بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 تشرين الثاني 2019 12:05ص أيام بيروتية (3) إنتصار أهل بيروت على الإفرنج سنة 926هـ/ 1520م

حجم الخط
يمكن القول بأن المعركة التي نشبت سنة 926هـ/1520م بين أهل بيروت والفرنج كانت من أهم الحملات التي شهدتها بيروت، وقد ترأسّها عدد كبير من نبلاء فرنسا مع سبعمائة جندي وانتهت في ساعة ونصف بهزيمة ساحقة للفرنج ملحقة بهم أضراراً جسيمة قي الرجال والعتاد، وتردّد صداها مدة طويلة. وقد وصف محمد بن طولون الدمشقي المعركة المذكورة بالتفصيل فقال «وفي يوم الجمعة سلخه (شهر شوال) جيء برؤوس افرنج الى دمشق مع جماعة من أهل بيروت وأخبروا ان يوم الأربعاء ثامن عشريه طلع من البحر الى عند عين البقر هناك هؤلاء الفرنج في زيّ الأروام وراموا أخذ ميناء بيروت ففاق عليهم المسلمون واقتتلوا فقتل من المسلمين نحو مائة ومن الافرنج نحو الأربعمائة وهرب الباقون وقد كانوا جاءوا في تسعة مراكب منها خمس برشات والباقي أغربة». 

ويضيف ابن طولون «وفي يوم السبت مستهل ذي القعدة وصل الى دمشق خمسة احمال من رؤوس الفرنج المقتولين بساحل بيروت وفرّقت على الحارات مثل الصالحية وميدان الحصى والقبيبات والشاغور وحارة النصارى وحارة اليهود عند بستان القط وحارة السمرة فوق العنابة واستمرت الى أن أكل غالبها الكلاب وتحرّر انه قتل من المسلمين خمسة أنفس ومن الافرنج نحو خمسمائة وستة وثمانين نفسا وأن عدد المراكب أربعة عشر وانهم نزلوا بثلاثة صناجق وثلاثة طبول. وفي يوم الأحد ثانيه سافر النائب الى بيروت ليأخذ سلب الافرنج المقتولين ويتفقّد أبراج ذلك الثغر من السلاح».

ولا بد من التوقف عند بعض ما جاء في هذا النص. فالأغربة او الغربان جمع غراب لأنها كانت تطلى بالقار وكانت لها قلوع بيضاء فهي في ذلك تشبه الغربان، وقد عبّر ابن الأبار عن ذلك التشابه بينها وبين الغربان فقال:

يا حبذا من بنات الماء سابحةٌ

تطفو لما شبّ أهل النار تطفئهُ

تُطيرها الريح غرباناً بأجنحةِ الـ

حمائم البيض للأشراك ترزؤه

من كل ادهمَ لا يُلفي به جربٌ

فما لراكبه بالقار يَهنؤه

يدعى غراباً وللفتخاء سرعتهُ

وهو ابن ماءٍ وللشاهين جُؤجُؤه 


وصف ابن إياس للمعركة

أما ابن أياس فقد أورد المعركة بقليل من التفاصيل ولكنه نسب الانتصار الى نائب دمشق وجمّ غفير من عسكره فقال «وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره قدمت الأخبار بأن الفرنج قد أتوا الى ساحل بيروت وحاصروا من بها فكسروهم وملكوا مدينة بيروت وأقامت معهم ثلاثة أيام فلما بلغ الأمير جان بردي الغزالي نائب الشام ذلك عيّن دواداره وصحبته الجم الغفير من العساكر فتوجهوا الى بيروت وتقاتلوا مع الفرنج فكان بين الفريقين وقعة مهولة قتل فيها ما لا يحصى من الفرنج وأسر منهم نحو ثلاثمائة إنسان وغنموا منهم أشياء كثيرة من سلاح وقماش وغير ذلك وقيل أسروا ثلاثة من أولاد ملوك الفرنج وملكوا 3 برشات من كبار مراكبهم وكانت النصرة عليهم للغزالي نائب الشام بعدما ملك الفرنج بيروت وأقامت معهم ثلاثة أيام وهم مستولون عليها».

ويعود الفضل للدكتور بيار مكرزل في وصف المعركة من مصادر فرنسية تبيّن اشتراك العدد الكبير من نبلاء فرنسا وسبعمائة جندي في المعركة. كما يبيّن «احتفال أهل بيروت بالانتصار في قصيدة نظمها الشيخ إبراهيم رجب زين الدين الصيداوي شبّهت المهاجمين بأصحاب الفيل (قوم أبرهة) وبأن الله أغرقهم كقوم فرعون وان تلك القصيدة نظمت بناء لطلب الشيخ السيد عبد الرحيم البيروتي».

وتتوافق الإشارة الى السيد عبد الرحيم مع ما ذكرناه في كتابنا «زوايا بيروت» حول زاوية الدركاه او الزاوية العمرية، ففي سنة 1871م كتب داود كنعان في مجلة «الجنان» عدة مقالات تحت عنوان «جواهر ياقوت في تاريخ بيروت». وقد عمد إبراهيم نعوم كنعان إبن شقيق داود، إلى إعادة نشر المقالات المذكورة وأضاف إليها جزءاً ثانياً عن بيروت بين سنتي 1871 و1922م ثم نشر الجزءان فـي كتاب «بيروت في التاريخ» معلّقاً على بعض الأماكن الجغرافية.

المهم فيما كتبه داود كنعان إشارته الى وجود سبيل في السوق الطويلة يعود إلى القرن العاشر الهجري بني لزاوية الأوزاعي ولزاوية إبن عراق وأن نص لوحة تأريخ السبيل كانت كما يلي «بسم الله الرحمن الرحيم. أنشأ هذا السبيل المبارك برسم الزاوية العمرية المعروفة بزاوية سيدنا ومولانا الشيخ الإمام العلّامة الشيخ عبد الرحمن الأوزاعي نفعنا الله ببركاته. أنشـــــــــأه (أي السبيل) لوجه الله تعالى أحد العمدة الشريفة من المرحوم مولانا السلطان سليم خان تغمّده الله برحمته. أنشأه أضعف العباد سليمان الصوباشي والكاتب ببيروت، تقبّل الله بإشارة الفقير إليه تعالى المستمدّ المدد من الشيخ الإمام العلّامة الشيخ محمد بن عراق تغمّده الله برحمته ونفعنا ببركاته. وعمّر هذا السبيل بإشارة الفقير السيد الجليل الشريف الشيخ عبد الرحيم المرابط بثغر بيروت تقبّل الله ونفعنا ببركاته بتاريخ ثامن شهر ذي القعدة الحرام سنة 935». الموافق 14 تموز سنة 1529 مسيحية.

ويستدل من هذا النص عدة أمور: فالسبيل أنشىء برسم الزاوية العمرية. وأن الزاوية العمرية معروفة بزاوية الإمام الأوزاعي، وأن إنشاء الزاوية بطلب من أحد عمدة السلطان سليـم خان (سليم الأول) وأنشأها الصوباشي والكاتب ببيروت بمدد من محمد بن عراق وبإشارة الشيخ عبد الرحيم المرابط بثغر بيروت. فيجمع تاريخ السبيل بين الأوزاعي ومحمد بن عراق والسلطان سليم والصوباشي في بيروت وعبد الرحيم المرابط فيها. وكل ذلك برسم الزاوية العمرية. والعمرية على اسم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد أشرنا في دراستنا لأول جامع عمّره المسلمون في بيروت بعد الفتح أنه سمّي بالجامع العمري (جامع البحر/ جامع الدباغة. زوايا بيروت) تيمّناً بالخليفة الراشد عمر بن الخطاب كما سمّيت عدة مساجد في المدن الإسلامية التي فتحت أيام خلافته باسمه.

ومما يلفت النظر أن إبراهيم كنعان علّق في هامش الصفحة 20 على لوحة السبيل. فقــــال «ان السبيل تحوّل الى زاوية الإمام الأوزاعي بعد أن كانت مياه الدركه (أي مياه بيروت المعروفة بالكراوية) تصل إليه بدواة جرى إلغاؤها والاستعاضة عنها بقساطل حديدية تجري بها مياه نهر الكلب». ويفهم من هذا التعليق أن المياه كانت تصل الى السبيل من مياه الدركاه أي أن هذه المياه الأخيرة كانت تؤخذ من رأس المعرض الى السوق الطويلة؟! أو أن مياه السبيل كانت تجمع في دواة (حوض) مأخوذ ماؤها من الدركاه؟ وذلك حتى وصول مياه نهر الكلب وجرّها إلى السوق الطويلة بعد سنة 1875م.

ونعتقد ان ثمة خطأ مطبعيا بحيث وردت لفظة دواة بدل «رُواة» ولعل المقصود بأخذ الماء من ماء الدركاه نقله بالروايا مفردتها راوية (كالقربة تجمع على رُواة) أي ان مياه الدركاه كانت تنقل بالقُرَب الى السبيل على طريقة السقائيين في نقل المياه.

ومما يؤسف له ان أحداً من الأثريين أو الذين كتبوا في تاريخ بيروت لم تلفت انتباههم الإشارة الى الشيخ السيد عبد الرحيم المرابط في بيروت والذي تبيّن انه هو من طلب نظم القصيدة ما يدل على انه كان من المرابطين الذين شهدوا المعركة.

ومن المؤسف له أيضاً أن يهمل القيّمون على التراث الإسلامي في بيروت تلك اللوحة المهمة في تاريخ المدينة فنأمل من القيّمين على مديرية الأوقاف الإسلامية العمل على تقصّي مصير اللوحة كي تكون أول أثر يضمّه متحف بيروت الإسلامي المقرّر انشاؤه. 

 * مؤرّخ