بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 تموز 2020 12:00ص أيام بيروتية ( 29):التجنيد الإجباري أو قانون «أخـــذِ عــســكـر»

اخد عسكر اخد عسكر
حجم الخط
صدر سنة (1886م) قانون عُرف بإسم «أخذِ عسكر» نص على أن مدة الخدمة العسكرية عشرون سنة موزعة على ثلاث مراحل: ست سنوات خدمة نظامية في السلك العسكري، وثماني سنوات خدمة في سلك الرديف، وست سنوات خدمة في سلك المتحفظ.

كانت الخدمة العسكرية إلزامية على المسلمين. ذهب المئات منهم للحرب في البلقان والقوقاز وكريت واليمن وغيرها. واستشهد كثيرون منهم ولم تعرف أخبارهم. حدّثني المرحوم الرئيس صائب سلام أن الذي كان يقتل في الحرب كانت توضع على باب منزله جريدتان من شجر النخل، فيعرف الناس أنه توفي ويقولون «إجا خبرو». ولا شك بأن عائلات بيروتية كثيرة افتقرت وباعت أملاكها، إما لاضطرارها إلى دفع البدلات مرات عديدة وإما لفقدها مُعيلها في الحروب، فيما كانت عائلات أخرى من غير المسلمين ترسل أبناءها إلى المدارس والجامعات وتسافر وتتاجر وتحصل على توكيلات تجارية وتجمع الأموال.

*****

كان المرحوم والدي يذكر أن والده دفع بدل الخدمة العسكرية عدة مرات عن أشقائه وعن نفسه، وأن جدته الحاجة صفية كانت تقول لهم كل مرة: روحوا بيعوا بيت البرية، من أجل تسديد البدل.

ومما ذكره بهذا الخصوص أن عمه حسن، أبا علي، شارك سبع مرات في ضرب القرعة العسكرية ولم تصبه مرة. وأن والده - جدنا - أصابته القرعة مرتين. وأن هذا الأخير لم يكن يذهب لمجلس القرعة إلا وفي جيبه خمسون ليرة (التون ليرة = ذهبية) حتى إذا أصابته القرعة، دفعها بدلاً وخرج.

أما عن كيفية إجراء القرعة فقال: كان يؤتى بمواسير حديدية، مثل مواسير ماكينة الخياطة، فإما أن توضع في الماسورة ورقة بيضاء من يسحبها يترك حراً. وإما أن يكتب على ورقة صغيرة لفظ «عسكري» ويرش عليه رمل، لتنشيف الحبر، والذي يسحبها يجبر على أداء الخدمة العسكرية.

وروى عن جدنا أن هذا الأخير حضر في إحدى السنين إلى القشلة الهمايونية أي السراي الكبير حيث كان يعقد مجلس سحب القرعة وكان مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط فاخوري حاضراً. وعندما جاء دور جدنا سحب الماسورة وقال له المفتي: هات يا عم لأفتحها، ظناً منه أن جدنا خائف، ولكن هذا الأخير قال له: أنا أفتحها (وعقّب والدي على ذلك بقوله إن أباه كان مطمئناً لأنه كان يحمل خمسين ليرة ذهبية في جيبه) وفتحها وقال: بيضاء، أي لم يكتب عليها «عسكري» وقيل له: هات لنراها، فقال: بيضاء... بيضاء. وسبب تأكّده من كونها بيضاء، حتى من قبل أن يستخرج الورقة، لأنه عندما طرق الماسورة على باطن كفه لم يتساقط منها الرمل (بدل ورق النشاف) الذي لم يكن يوضع إلا إذا كتب عليها «عسكري».

ذكر والدي عن أبيه أن الدولة العثمانية كانت في أواخر أيامها بحاجة ماسّة إلى العساكر، فكانت الأوراق البيضاء نادرة جداً. كما ذكر أنه في بعض السنوات، لم تكن الدولة تقبل بدلاً نقدياً، بل فرضت بدلاً عينياً، بحيث كان على من تصبه القرعة، أن يؤمّن شخصاً آخر بدلاً منه. وأن جدنا تمكّن مرة من تقديم أحد الأشخاص بدلاً منه لقاء مبلغ معين دفعه له، واستضافه ليلتها، وسلّمه في اليوم التالي إلى مركز التجنيد.

روى رحمه الله أن بعض من كانوا يطلبون للخدمة العسكرية، اختلقوا أعذاراً طريفة للتخلص منها. وذكر شاباً من أسرة شهاب كان يملك مطحنة في سوق أبي النصر ادّعى الخرس، عذبوه كثيراً ورموا وراءه صفيحة كي ينقز، وسخنوا صاجاً قصد أن يقعدوه عليه، دون جدوى، فشتمه الضابط المسؤول عن التجنيد. ثم تقرر استخدامه في بيت أحد الضباط. فكان البعض يأتي لبيت الضابط ويقول: ول.. نحن سمعناه يحكي. فقالت زوجة الضابط له مرة: والله العظيم ما بحكي لزوجي، أنت أخرس؟ فقال لها: أنا بحكي.. بحكي. وأن آخر ادّعى أنه مفلوج كان يمشي في الأسواق يهز يده اليمنى وينادي: خبز... خبز.. الله... الله.

ومما رواه والدي عن جدنا شيوع عبارة «نارده وثيقة» أي أين الوثيقة، وكان الجنود الأتراك يسألون من يصادفونه من الشبان في الطرقات عن وثيقة تجنيده، ومن لم يكن يحملها سيق إلى مكان التجنيد. فلما خسرت الدولة العثمانية الحرب سنة (1918م) وأثناء مغادرة الموظفين الأتراك لبيروت، تجمع الناس لرؤية انسحابهم، ولما شاهدوا حسن حسني الذي كان مسؤولاً عن ملاحقة الشبان أخذوا يهتفون: حسن حسني... نارده وثيقة؟ وشاعت من يومها أغنية تقول:

حسن حسني نارده وثيقة يلعن دقنك هالعتيقة
حسن حسني ما بقا تنفعبدك كله ببوز مدفع
يُذكر أن مجلس القرعة كان يعقد في القشلة الهمايونية وعقد عدة مرات في الجامع العمري الكبير وذلك في حضور أعضاء قومسيون (لجنة) لمّ العسكر، القاضي والمفتي ونقيب الأشراف وأمراء العسكرية، فيتلى الفرمان السلطاني بتحديد عدد الأنفار المطلوبة من المدينة. ثم يقوم المفتي أو القاضي أو نقيب الأشراف بالدعاء إلى الله وأن يحفظ الدولة العلية، ويمدّ بعمر سلطان البرين، وخاقان البحرين، وحامي الحرمين الشريفين السلطان ابن السلطان إلخ... ويهتف الجميع: باد شاهم جوق يشا. ثم يشرعون بإجراء القرعة، فتسجل أسماء المطلوبين في بطاقات خاصة، ثم تسجل أرقامهم في أوراق أخرى، ثم يُنادى على المطلوبين اسماً اسماً، ويطلب منهم سحب ماسورة يفتحها بنفسه أو يفتحها له أحد الضباط إذا كانت ركبه تصطك، وينادي من يقرأها: خالية أو عسكري. فتصرخ والدة الشاب أو زوجته مزغردة أو مولولة حسب نتيجة سحب القرعة.

يذكر أن بدل الخدمة العسكرية حدد سنة (1876م) بخمسين ليرة ذهبية واستثني من الخدمة خدمة الحرم الشريف، وخدام مقامات الأنبياء والرسل، والموالي وحكام الشرع، ومشايخ الطرق الصوفية من أصحاب الزوايا، وأئمة المساجد وخطباء الجوامع، والمرضى وأصحاب العلل، ووحيد الأبوين، ثم صدرت إرادة سنية بأخذ المعيل الوحيد لعائلته مقابل راتب شهري من الحكومة قدره عشرون غرشاً. إلا أن السلطة لم تطبق سوى الشطر الأول من هذه الإرادة فساقت المعيل وتركت العائلة دون مورد بحيث أصاب العائلات ضنك شديد. مما دعا أهالي بيروت للتنادي لجمع الإعانات لعائلات العسكر، وتألفت سنة (1877م) جمعية لجمع الصدقات وتوزيعها على عيال العسكر الذي طلبوا للخدمة في حربي القرم والبلقان، واستشهد منهم أكثر من خمسين شاباً في معارك بلافنه وأدرنه والجبل الأسود وشبكة وفيدن والبوسنة والدانوب. كانت الجمعية مؤلفة من عبد القادر عبدالله بيهم ومحي الدين عبد الفتاح حمادة وحسن محمد القاضي وعمر درويش غزاوي وزين ابن الشيخ عبدالله سلام. ولأخذ فكرة عن قيمة الإعانة العسكرية المقررة (20 غرشاً) يذكر أن ثمن صندوق الكاز وارد بيهم بلغ (85 غرشاً) وثمن أقة البن (15,50 غرشاً) والسكر (7,30 غرشاً) والأرز ثلاثة غروش.

نشير الى أن الفرمانات والإرادات السنية كانت تقيّد في سجلات المحاكم الشرعية. فسجل في سجل محكمة بيروت فرمان عالي شان في حق القرعة صادر في آخر شهر رجب سنة (1266هـ/1850م) أيام ما كان صالح وامق باشا والياً على صيدا وبيروت (من ضمنها). جاء فيه تحديد مدة الخدمة العسكرية بخمس سنين ثم يقيّد في صنف الرديف. وأن الذين يخرجون من بعد استكمالهم مدة الخمس سنين يؤخذ عوضهم بمقدار عددهم من الفتيانذوي عُمر عشرين إلى خمس وعشرين، وأن يجري هذا الاستخراج بالاستبدال كل سنة على هذه الأصول من غني وفقير ورفيع ووضيع فلا بد من دخوله الخدمة بلا استثناء ولا مدافعة ولا حماية ولا ممانعة، وأنه جرى تحرير ما في دوائر النفوس، فكان الجواب على بيروت عامئذ ثمانية وأربعون نفراً. ويضيف الفرمان بأن من تصب القرعة أسماءهم يعطى لهم الإذن بالذهاب إلى منازلهم يمكثون فيها عشرين يوماً، يقضون أشغالهم ويمضون أعمالهم، ويعودون إلى المكان الذي جرت فيه القرعة ليؤخذوا إلى أماكن خدمتهم، ومن لا يحضر لا بد أن «تضيق به الأرض ويقع في أيادي القبض».

-----------

* مؤرخ