يقول أستاذنا الدكتور صبحي المحمصاني في كتابه «فلسفة التشريع في الإسلام» بأن تطوّر المجتمع والرأي العام أسبق من الشرائع في ميدان التغيير والانقلاب. وأن ضرورات الحياة تتطلب تعديل القديم والتقريب بين النظريات والعمليات وأن من وسائل هذا التعديل والتقريب: التشريع المباشر من الدولة والاستحسان القضائي والحيل الشرعية. من الأمثلة في ذلك، التخلص من استعمال الشفيع لحق الشفعة بإقرار البائع بملكية المشتري للعقار ثم يهب المقر له المال للبائع على سبيل الهبة المباحة. أو إضافة «صرة مجهولة» للثمن يستهلكها البائع في مجلس العقد ويتعذر معها على الشفيع استعمال حقه لعدم تمكّنه من تعويض المشتري. ومن الأمثلة التخلص من حرمة الربا بأن يبيع المدين من الدائن سلعة بأقل من ثمنها أو أن يشتري منه سلعة بأكثر من قيمتها. وقد سارت المحكمة الشرعية في بيروت في المعاملات على كما أشرنا في كتابنا «تاريخ القضاء الشرعي في بيروت».
وقد نسب إلى بعض فقهاء الحنفية وبعض الفقهاء الشافعية كتاب «الحيل» لأحمد أبي بكر الخصاف وكتاب «المخارج في الحيل» المنسوب إلى الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة وقد نشره المستشرق يوسف شخت سنة 1930م. وضم إليه رواية أخرى للكتاب المذكور لأبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي يذكر أن القاضي جان باز نال الدكتوراه في الحقوق من جامعة ليون على رسالة له بعنوان «رسالة في الاحتيال على القانون في الشريعة الإسلامية»: Essai sur la fraude a la loi en droit musulman
الجامعة الأميركية تلجأ للوقف لتملّك الأراضي
أصدرت الدولة العثمانية سنة 1858م قانون الأراضي الذي قسّم الأراضي إلى خمسة أقسام هي: الأراضي المملوكة والأراضي الأميرية والأراضي الموقوفة والأراضي المتروكة والأراضي الموات. ولم يكن قبل ذلك من عناية لتسجيل الأراضي وإعطاء صكوك رسمية بها إلى أن صدر سنة 1861م قانون الطابو. ولم يكن يسمح بموجب القانون المذكور للأجانب بالتملك في أراضي الدولة العثمانية إلى أن صدر سنة 1869م بروتوكول سمح بموجبه للأجانب بالتملك. وقد وضع هذا البروتوكول في حينه حداً للفوضى التي كانت سائدة قبله والناتجة عن لجوء الأجانب إلى استخدام أسماء أشخاص عثمانيين في تسجيل العقارات وذلك عن طريق العارية.
وفي الرابع من شهر كانون الأول (ديسمبر) 1866م نشرت الصحف إعلاناً بتوقيع القس دانيال بلس عن برامج المدرسة السورية الكلية الإنجيلية في بيروت وأجرة التعليم مفاده «ان هذه المدرسة قد استجدّت لشبان أبناء العرب بدون نظر الى الطوائف والأديان لكي تقدّمهم الى الدرجة القصوى من معرفة العلوم والفنون، وموقعها في مكان هواه جيد للصحة، وهي تحتوي على مكتبة كتب وخزائن لأنواع المعادن والمواد الجيولوجية والنباتية ونظارة كبيرة لمراقبة الكواكب وآلات متنوّعة تامة لدرس الكيميا وغير علوم طبيعية ثم ان مدة الدرس فيها هي أربع سنوات لأجل درس العلوم واللغات، ويدرس فيها الجبر والهندسة والمثلثات الكروية ومسك الدفاتر والمساحة وسلك الأبحر وعلم الفلك والفلسفة الطبيعية والكيميا العقلية والعملية وإدخال الكيميا في الصنائع والجيولوجيا وعلم المعادن وعلم النباتات والفيزيولوجيا والتاريخ الحديث والقديم والصرف والنحو والمعاني والبيان والعروض والمنطق والفلسفة العقلية والأدبية وشرائع الممالك المشتركين وشريعة التجارة وشريعة البحر واللغة الإنكليزية والفرنساوية واللاتينية والتركية وكذلك اللغة اليونانية وفن التصوير لمن يريد أن يتعلمهما، ولا تهمل شيئاً من لوازم التهذيب المسيحي الصحيح باذلة الجهد في المناظرة التامة على صحة التلاميذ وسيرتهم نهاراً وليلاً وتعتني بهم عند المرض بأحسن الوسائط الطبية، ولها الآن مدرسة استعدادية تحت إدارة المعلم بطرس البستاني حيث تدرس مبادئ العلوم لكي تؤهّل التلاميذ للدخول الى هذه المدرسة ولا تقبل تلميذاً قبل أن يبلغ سن الأربع عشرة سنة والأجرة لأجل التعليم خمس ليرات مجيدية سنوياً مدفوعة سلفاً. والذي يلتزم أن يأكل خارج بيته فيمكنه ذلك بدفع إثنتي عشرة ليرة مجيدية زيادة على المرتب لأجل التعليم. ان المأمول في بحر هذه السنة انه ستفتح محلات الطب وقد تعيّن للقيام بإدارة الكلية الأطباء الماهرين أساتذة يعلمون فيها ومن يريد أن يعرف بأكثر تدقيق فعليه بمراجعة الإعلان الذي سيوجد في كنسلارية دولة انكلترا وكنسلارية دولة أميركا في القدس الشريف والشام وفي مطبعة الأميركان ومخزن الخواجا إلياس فواز في بيروت وعند رئيس مدرسة عبيه وعند القسيس لانسن في مصر وعند القسيس ضدس في اللاذقية وعند القسيس دانيال بلس في بيروت من أعمال سورية.
القس دانيال بلس رئيس المدرسة الكلية».
*****
من المفيد أن نشير إلى أنه أتى حين من الدهر لم يكن للأميركيين الحق بالتملك في أراضي الدولة العثمانية فلجأوا عند تأسيس الجامعة الأميركية في رأس بيروت إلى نظام الوقف الإسلامي فقد عهدوا إلى بعض الأشخاص المحليين الذين يحملون الجنسية العثمانية بشراء الأراضي ووقفها لصالح المدرسة الكلية ومن ثم بعد صدور الإذن للأميركيين بالتملك أحضر الواقفون إلى المحكمة الشرعية وأقرّوا بأنهم اشتروا الأراضي من مال الأميركان.
يذكر أن الكلية السورية الإنجيلية التي أصبحت فيما بعد الجامعة الأميركية – كانت تشغل بالإجارة دار عبد الفتاح آغا حماده في محلة زقاق البلاط وكان دانيال بلس يسدّد بدل الإيجار للآغا الذي كان يكتب في الإيصال «وصلني من الخواجا دانيال إبلس (وليس بلس) وكان الخواجا بلس يقول للآغا: قد تقرأ إبليس. فكان عبد الفتاح آغا يرد عليه بأنه ليس في العربية اسما يبدأ بحرف ساكن».
وعندما أراد الخواجا دانيال بلس توسيع الكلية وتحويلها إلى جامعة اهتدى إلى قطعة الأرض التي تقوم عليها المباني الحالية للجامعة في رأس بيروت وأراد تسجيلها على إسم الكلية إلا أنه اصطدم بالقانون العثماني الذي لم يكن يسمح للأميركيين بتملك الأراضي العثمانية. ووجد من (الفقهاء؟) من يشير عليه بأن حل المشكلة يكمن في نظام الوقف الإسلامي فتمّ شراء عدة قطع وتسجيلها بإسم ميخائيل يونس الغرزوزي العثماني.
ففي 20 من ذي الحجة سنة 1286هـ/ آذار 1870م حضر إلى المجلس الشرعي في بيروت ميخائيل يونس الغرزوزي ووقف وحبس ما هو له وجار في ملكه وتصرفه أي أربع قطع أرض، ثلاث متلاصقة في محلة طنطاس برأس بيروت (معاني أسماء هذه المحلة وغيرها مبيّنة في كتابنا عن رأس بيروت) منها قطعة أرض كبيرة تحتوي على صخور ومغارتين وجورتي أتون (كلس) وبئر جمع يعرف ببئر العصافير «وقفاً ليبنى به مدرسة كلية لتعليم أنواع العلوم والصناعات لكل من يريد التعلّم من سائر الطوائف ويكون باقي الأرض وقفاً على مصالح المدرسة. وشرط أن يكون النظر على الوقف للخواجا دانيال بن لومس بلس الأميركاني رئيس المدرسة الكلية في بيروت ولمن يكون رئيساً عليها بعده...».
وفي 20 من ذي الحجة سنة 1291هـ/ 1875م حضر ميخائيل يونس الغرزوزي إلى المجلس الشرعي وأقرّ في وثيقة برقم 315 بأنه «كان قد اشترى الأراضي المذكورة بمبلغ 96671 قرشاً للخواجا دانيال بلس بمال المدرسة وأنه وضع اسمه في حجتي شرائها بوجه العارية لعدم الإذن لمثله بالتملك وأنه كان وقف الأراضي على مصالح المدرسة الكلية ووضع اسمه على أنه الواقف والحال أن الواقف الحقيقي هو الخواجا دانيال المذكور وانه صدر» الآن «الإذن لرعايا دولة بلس بالتملك فسجل إقراره بذلك». كما أقرّ في وثيقة برقم 316 تاريخ 26 ذي الحجة 1291هـ/ 1875م بأنه كان اشترى قطعتي أرض في محلة جل البحر بمبلغ 35633 قرشاً للحكيم جورج بن الفرد بوست الأميركاني وكيل المدرسة الكلية الأميركانية بمال المدرسة ليكون تابعاً لها من جملة أملاكها وأنه وضع اسمه بالحجتين بوجه العارية لعدم الإذن لمثل المشترى له بالتملك. وأنه صدر الآن الإذن لرعايا دولته بالتملك صار هذا الإقرار.
يتبيّن صراحة من هذه الوثائق ان ثمن الأراضي الموقوفة دفعت من أموال الجامعة الأميركية وان الواقف الظاهر - ميخائيل الغرزوزي - أقرّ واعترف بأنه كان اسماً مستعاراً وان ذلك يوضح سبب تولية النظارة على الوقف للخواجا دانيال بلس رئيس المدرسة ولأي رئيس لها بعده.وكما يفسر عدم إشارة دانيال بلس للغرزوزي في مذكراته وعدم إطلاق اسمه على أحد مبانيها. وان الشراء تمّ بمال المدرسة وان الغرزوزي وضع اسمه في الحجتين المرقومتين (أي الشراء) بوجه العارية (استعارة) لعدم الإذن للخواجا بلس بالتملك الذي هو الواقف الحقيقي. وبعد صدرور الإذن لرعايا دولة (الأميركان) بالتملك في الممالك المحروسة صار تدوين الإقرار المذكور.
وهكذا لجأ الأميركان إلى حيلة شرعية لتملك الأراضي، مما أسهم في إنشاء الجامعة الأميركية ومكّنها من تقديم خدمات جلّى للبلد والمنطقة العربية. ولم يتبيّن من هو الفقيه الذي اقترح على الخواجا بلس اللجوء الى هذه الطريقة وقد يكون أحد الذين شهدوا على وثائق شراء العقارات وعلى وقفها وإقرار واقفها بحقيقة الشراء والوقف وبإسم الشاري والواقف الأصلي فكان من بين الشهود الشيوخ قاسم أبو الحسن الكستي وحسين بيهم العيتاني وإبراهيم الأحدب ويوسف الأسير وعبد الرحمن النحاس نقيب السادة الأشراف؟
ذكرت صحيفة «الاتحاد» العثمانية اثر خلاف نشأ بين إدارة المدرسة والطلاب أمراً يقتضي التثبت من حقيقته – وهو ان أحد الوجهاء أكد لها ان المنشور الرسمي (الفرمان) الذي أعطي من قبل الحكومة العثمانية إلى جماعة من الأميركان في بيروت، صرّح بأجلى بيان بأنه متى أصبحت البلدة مستعدة للقيام بإدارة الكلية فإن على الأميركان تسليمها للبلدة بما فيها البنايات والمتحف. وقال بأن عمدة الكلية طبعت هذا المنشور في أول سنة من تأسيسها ووزعته في البلدة ثم أخفته بالكلية.
يذكر أن القانون العثماني كان يفرض موافقة المجلس البلدي قبل استصدار فرمان سلطاني لإنشاء المدارس. وكان الآباء اليسوعيون قد تقدّموا بطلبهم بواسطة سفارة فرنسا في الآستانة ولكن أولي الأمر في العاصمة المذكورة طلبوا جلب موافقة مسبقة من مجلس بلدية بيروت. وقد وافق المجلس المذكور على الطلب أيام رئاسة أحمد أباظة للمجلس سنة 1875م وأرسلت الأوراق بذلك الى الآستانة.
نقل الأستاذ شفيق جحا من تذكارات دانيال بلس قوله «لما قررت عمدة الكلية شراء قطعة أرض التي تقوم عليها الآن بناية كولدج هول بالجامعة الأميركية في رأس بيروت كلّفت السمسار الغرزوزي القيام بما يلزم لشرائها. فكان أول ما فعله هو أن أوصى بأن تكتم العمدة الأمر سراً ولا تبوح لأي كان على الاطلاق برغبتها في شراء قطعة الأرض هذه. انقضت بضعة أسابيع ولم نسمع منه شيئاً وأخيراً طلب مني الغرزوزي بأن أتعمد المرور وكأنه بطريق الصدفة أمام متجر صاحب الأرض بالمدينة من دون أن اتطلع صوبه أو أن أجعل صاحبه يعرف انني أعرفه. انقضت بضعة أشهر مررت خلالها أمام متجر المالك عشرات المرات كما أراد الغرزوزي دون جدوى. وفي أحد الأيام التقينا وسط الشارع المزدحم وكعادتي لم أنظر إليه ولكنه تقدّم مني وخاطبني قائلاً: يا سيد لقد أخبرني الغرزوزي انك ترغب في شراء قطعة أرض لتبني عليها مدرستك فأجبته ان السيد غرزوزي سمسار أراضٍ وهمّه الحصول على العمولة وأكملت طريقي. وانطلقت فوراً لمقابلة الغرزوزي وأخبرته بما جرى لي مع صاحب الأرض فصفق فرحاً وقال الحمد للّه لقد انتصرنا».
* مؤرخ