بيروت - لبنان

اخر الأخبار

15 آب 2020 12:00ص أيام بيروتية (32): مهاجرون إلى بيروت من القرم والبوسنة وكريت وبنغازي

جزيرة كريت جزيرة كريت
حجم الخط
من طبيعة الحروب في التاريخ أن تتخذ الذرائع المختلفة لشنّ الحرب لغرض سياسي أو اقتصادي حقيقي يتستّر بمظلة وشعارات دينية أو طائفية أو مذهبية وما ينتج عن الحرب من ويلات القتل والمجازر والتهجير والتدمير علماً بان بعض الحروب دامت سنوات وعقوداً بين كرّ وفرّ. ومنها الحرب على كريت التي منحت سنة 1913م لليونان وهاجر منها أربعماية وخمسون ألف مسلم الى مختلف الدول الإسلامية. ولم يكن غريباً أن يكون للبيارتة موقف مما كان يجري في محيطهم القريب والبعيد. وقد تمثل ذلك بما قاموا به في تاريخهم الحديث بدءاً من مساعدة الذين نزحوا من الجبل سنة 1860م الى بيروت هاربين من شرور الفتنة الطائفية، فقدّموا لهم المسكن والمأكل والإغاثة حسبما ذكرنا في مواضع سابقة. مروراً بمساعدة القادمين من القرم والبوسنة والهرسك سنتي 1877 و1878م وصولاً الى الليبيين والجزائريين والأرمن والفلسطينيين والسوريين.فصحّ قول الشاعر:

دمتِ يا بيروت يا ثغر العلاء

ملجأ الملهوف كهف الغرباء

****

خيام المهاجرين في رأس النبع وساحة القشلة

بعد تقدّم الروس في الروملي سنة 1878م هاجر كثيرون الى الاستانة ثم حضر منهم بالبابور (تعريب لكلمة vapeur) النمساوي 130 شخصا انزلوا في أحد الخانات وحضر بعدهم 800 انزلوا في الجوامع. وقام محمد اياس بتوزيع كميات من الخبز وعدة أذرع من الشيت والخام وما يقتضي لخياطتها من مقص وخيوط، وكان المهاجرون من البلغار والجركس وكان يموت منهم خمسة أشخاص يوميا مما يعانون من حر الشمس نهارا وبرد الشتاء ليلاً، وكان قد بلغ ما وصل منهم الى طرابلس اكثر من عشرة آلاف شخص.

أما المهاجرون الذين قدموا من البوسنة فقد حلّوا بخيامهم في محلة رأس النبع بالقرب من قبور اليهود. فيما حلّ أكثرهم في ساحة القشلة السراي الكبير وعانوا مما هطل عليهم من المطر، فتوجه ثلاثة من مؤسسي وأعضاء جمعية المقاصد وهم: محمود خرما وهاشم الجمال وطه النصولي، وطلبوا من المتصرف الأمر بإيوائهم في الأماكن التي لا تستعمل، فأمر مأمور الأبواب بأن يفتح لهم المخازن الفارغة فاشتغلوا بنقل المهاجرين طيلة الليل، كما جعل الشيخ عبد الهادي النصولي قسما من بيته لإيواء ضعفاء المهاجرين من النساء والأطفال.

يذكر ان 400 شخص من بنغازي جاءوا الى بيروت سنة 1892م بسبب المجاعة في بلدهم وأكثرهم من النساء والأطفال، وتألفت لجنة لإعانتهم جمعت عشرين ألف قرش، كما طبخ أهل بيروت أرزاً مع اللحم وزّعوه عليهم، كما طبخ لهم مثله حسن الحلبوني وتبرّع لكل منهم ببشلك وقطعة خام. فيما كلّفت لجنة الإعانة عمر الجندي بالسهر على توزيع حرامات صوف وألبسة عليهم ولا سيما الذين اتخذوا المصلى الواقع أمام ضريح حمدي باشا سكناً لهم، وجاء الأمر من نظارة الداخلية بإعطاء كل عاجز ستين بارة يوميا.

مقاطعة بضائع النمسا من الطرابيش والسكر

أعلنت النمسا سنة 1909م ضم البوسنة والهرسك فهبّ أهل بيروت وعلى رأسهم خليل عبد العال (والد المهندس إبراهيم) وأحمد آغا الشرقاوي بالدعوة لمقاطعة البضائع النمساوية ومقاطعة تفريغها في مرفأ بيروت ولا سيما السكر والطرابيش، وقام عدد من شباب بيروت بتمزيق طرابيشهم في الساحات العامة وارتداء القلبق صنع بورصة. فيما استعاض البعض بالعرقية اللباد، ولبّت عدة مدن نداء المقاطعة. حتى أن أحد السوريين أرسل سنة 1909م إلى عبد العال والشرقاوي كتاباً يشيد بما أبدياه من حمية وغيرة وقد صدّره بالموال الآتي:

رايات ننشر لكم في كل نادي وحيّ

يا أهل بيروت حيّاكم إلهي وحيّ

غيرة ونخوة شمايلكم وعفة وحيّ

ها قد كسبتو الثنا في برّها وبحار

شرقاو أثبت لها في همتّا وبحار

شجعان يوم اللقا للمعتدي وبحار

تكسب ثنا مع مدح كل ميت وحيّ.

يذكر ان الشيخ مصطفى الغلاييني كتب في حينه (عقب إعلان الدستور والانقلاب على عبد الحميد) محاورة بين الطربوش والقلبق يشير فيها «الى الحكومة الظالمة المستبدة الخ».

إعانة فقراء مسلمي جزيرة كريت

ولّى الخليفة العباسي الرشيد حميد بن معيوف سواحل الشام، فغزا سنة 190هـ جزيرة اقريطش (كريت) وأقيمت على شاطئ الجزيرة قاعدة للبحارة حولها خندق وعرفت عاصمة للجزيرة باسم كانديا وهي تحريف لكلمة خندق العربية.

يذكر أن سكان كريت ثاروا سنة 1877م مستغلين الحرب العثمانية - الروسية وطالبوا بإدخال تعديلات على النظام السياسي للجزيرة الصادر سنة 1868 الذي قسّمها الى خمسة أقسام أطلق على كل قسم منها «متصرفية» يحكمها متصرف وتنقسم المتصرفيات بدورها الى تسع عشرة وحدة إدارية. ويبدو أن هذا النظام كان متأثراً بنظام المتصرفية في جبل لبنان الذي أقرّ سنة 1864م.

وقد بدأت القلاقل في الجزيرة في سنة 1897م عندما أعلن يونانيو جزيرة كريت (كان البعض يكتبها كريد) الثورة وبدأت اليونان تمدّ أتباعها بالعتاد والرجال ومهاجمة الدولة العثمانية بوحدات فدائية ثم بالجيش النظامي، وأدّى تدخّل الدولة الأوروبية الى منح لكريت حكماً ذاتياً تحت حكم الأمير جورج اليوناني. أنشد أمير الشعراء أحمد شوقي مخاطباً السلطان عبد الحميد:

بسيفك يعلو الحق والحق أغلب

وينصر دين الله أيان تضربُ

وما السيف إلا آية الملك في الورى

ولا الأمر إلا للذي يتغلبُ

يشار الى انه غب إعلان الحرب نشرت جريدة «ثمرات الفنون» في نيسان 1897م تحت عنوان «إعانة فقراء المسلمين في كريت» خبراً يفيد افتتاح الجريدة إكتتاباً لجمع حسنات أولي البر والإحسان إعانة «إخواننا مسلمي جزيرة كريت الذين حصلوا بين أنياب الزمان ومخالبه وصلوا بنار حوادثه ونوائبه». وتألفت لجنة في بيروت برئاسة المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري وعهد بأمانة الصندوق الى الشيخ عبد القادر قباني وبأمانة السر الى حسن بك صبري وضمّت من الأعضاء أحمد قباني والشيخ رشيد الفاخوري وراشد بيهم والشيخ طه النصولي والشيخ عبد الكريم أبو النصر اليافي ومحمد اللبابيدي.

نشير الى أن انكلترا عملاً بقاعدتها القائلة بأن لكل شيء ثمناً، عرضت سنة 1897م على السلطان عبد الحميد شراء كريت بعشرة ملايين ليرة ذهبية فأجابها: نعم أننا مستعدون لبيعها ولكن بمثل الثمن الذي اشتريناها به وهو دماء الألوف المؤلفة من العثمانيين.

يذكر أن مجلس إدارة بيروت قرّر في كانون الأول 1897م فرض رسم قدره 40 بارة على كل رأس غنم و30 على كل رأس ماعز و120 على كل رأس البقر يذبح ويباع في بيروت إعانة لكريت. كما قررت بلدية بيروت جمع جلود الأغنام التي تذبح أضحية بعيد الأضحى لأجل بيعها وإرسال ثمنها إعانة الى فقراء كريت.

وبعد عزل السلطان عبد الحميد، إستغلت اليونان الوضع فشجّعت الكريتيين على الثورة وعلى ضم الجزيرة إليها. ما شكّل حملة مضادة في الأقاليم العثمانية، فكتب طه المدور في كانون الثاني 1909م مقالاً بعنوان «لا يمسّها إلا العثمانيون» جاء فيه «هي كريد أيها الشعب. نعم كريد التي تصيح الآن أنجدوني. والعجب من الملك جورج الذي غرّه ما لقيه من حسن القبول عند الدول الحامية للجزيرة وقد ظن أن إلحاق كريد باليونان هو أشبه شيء بضم البوسنة والهرسك الى النمسا...».

واستنكاراً لمحاولة ضم كريت إحتشد الأهالي وتلامذة المدارس العثمانية سنة 1910 بجوار قشلة العساكر (الدراغون) في ساحة البرج وحملوا أعلاماً كتب عليها «إما كريت وإما الموت» ثم ساروا منشدين في الشارع الجديد (شارع ويغان حالياً) الى القشلة العسكرية (السراية الكبيرة اليوم) فمحلة السور حيث توجه عدد منهم الى دائرة التلغراف فأرسلوا رسالة إحتجاجية وعادوا فساروا الى ساحة الإتحاد (البرج) فألقوا الخطب ثم توجهوا الى السراي الصغيرة حيث حيّاهم الوالي وأركان الولاية.

بقيت آثار المهاجرين في المدن التي هاجروا إليها، فاشتهرت في القاهرة أسرة الكريدلية التي أصبح بيتها أحد المعالم الأثرية. كما عرفت بيروت أسرة الكريدلي نسبة الى كريد علماً بان اللاحقة (لي) تدل على النسبة. كما عرفت أسر منسوبة بالصيغة نفسها الى جزر ومناطق في البلقان مثل أسرة الرودسلي (نسبة الى جزيرة رودس) وهذه الأسرة كانت سنة 1848م تملك بستاناَ في حي الكراوية قرب ساحة الدباس. والقبرصلي (نسبة الى قبرص) والقريملي والجركس والبوسنه لي (الى البوسنه) والمورلي (المورة) الخ.



* مؤرخ