمالية والضابطة وإجراءات الأحكام المدنية الى الوالي الذي يعيّن بإرادة سنية. وجاء تنظيم تشكيل الولايات كما كان قبله أي تقسيم الولاية الى ألوية (سناجق) والألوية الى أقضية. ولكن الجديد فيه إعادة النظر في التقسيمات الإدارية، فاختفت إيالة صيدا وقسمت بلاد الشام الى ولايتين هما ولاية سورية التي ضمّت بيروت وولاية حلب. يذكر أن الإدارة العثمانية استعملت اللفظين إيالة وولاية بالمعنى نفسه في أوقات مختلفة.

نشير الى أن بيروت قسّمت بعد صدور قانون الولايات سنة 1864م الى أربع دوائر لكل منها رئيس وثمانية أعضاء ومختاران وذلك من أجل عدة أمور تنظيمية، منها انتخاب المجالس وإعطاء الشهادات للحكومة عن بيع الأملاك ورهنها وإفادة الحكومة عن كل ما جهل لديها. والدوائر المذكورة هي:

أولاً: محلات البلدة (أي داخل السور القديم) وهي عشر: الدباغة - الشيخ رسلان -  الفاخورة - الحمام الصغير - الحضرة - الدركاه - رجال الأربعين - الغربية والشرقية والتوبة.

ثانياً: محلات مركبة من الصيفي والرميلة والرميل والأشرفية والقيراط ورأس النبع الشرقي.

ثالثاً: الباشورة وزقاق البلاط والمصيطبة والمزرعة ورأس النبع الغربي.

رابعاً: ميناء الحسن وجمّيزة يميّن والمريسة ورأس بيروت.

وكانت كل محلة تشتمل على أحياء وزواريب وأزقة وكروم وحارات.

وقد طرأ تغيير في هذه التقسيمات بعد أعمال التحديد والتحرير ونظام السجل العقاري الذي نفّذه الانتداب فألغيت أسماء محلات داخل البلدة وحلّ محلها اسم المرفأ فكانت أول محاولة لتغييب هوية البلدة، فالأسماء جزء من المعالم التاريخية. 

وكان من ضمن ألوية ولاية سورية لواء بيروت. وكان الجهاز الإداري في اللواء يتألف من المتصرف ويحمل لقب باشا أو بك ومن أركان اللواء وهم النائب (القاضي الشرعي) والمفتي ونقيب الأشراف والمحاسب ومدير التحريرات (المكتوبجي). وعلى أن يؤلف مجلس إدارة للواء يرأسه الوالي ويتألف من أركان اللواء المشار إليهم مع ثمانية أعضاء منتخبين.

وقد تخوّف قنصل فرنسا في بيروت في حينه من الضرر الذي سيلحق بالمدينة (أو بالأحرى بالتجار الفرنسيين) من جراء تحويل الأمور الإدارية جميعها وصلاحيات مجالسها الى مدينة دمشق مما سيفضي إلى تضاؤل دور بيروت التجاري وتعريض المصالح الفرنسية بالتالي إلى خسارة كبيرة لاضطرار التجار إلى الانتقال الى دمشق لإنجاز معاملاتهم. ويقول بطرس البستاني في «دائرة المعارف» ان إلحاق مركز بيروت التجاري بمركز الولاية وجعل جبل لبنان متصرفية مرتبطة رأساً بالباب العالي، أدّى الى خسارة بيروت أهميتها التجارية رغم بقائها مركز اتصال أوروبا بسورية ومجيء المراكب التجارية إليها وجعل محكمة بيروت التجارية محكمة استئنافية لكل ولاية سورية ولجبل لبنان. ولاقى تجار بيروت تخوّف القنصل الفرنسي وجمعتهما وحدة المصالح، فعقد التجار في العشرين من شهر تشرين الأول وفي السابع والعشرين منه 1867م اجتماعاً أرسلوا بعده عريضة الى الباب العالي عرضوا فيها تعرّض التجارة للخسارة.

وما يمكن التوقف عنده أن اجتماعا عقد في التاسع عشر من تشرين الثاني 1867م ضمّ أعيان التجار في بيروت، مسلمين ومسيحيين، انسحب منه المسلمون (لعلهم تخوّفوا من خسارة دورهم إذا تحوّلت المدينة الى عاصمة كما حصل أيام حكم الأمراء الاقطاعيين كما ذكرنا في أيام سابقة) بعدما تقرر مطالبة الباب العالي بجعل بيروت مركزاً للولاية وتوسيع المرفأ وجرّ مياه نهر الكلب إلى بيروت إلا ان قنصل فرنسا الذي ذكر الخبر لم يشر لسبب هذا الانسحــاب.

خلاف على مركز الولاية بين بيروت ودمشق

وكان أعيان التجار البيارتة قد طلبوا عام 1865م من والي سورية جعل بيروت مركزاً له. ما استنفر في حينه تجار دمشق وأعيانها ولاقاهم علماء دمشق في موقفهم. وتمثل موقف الفريقين في محاورة شعرية بدأها الفقيه الدمشقي الشهير ومفتي دمشق في حينه الشيخ محمود نسيب حمزة (1821- 1887م) وكان عجيباً في كتابة الخطوط الدقيقة فقد كتب سورة الفاتحة على ثلثي حبة أرز (وله الفتاوى المحمودية المشهورة)، فقد أرسل الى بيروت بيتين من الشعر قال فيهما رداً على مطالبة البيارتة:

يا ثغر بيروت هذا البحر من قدم يصبّ فيك ولا يوماً توالينا

قل لي بأي لسان فهمت ذا طمع حتى تطلّبت بحر الفضل والينا 

وردّ عليه صاحب وناشر جريدة «الأخبار» الشيخ خليل الخوري ببيتين أيضاً هما:

البحر للثغر لا تطمع بمركزه في البر من بعد ما ناداه نادينا 

وان أرادكم حيناً فلا عجب لأنه الغيث يرويكم ويروينا

فأجابه الشيخ محمود حمزة ثانية بالبيتين:

الثغر للبحر أو للبرّ جزوهماحق المرور له يا من يحاجينا
هل صحّ ثغرُ لبحرٍ مركزاً أبداًتالله، أفواهُ أطماع تناجينا
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر هنا لأنه من جنسه – نقول ان مقولة عدم صحة ثغر بيروت كمركز، استبعدت سنة 1919م عندما حضر الأمير فيصل الأول الى بيروت وطلب منه أعيان بيروت جعل بيروت عاصمة له، فأجابهم بما معناه: ان عاصمة على البحر يصعب الدفاع عنها.

ونعود الى المحاورات حول اتخاذ بيروت مركزاً للوالي – وتحريك التجار للشعراء لتأييدهم في مطاليبهم. فقد ردّ الشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي بقصيدتين يدفع فيهما اللوم عن بيروت ودورها كصلة وصل. فقال في الأولى: 

قد لمتَ بيروت فيما لا تلام بهلما أقامت على الدعوى براهينا
يكفي دمشق مياه راق منهلها خلجانها بالصفا أتت تباهينا
تصبّ في كل وادٍ فضل أنهرها بلا احتياجٍ، ولا تسقي سواقينا
فيها الحياة ولم نطمع بموردهاولا تخطّت، لها يوماً، أمانينا
وقال في القصيدة الثانية:

من أين جاءك أن الثغر ليس لهبمركز البحر حق في نواحينا
هل صحّ بحر بلا ثغر يكون به دوماً مواصلة يا من يجافينا 


وكان مجلس ولاية سورية العمومي الذي كان مؤلفاً من اثنين وثلاثين عضواً منتخباً، عقد أول جلسة له في بيروت في شهر كانون الأول سنة 1867م برئاسة والي سورية في حينه محمد راشد باشا.

وقد أصدر الوالي إثر ذلك في الخامس من شهر رمضان سنة 1284هـ/ 1868م في عهد السلطان عبد العزيز أمره بأن تكون بيروت مركزاً للولاية لمدة ستة أشهر من كل سنة وأن تكون دمشق مركزاً لها للأشهر الستة الباقية وعلى أن تعتبر كل من المدينتين مركزاً للولاية على حد سواء. بحيث تنتقل دائرتها ومجالسها وديوانها ومحاسبتها بين المدينتين في الأوقات المعينة. وامتدت ولايته بين 1282- 1288هـ وعزل سنة 1871م من ولاية سورية وتداول الناس على عادتهم أسباب عزله بما يقال عن كل من يعزل أو يترك منصبه كسوء التصرف والفساد كزعمهم بان مالاً أرسله السلطان إعانة للمعوزين فرأى الوالي أن يبني فيه داراً جديدة للصيف في دمر وقيامه بشراء الحنطة من المزارعين بأقل من ثمنها الخ..

ذكر أن الوالي محمد راشد باشا كان لين العريكة سهل القياد ناشراً للعلم بهمّة لا يطرقها الكلل كما وصفه محمد أديب تقي الدين الحصني. قمع الظالمين المتعدّين على أمن السبل وقاتل بنفسه الأشقياء. وكان معه المشير درويش باشا الشهير صاحب الأراضي الواسعة في سهل البقاع المعروفة بجفتلك (مزرعة) درويش باشا والتي كانت تضم عدة قرى ومزارع وسواقي.

محمد راشد باشا

وفي أيام محمد راشد باشا أثمرت النهضة الأدبية في بيروت فكثرت فيها المدارس والمجلات والجرائد العربية والمطابع وباعة الكتب. كما راجت في عهده الحركة التجارية لتأمين الطرق والموارد. وفي أيامه حضر ملك النمسا لزيارة القدس كما حضر للشام الأمير فريدريك الألماني. وفي عهد الوالي المذكور طبعت أول (سالنامة) ظهرت في سورية وهي فارسية من سال وتعني سنة ونامه وتعني أوراق فهي الأوراق السنوية أو الحولية.. وشجع المسرح في بيروت فظهرت رواية إسكندر الرومي مع ملوك الهند وشخّصت باللغة العربية بأمر من محمد راشد باشا وقال فيها وفيه الشاعر الشيخ قاسم أبو الحسن الكستي:

رواية حكمتها تظهرُ كطلعة الشمس لمن ينظرُ
قد حكم العقل لها أنهاوفيه مما به يؤثر اسكندر
بها عرفنا حال من قبلناوالشيء بالشيء غدا يذكر
دلت على فضل مشير لقدأسسها وهوبها يشكر
محمد سامي العلا راشدٍومن به صبح المنى يسفر
اعدل من كسرى بأحكامه إذ عنه بالحق غدت تصدر
والسعد ولاه على منصبقصّر عنتحصيله قيصر
وازداد نشرُ الأمن في عصرناحتى مع الشاة رعى القسور 
سورية شدت به ازرهاوقد غدا منه لها مظهر 
واصبحت بالعز منه علىربحٍ ليوم الحشر لا يخسر




* مؤرخ