ولد الشيخ مصطفى بن محيي الدين بن مصطفى بن محمد نجا (1853 – 1932) في بيروت سنة 1269هـ ونشأ بها وأخذ عن علمائها، فقرأ القرآن الكريم على الحافظ الشيح حسين شومان وجوّده على الشيخ حسين موسى الأزهري.
وتعلّم الخط في مكتب الشيخ عبد الرحمن النحاس نقيب أشراف بيروت. وتلقّى العقائد عن العلّامة المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري. ودرس الحديث وأجيز به. كما قرأ على الشيخ يوسف الأسير والشيخ إبراهيم الأحدب والشيخ عمر الأنسي وغيرهم وأجازه محدث الديار الشامية الشيخ محمد بدر الدين الحسني. وأخذ سنة 1297هـ/ 1879م الطريقة الشاذلية عن الشيخ علي نور الدين اليشرطي الحسني التونسي نزيل عكا الذي أجازه بالإرشاد واستنابه عنه في بيروت.
كان الشيخ مصطفى نجا في العقد الثاني من عمره عندما توفي والده. وهو أكبر أشقائه وهــم عبد الرحيم ومحمد عمر وسليم ومحمد وعبد الغني وعبد المجيد. فاضطر إلى الإشتغال بالتجارة منذ سنة 1287هـ في مخزن والده بسوق العطارين مع متابعة إرتشاف العلوم.
ما سبق إنتخاب الشيخ مصطفى نجا لمنصـــــــب الإفتــــاء وما تبعه
في شهر نيسان 1905م توفي مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري. وما روي لي أن بعض العلماء المقرّبين من المفتي الراحل اقترحوا تعيين نسيبه الشيخ رشيد الفاخوري مفتياً محله. وأن هذا الإقتراح لم يلاقِ التوافق المطلوب، لأن آل بيهم كانوا يعملون لاختيار الشيخ أحمد عباس الأزهري لمنصب الإفتاء، وكانوا قد تكفلوا بنفقات متابعة الشيخ عباس الدراسة في الأزهر الشريف، ويبدو أنهم أرادوا بدعمه أن يجمعوا النفوذ الديني إلى جانب نفوذهم السياسي والإقتصادي.
وبقي منصب الإفتاء شاغراً حتى سنة 1909م. وبعدما هبّت رياح التغيير في مركز السلطنة بفعل الإنقلاب على السلطان عبد الحميد من قبل جمعية الإتحاد والترقي وقيام العهد الدستوري، شعر البيارتة بضرورة إختيار مفتٍ. ففي شهر آذار سنة 1909م، دعا الشيخ عبد الرحمن الحوت نقيب السادة الأشراف وناظر جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، العلماء للإجتماع في مدرسة الذكور الأولى في سوق البازركان التابعة لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، وذلك للمذاكرة في وظيفة الإفتاء في بيروت التي كان مضى عليها من أربع سنوات وهي خالية منه، فاجتمعت الأكثرية واتفقت الآراء على وجوب انتخاب مفتٍ، وترشح لذلك عدة علماء، واتفق الحاضرون على القبول بمن يحرز الأكثرية، ووقّعوا على العريضة التي تقدّم للولاية قبل الإنتخاب السري. فأحرز الأكثرية الأستاذ الشيخ أحمد عباس، وتقرر تقديم العريضة بذلك الى والي بيروت لرفعها إلى المشيخة الإسلامية في الأستانة. ولكن بعد يومين من ذلك الإجتماع، قدّمت عريضة ثانية للوالي موقّعاً عليها من كثير من العلماء والوجهاء يطلبون فيها إسناد منصب الإفتاء الى الشيخ مصطفى نجا.
وانتشرت بعد ذلك إشاعة تقول إن الشيخ محيي الدين الخياط سعى بتنظيم عريضة لإسناد منصب الإفتاء إلى الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة «المنار» وتلميذ الشيخ محمد عبده، ثم جرى نفيها بعد ذلك.
وبعد أسبوع نشرت الصحف شهادة نصها حرفياً «نحن الموقّعين أسماءنا أدناه نشهد بأن الأستاذ الشيخ عبد الرحمن الحوت أقرّ واعترف أمامنا بتاريخه أدناه أنه لما ذهب إلى بيت دولة الوالي نهار أمس الثلاثاء بناء على إلحاح الشيخ طه النصولي وسليم أفندي علي سلام، لم يقل لدولته بأنه حصل تلاعب أو غش في إنتخاب الشيخ أحمد أفندي عباس كما أشاعه بعض المفسدين لأغراض ذاتية، وإنما قال لدى دولته أنه قد سبق لي أن انتخبت الشيخ عباس أفندي، فلم يعد لائقاً بي أن أمضي بمعروض الشيخ مصطفى أفندي نجا كما طلب مني مراراً وتكراراً. وأن فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن أفندي ينكر كل إشاعة تخالف ما تقدّم، وبناء عليه قد حررنا هذه الشهادة ليعمل بها عند اللزوم في 25 شباط 1324 (مالية)» التواقيع: محمد مراد العريس، مصباح شبقلو، محمد توفيق خالد، مصطفى سعيد غندور، أحمد مختار بيهم، محمد عمر بيهم.
وفضلاً عن ذلك، فإن الأستاذ الشيخ عبد الرحمن الحوت بعد أن رفعت مضبطة أهل العلم بانتخاب الشيخ أحمد أفندي عباس، قدّم هو أيضاً لحضرة الوالي كتاباً تحت ختمه وإمضائه مع بعض أهل العلم والوجهاء، يثبت فيه ما جرى في الإنتخاب المذكور، ويلتمس من الوالي أن يسرع بالإنهاء إلى المشيخة الجليلة بذلك. وأن الكتاب موجود عند الوالي. وبعد ثلاثة أيام قرر مجلس إدارة الولاية إسناد منصب الإفتاء إلى الأستاذ الشيخ مصطفى نجا وأنهى ذلك تلغرافياً إلى المشيخة الإسلامية.
وذكرت جريدة الإتحاد العثماني أنها تلقّت رسالة بالإعتراض على قرار مجلس إدارة الولاية بإنهاء مسألة الإفتاء بلا امتحان، وأنها آثرت الصحيفة عدم نشرها لعدم فتح باب للقيل والقال، وحرصاً على الوئام والوفاق ودفعاً للنزاع والشقاق.
وبعد يومين ورد تلغراف من رضا الصلح أحد مبعوثي ولاية بيروت موجهة إلى سليم سلام وسليم البواب ومحمد الفاخوري بشأن إسناد منصب الإفتاء إلى حضرة الأستاذ الشيخ مصطفى نجا نصها: «تحرر تلغراف بتعيين مصطفى أفندي نجا لمنصب الإفتاء وعند ورود المضبطة يرسل المنشور. أبارك لكم. رضا».
وفي الثاني والعشرين من شهر آذار 1909م ازدانت الطريق المؤدّية إلى دارة المفتي في برج أبي حيدر بالأعلام والرايات، وركب المفتي منها عربة خصوصية فاخرة، وتلته مركبات كثيرة إلى الجامع العمري الكبير حيث كانت الفرقة الموسيقية بانتظاره أمام مخزنه، تصدح بأطيب الألحان. وبعد أداء الصلاة سار يحف به عدد من طلبة العلم تتقدمه الموسيقى العسكرية وسنجقان كبيران وتلامذة بعض المكاتب الإبتدائية ينشدون الأناشيد وكان يحيي الجماهير إلى أن بلغ دار الحكومة (السراي الصغير) في ساحة البرج، فخطب هو، وكذلك خطب عبد القادر الدنا والشيخ عبد الرحمن سلام والشيخ عبد الباسط الأنسي والشيخ رضا القباني. وعاد فضيلته بعد قراءة منشور الإفتاء، وركب عربته وإلى جانبه الشيخ رشيد الفاخوري وأمامه نفران من فرسان الضابطة ووراءه مثل ذلك وتلته المركبات الى داره العامرة حيث تلقّى التهاني. يذكر أن الحاج عبد الله الكبي (عم الدكتور جميل) الملقب بحامل السنجق استوقف العربة في ساحة البرج لتهنئة المفتي.
يذكر أن مجلس إدارة ولاية بيروت تلقّى بعد ذلك بعدة أشهر بلاغاً من المشيخة الإسلامية جاء فيه «أنه نظراً لكون المفتين من المأمورين الموظفين، فيلتزم أن يكونوا تابعين لأحكام قانون التنسيقات، ولما كان ترجيح أصحاب الكفاءة العلمية والقوة الحافظة البدنية على الذين تجاوز سنهم الحد القانوني، من الأمور الضرورية، فإذا أنهي بمضبطة بحق من ذكر، فإن مجلس الولاية ينظر بإيجابه توفيقاً بالإذن القانوني المخصوص وذلك بناء على إشعار لجنة الإصلاحات العلمية».
وفي شباط 1910م تلقت الولاية برقية من المشيخة الإسلامية العليا مؤداها «أنه بناء على طلب فريق من الأهالي ينبغي إجراء إمتحان المفتي في بيروت».
وفي آذار 1910م وردت برقية من مشيخة الإسلام تشتمل على عدة أمور تتعلق بالمفتي منها:
- التحقق عنه هل هو عالم وصاحب إجازة أم لا؟
- أسماء شيوخه الذين درس عليهم. والعلماء الذين قرأوا عليه وتخرّجوا عنه.
فأحالت الولاية البرقية إلى نائب الشرع الشريف (أي القاضي) وهذا الأخير طلب من المفتي أن يجيب عن الأسئلة المذكورة.
وبعد أيام ذكرت الصحيفة أن المفتي أجاب بأن الشيوخ محمود فرشوخ ورضا القباني ومحمود الشميطلي وحسن المدور قد تخرّجوا عليه وتلقّوا عنه. وعلّقت الصحيفة بعد ذلك قائلة «إن الحكومة إذا سجلت العلماء وجداول القرعة التي يذكر بها أسماء الشيوخ والطلبة تكون أحسنت صنعاً ومنعت مفسدة كبيرة في البلدة».
ترافقت هذه الأمور مع سوء تفاهم حصل بين بعض البيروتيين بسبب «الروزنامة الأهلية» التي أصدرها الشيخ أحمد طبارة، والتي كانت إحدى أوراقها تتضمن حكاية الديك والثعلب وخلاصتها أن الثعلب نادى الديك الواقف على الشجرة وطالبه بالنزول لأن الفرمان صدر بالأمان وأن الديك ردّ على الثعلب وطالبه بالإنتظار لحين وصول الكلب القادم من بعيد، فعندها أركن الثعلب للفرار بحجة للوضوء مجدداً. وذكرت صحيفة «الإتحاد» وهي صحيفة الشيخ أحمد طبارة بأن العامة لم تفرّق بين «الديك والدين» ولأن فرقة من أعداء الإصلاح سارت في السوق تصرخ «قد طار الدين» وفرقة ثانية تقول «قد أهانوا الدين» وثالثة تقول «قد شنعوا على أئمة الإسلام» ورابعة «قد أساءوا إلى المسلمين». وتجمهرت العامة في ساحة الخبز وسوق البازركان والشارع الجديد (أي الفشخة – ويغان) وأن جمهوراً كان يدخل إلى الجامع العمري ويخرج منه ويصعد إلى غرفة المفتي ( شمالي الجامع ) وينزل منها والمئات ينتظرون تحتها. ونسبت الصحيفة إلى عمر نجا (شقيق المفتي) وإلى الشيخ عبد الكريم أبو النصر قولهما أن الشيخ أحمد طبارة أهان الدين والإسلام معاً. وزعمت الصحيفة أن المفتي لم يصرف التجمهر من أمام محله وأن الشيخ رضا القباني كان من جملة محرّكي الفتنة. وقد راجع البعض أثناء ذلك الشيخ عبد الرحمن الحوت فأخبرهم بأنه ليس في الورقة ما يهين الدين وأنكر تجمهرهم أمام مكتب المفتي.
* مؤرخ