كانت بلاد الشام أيام المماليك مقسّمة الى أقسام تسمّى نيابات، ويسمّى حاكم النيابة النائب والكافل. وكانت بيروت تابعة لنيابة دمشق وتعتبر ميناءها الرئيس وبقيت كذلك عند حلول العثمانيين محل المماليك. وكان مرفأ بيروت البوابة البحرية التي يدخل منها الأجنبي الى المدينة وينطلق منها الى داخل بر الشام. وكانت لأهالي المدينة واقعات عديدة عند تلك البوابة، نذكر منها في العصر الحديث هجمات الروس واليونان والانكليز والطليان وغيرهم بحيث يصحُّ القول: في كل وادٍ أثر من ثعلبة. وكان انحسار الهجمات العسكرية يتم لمصلحة الهجمات الاقتصادية، إذ بدأت الشركات والتجار الأجانب اهتمامهم منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر يتركز على مرفأ بيروت كمستودع لبضائعهم ونقطة إنطلاق للتوزيع على بلاد الشام. ويبدو ان النقطة التي يوجد بها المرفأ قد اعتمدت قديماً كميناء. ذكر صالح بن يحيى ان موقع المرفأ كان بين برجين، سمّي الأول بالفنار لصدور إنارة منه لهداية المراكب ليلاً. وسمّي الثاني بالسلسلة لوجود سلسلة حديدية مثبتة عنده تصل بينه وبين البرج الآخر سمّاه البعض (باب السلسلة)، وكانت السلسلة المذكورة تغطس في البحر نهاراً فيسمح للمراكب بالاقتراب من الشاطئ وترفع ليلاً أو بحالة الخطر من عدوان فتمنع المراكب من الدخول.
****
تعدّدت أسماء النقاط التي اعتبرت موانئ على طول الشاطئ الممتد من مصب نهر بيروت الى الأوزاعي وكان يقال لكل منها مينة (ميناء) منها مرفأ الغناس وميناء العقارب عند الكرنتينا وسمّي كذلك لكثرة العقارب في تلك المحلة كما سنفصل في محله. وميناء البصل وميناء البطيخ وميناء الخشب ومينة القمح وكلها نقاط لتفريغ البضائع المذكورة. وميناء الحسن الذي ينسب الى حصن قربه – علماً بأن هذا الميناء لا يرد في الوثائق الشرعية إلا بإسم ميناء الحُسن. أما المريسة فقد تكون تصغير مرسى أي المرسى الصغير. وفي شوران مينة الدالية. ازدهر مرفأ بيروت إثر حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام فأصبحت مخازن بيروت مليئة بالبضائع الأوروبية والأميركية، واتخذ التجار الأجانب والقناصل الطريق التي كانت تعرف بطريق الملاحين مركزاً لسكناهم ولممارسة التجارة وامتلأت المدينة بالسلع المختلفة أنواعاً ومصادر، وثبتت صحة مثلنا العامي القائل «رزق البحر بحر»، وقد سبق لمفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغر أن سبكه بقوله:
إن ترم يذهب عسرُعنك أو يأتيك يسرُ جاور البحر وأبشر إن رزق البحر بحر
كما سبكه أيضاً بقوله: سألوني من كثير رزقه يا ذا الأغر
قلت بحر العلم فاعلم ان رزق البحر بحر
تجديد الرصيف سنة 1864 بمعاونة حسن الكعكي
من جملة الاصلاحات التي نفذها محمود بك حاكم بيروت من قبل إبراهيم باشا تجديد رصيف المرفأ القديم إلا ان عاصفة قوية هدّمت الرصيف المشار إليه مما استدعى البحث بإقامة رصيف جديد (سنسول). وكانت الأمواج تكسر في كل سنة عدداً كبيراً من المراكب والقوارب في الميناء. فاهتم والي سورية بالأمر وكلّف ناظر رسومات بيروت (ناظر الجمارك) إبراهيم بك بمعاونة رئيس ميناء بيروت في حينه حسن الكعكي باتخاذ الاجراءات الضرورية لوقاية المراكب من سطوة الأمواج وإنقاذ أصحابها من الضرر، فأنشيء سنة 1864م حوض بجانب الجمرك وأقيمت بجانبه مخازن للتجار تكفل الحفاظ على أموالهم خلال وجودها في دائرة الجمرك. يذكر ان الغراندوق قسطنطين أمير روسيا زار بيروت في أيار سنة 1859م ورسى يخته بعيداً عن المرفأ وأظهر رئيس الميناء في حينه حسن الكعكي حمية وهمّة كبيرتين في مساعدة الأمير فقدّم لحسن هدية عبارة عن خاتم من البرلنت.
إلا ان المرفأ كان قليل العمق يستقبل المراكب الشراعية الصغيرة فقط وعند اقترابها من الشاطئ توضع عليها سقالات وهي عبارة عن ألواح خشبية تصل بينها وبين اليابسة فيعبر عليها المسافرون. أما السفن الكبيرة فكانت ترسو في عرض البحر ويتم نقل الركاب والبضائع الى الشاطئ بواسطة مراكب صغيرة. وكانت البواخر ترسو تجاه مرفأ المدينة صيفاً وتلجأ في الشتاء أثناء هبوب العواصف الى رأس الخضر أو مصب نهر بيروت. وفي أمثالنا العامية «اختلف الريح والبحر طلعت الفلّة بالمراكب»، وقد سبكه الشيخ أحمد الأغر أيضاً فقال: أخاف إن قام حربما بين خلٍّ وصاحبْ
فالريح والبحر لمّاتجاذبا بالمناكب
لم يعقد الصلح إلاعلى هلاك المراكب
وأما ما كان يصادفه الركاب من مضايقات النوتية (البحرية) وابتزازهم لهم أثناء نقلهم من البواخر الى الشاطئ ففيه الكثير من الطرائف التي سنبيّنها في محلها.
باشر مدحت باشا إثر تعيينه والياً على سورية ووصوله الى بيروت بدرس ما تحتاجه البلاد من إصلاحات في مختلف المجالي ورأى توجيه اهتمامه الى وجوب إنشاء مرفأ كبير. وساعده في جهوده صديقه إبراهيم فخري بك المعروف بفخري بك (وقد جعله بعضهم شخصين مختلفين) وكان مقرّباً منه وقد تولّى رئاسة مجلس بلدية بيروت وكان على درجة عالية من الثقافة ويتقن عدة لغات كما كان يتمتع بثقة الناس واحترامهم وله أيادٍ بيضاء على بيروت. وبهمّة مدحت باشا وسعي فخري بك عقد اجتماع في سراي بيروت برئاسة متصرف المدينة رائف أفندي (الذي كانت له اليد الطولى في تأسيس جمعية المقاصد) وبحضور أعضاء المجلس البلدي وتم التدارس في موضوع إنشاء المرسى وتوسيعه. وتقرر إنشاء المرسى من نقطة الشامية قرب خان أنطون بك ممتداً الى جهات بناية الخواجات مدور، كما تقرر تسليم التعليمات بشأنه الى الكونت دو برتوي على أن يأخذ هذا الأخير النفقات التي يدفعها لتخطيط رسم المرسى من الشركة التي قرروا العمل على إنشائها أو من بلدية بيروت. وقرر الرأي على ان نجاح المشروع يوجب إعادة النظر بأسواق بيروت القديمة وتوسيع بعض الطرق لتسهيل انتقال البضائع من المرفأ وإليه، فدرسوا إحداث طريقين واحدة من محل الكرنتينا القديمة غرب بيروت الى عصّور (السور ساحة رياض الصلح) والثانية من محل الرسومات (الجمرك) الى ساحة برج الكشاف (ساحة الشهداء) أو بأي شكل آخر نافع للبلدة ومفيد للعموم ومحسّن لأوضاع البلدة القديمة وإن كان في الحقيقة حصل نفعه لشركة المرفأ؟
وقدّرت كلفة المشروع في حينه بخمسة عشر ألف سهم، قيمة السهم الواحد عشرين ليرة عثمانية تدفع على أربعة أقساط فصلية متساوية. وفرضوا على أهالي بيروت المشاركة بألفين وخمسمائة سهم تأميناً للشركة فيما لو أصرّت على إشراك الأهالي. واكتتبوا بمبلغ خمسة عشر ألف ليرة وزّعت كما يلي: إبراهيم فخري بك 2000 ليرة. أسعد ملحمة 500 ليرة. محمد أياس 2000 ليرة. الخواجة بسترس 3000 ليرة. السادة بيهم 2000 ليرة. جرجس التويني 1000 ليرة. رعد وهاني 500 ليرة. الخواجات سرسق 3000 ليرة. نخلة مدور 500 ليرة. ويوحنا ابكاريوس 500 ليرة. وأرسل مشروع المرفأ الى ديوان الامتيازات العالي في الأستانة بعد تعديل يسير في لائحة البلدية. ورفعت أوراق التقرير الى الباب العالي وانتدب مجلس بلدية بيروت أنطون بك مصر لي أوغلي (أي ابن مصر) صاحب الخان المعروف باسمه من أجل ملاحقة المشروع في الآستانة. ويبدو ان نقل مدحت باشا من ولاية سورية ثم ما تبع ذلك من اتهامه بالاشتراك باغتيال السلطان عبد العزيز ومحاكمته ونفيه للطائف، ما جعل المشروع ينام في أدراج قصر يلدز.
تحويل امتياز المرفأ إلى شركة فرنسية وإستشارة البلطجي لتعيين الموقع
وبنتيجة الملاحقة صدرت إرادة سنية في شهر شوال 1304هـ/ حزيران 1887م بمنح امتياز إنشاء المرفأ الى يوسف أفندي المطران. وتضمن الامتياز عدة شروط على صاحبه التقيّد بها، منها جواز نقل الامتياز الى الغير وجواز مساهمة الأجانب فيه والحق بمد طريق تراموي في المرفأ وفي قلب البلدة تسهيلاً لنقل البضائع والركاب الى حق صاحب الامتياز بالأراضي التي ستطمر وتبلغ 250 ألف ذراع (وما أشبه الليلة بالبارحة) على أن يكون لأصحاب الأملاك المجاورة لها حق شراء قسم منها بالسعر المألوف أي الرائج خلال ستة أشهر من إعدادها. كما أعطي صاحب الامتياز حق إنشاء مخازن على شطوط المرفأ لخزن البضائع وحقه بإستيفاء رسوم على البضائع والحيوانات الصادرة والواردة من المدينة وإليها وكذلك على جميع المراكب الحربية والتجارية والشراعية. وقد حددت مدة الامتياز بستين سنة وألزم صاحبه بإيداع ضمانة نقدية قدرها ستة آلاف ليرة عثمانية في البنك العثماني بخلال ثلاثة أشهر من تاريخ صدور الامتياز. ويبدو ان صدور الامتياز باسم عثماني لم يكن إلا تفادياً من صدوره باسم شركة أجنبية. فلم تمر ثلاثة أشهر على منح الامتياز للسيد مطران حتى تمّت مقاولة بين هذا الأخير وبين شركة فرنسية فنقل الامتياز إليها بكافة الحقوق والموجبات بهمّة الكونت دو برتوي الذي سبق أن أخذ امتياز إنشاء طريق بيروت - دمشق سنة 1857م.
وكان خليل البلطجي يعمل مرشداً للسفن في مرفأ صيدا. وعندما التزمت الشركة الفرنسية إنشاء المرفأ وتوسيعه أشار فائق باشا التركي على الشركة بأن تستشير إبراهيم خليل البلطجي، وكان من رأي الشركة بناء المرفأ حيث فندق السان جورج في محلة ميناء الحسن (كان قبله محطب المدينة) وبعد أن شرح إبراهيم البلطجي العوائق الفنية التي تحول دون بناء المرفأ في تلك المحلة استقرّ الرأي على بنائه حيث هو الآن. وبعد خروج العثمانيين عيّن رضوان إبراهيم البلطجي مرشداً للسفن في عهـــــــد الجنرال ديغول وتمكن رضوان من إنفاذ ركاب عدة سفن منها الشامبوليون الذي جنح عند شاطئ الأوزاعي. وضرب به المثل في إرشاد الناس عند وقوعهم في متاهة فيقولون: صار بدنا بلطجي.
المرفأ لخدمة المدينة أو المدينة لخدمة الشركة?
لم تباشر الشركة الفرنسية عملها فعلاً إلا سنة 1893م فاتخذت كل ما تراه مناسباً لمصالحها مما أدّى الى تذمّر الأهالي واعتراضهم على بعض أعمالها. فقد حصل ان بعثت الشركة عمالها في شهر نيسان سنة 1894م لجرف قسم من جبانة الخارجة (خلف الريفولي) من جهتها الشمالية واتصل الخبر بمفتي المدينة الشيخ عبد الباسط الفاخوري فراجع الوالي عبد الخالق نصوحي بك بذلك الذي أصدر قراراً بتأليف لجنة من المفتي والحاج إبراهيم الطيارة (عضو المجلس البلدي) والحاج عبد اللطيف حمادة محاسبجي الأوقاف ومهندس الولاية ومهندس البلدية للنظر بما قامت به الشركة. وبعد الكشف وتقرير اللجنة أصدر الوالي أمره بمنع التعدّي المشار إليه. ونشأت في حينه معركة صحفية ضد أعمال الشركة قادها الشيخ عبد القادر قباني صاحب «ثمرات الفنون» ضد جريدة «البشير» المناصرة للشركة. وقد ذكر القباني ضمن تلك الحملة الى ان شركة المرفأ كانت تقيم سقيفة معقودة بالحجارة فوق البحر وفوق السقيفة دائرة لشركة المرفأ بحيث يمكن للزوارق أن تدخل ضمن السقيفة المشار إليها والتي كان لها مصعد من ضمن الدائرة المذكورة منبّها الى عدم جواز إخراج أغراض الشركة إلا من ضمن الجمرك. وقد توجه كثيرون لمشاهدة السقيفة فتبيّن انها مبنية على شكل مغارة فوق البحر يعلوها قسم من بناية إدارة المرفأ.
شركة المرفأ ومنشار السقالة
كان اعتقاد الأهالي بان شركة المرفأ ستأتي بالخير العميم. فلما بدأت بممارسة عملها بدأت الشكوى من الشركة ومأموريها وتعدّيهم الحدود في إستيفاء الرسوم فوق المقرر لها بموجب التعرفة. فقد ألزمت الشركة التجار بدفع 45 قرشاً على صندوق ضمنه علب من الورق والكرتون وزنه بحمولته 78 أقة دون إنزال وزن الصناديق في حين ان إدارة الجمرك كانت تستوفي رسوم الأشياء دون وزن الأخشاب والكرتون. كما احتكرت الشركة أرباح التحميل في جمرك بيروت وجنت أرباحاً طائلة فاضطرت الحكومة سنة 1894م بضغط من الأهالي الى منعها من ذلك. وكانت الشركة قد أطلقت على هذا الاحتكار «تدبير البضاعة» ويعني تحميل البضاعة داخل الجمرك واستلامها من الأرصفة وتسليمها عند باب الجمرك وبالعكس. وكان عرض الحال المقدم من الأهالي انه ليس لهم كسب من زراعة أو صناعة بل ان معاشهم الوحيد إنما هو مزاولة الأعمال التجارية، وقد بدأ الاقتصاد يضعف منذ أن كثرت الرسوم على صادرات السلع وأخذت التجارة بالتأخّر وتحوّلت الأشغال الى أشكال أخرى.
يذكر ان الرحالة الفرنسي دارفيو ذكر انه قبل إنشاء المنارة سنة 1820م لإرشاد السفن القادمة الى ميناء بيروت، كان يوجد رقيب قرب موقع المنارة يعطي إشارة السفن عند اقترابها من الشاطئ. ونشير هنا الى ان المحلة الواقعة على الشاطئ والممتدة من الحمام العسكري وفندق ريفييرا أطلق عليها في الوثائق الشرعية اسم محلة التحويلة. وقد أخذت هذا الاسم لأن السفن التي كانت تأتي الى مرفأ بيروت كان عليها عند وصولها الى تلك النقطة ورؤية ضوء المنارة أن تدير (تحوّل) دفتها يميناً لتصل الى المرفأ وكان على السفن المغادرة من مرفأ بيروت عند وصولها الى تلك النقطة أن تحوّل دفتها يساراً. وقد جنحت الباخرة شامبوليون عند شاطئ الأوزاعي لأن الربان لمح منارة المطار القديم فظنّها منارة التحويلة فحوّل دفة السفينة التي غرزت بالرمال. (وقد حكم في حينه بخطأ الدولة اللبنانية لأنها لم تبلغ غرفة الملاحة الدولية عن منارة المطار كي يبلّغ ذلك الى شركات الملاحة).
---------------
* مؤرخ