بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 تشرين الأول 2020 12:00ص أيام بيروتية (42) 1910 اعتبار ذكرى المولد النبوي الشريف من الأعياد الرسمية

حجم الخط
نُقل عن الشاعر الإنكليزي كبلنغ قوله بعد إنتهاء الحروب الصليبية: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقي التوأمان. ورغم ما قيل فقد أدّت الحروب الى إكتشاف الغرب الأوروبي للشرق المسلم. فقد وفد الى الشرق آلاف الأوروبيين، محاربين وتجاراً وباحثين، فاستقرّوا في مدن الشام وأصبح لكل جالية فندقاً ينزلون فيه وقنصلاً يلجأون إليه ومكاناً يؤدّون فيه صلاتهم. وتعرّف الغربي والشرقي على بعضهما البعض، وكانا في فترات الهدنة والصلح يتزاوران ويتبادلان الهدايا ويطلع كل منهما على عادات الآخر وتقاليده في الأعياد والمواسم والأفراح والأتراح، فيتسلل الى عادات كل منهم بعض مما عند الآخر، فيؤثّر فيه ويتأثّر به.

ترافقت الحروب الصليبية مع انتشار التصوف والطرق الصوفية. والتصوف علم بأصول يعرف بها صلاح القلب والجوارح بتجريد القلب عما سوى للّه والوقوف مع الآداب الشرعية ظاهراً وباطناً واتباع الشريعة بفعل المأمورات واجتناب المنهيات، والطريقة تتبع واتباع أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله. وركن التصوف يكمن في المحبة التي كررها بولس الرسول في الرسالة الأولى التي خاطب بها أهل كورنثوس. لم يرَ عمر فروخ بأساً أبداً في أن يكون الزهاد المسلمون قد تأثروا بالرهبان النصارى بعض التأثّر فالقرآن يمدح النصارى {... ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا النصارى ذلك ان فيهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون} (المائدة/82). ووجد الأمراء والسلاطين في الحركة الصوفية باباً لتدعيم حكمهم فبنوا المدارس والزوايا ووقفوا عليها الأوقاف العامرة وشجعوا شيوخ الطرق، فرَاجَ نوع جديد من الأدب تمثل في أشعار الصوفيين والموشحات والمدائح النبوية والإبتهالات، وشاع ما عرف بالتنزيلات الصوفية إذ عمد الصوفية إلى نظم قصائد على قدّ الألحان الشعبية الشائعة مما يسهل على المريدين حفظها وإنشادها، فساعدت الموسيقى على إنتشار الشعر الديني الذي يخاطب القلوب قبل العقول، نتيجة إباحة الصوفية للسماع وممارستهم له من خلال الذكر.

تاريخ الإحتفال بالمولد النبوي

يرجع تاريخ الإحتفال بالمولد النبوي الشريف الى مستهل القرن الخامس للهجرة أيام السلطان محمود الغزنوي ويستفاد من حوادث سنة 566هـ/ 1170م ان نور الدين محمود (زنكي) احتفل بالمولد، فقد جاء في حوادث تلك السنة انه كان بالموصل صالح يعرف بالملا عمر (سمّي كذلك لأنه كان يملأ الجص وينقله بأجرة يتقوّت بها) لا يملك شيئاً في حطام الدنيا، وكان ذا معرفة بأحكام القرآن والأحاديث النبوية، وكان العلماء والفقهاء والملوك والأمراء يزورونه في زاويته ويتبرّكون بهمّته ويتيمنون ببركته، وله كل سنة دعوى يحتفل بها في أيام مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر فيها صاحب الموصل ويحضر الشعراء وينشدون مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المحفل، وكان نور الدين من أخصّ محبّيه يستشيره ويكاتبه في أموره. واستمرت عادة الإحتفال بالمولد أيام حكم آل زنكي ثم الأيوبيين فالمماليك والعثمانيين. واتخذ الاحتفال بالمولد مظاهر مختلفة في البلاد الإسلامية. وعندما وصل السلطان سليم الى القاهرة مرَّت ذكرى المولد ولم يشعر به أحد وأشيع بان السلطان العثماني رأى الخيمة في القلعة فباعها الى المغاربة بأربعماية دينار فقطعوها قطعاً وباعوها للناس ستائر.

وبعد ثلاث سنوات من احتلال العثمانيين للشام، أقام نائب دمشق جان بردى الغزالي ذكرى المولد، فقرأ بركات بن الكيال الواعظ مولداً ثم أنشد المنشدون وذلك بحضور الأمير العثماني الحاكم على البلاد. وقيل ان عادة القيام عند ذكر وضع السيدة آمنة للنبي صلى الله عليه وسلم ظهرت في القرن الثامن الهجري في المسجد الأموي أثناء قراءة قصة المولد، فلما وصل المنشد الى البيت:

وان تنهض الأشراف عند سماعه

قياماً صفوفاً أو جثياً على الركب

قام الإمام السبكي وقام من معه فأصبحت عادة. وكانت تقام الزينات في الأحياء وتعلق السيوف والتروس وتخرج عراضات باتجاه الأموي للمشاركة بالإحتفال الرسمي. ثم تغيّر موعد القيام فإذا وصل القارئ الى الموضع الذي يشير فيه الى المخاض ويقول «ولد الرسول» وقف الحاضرون جميعاً وأنشدوا:

صلوا عليه وسلموا تسليماً

حتى تنالوا جنة ونعيماً

فالله يجزي من يصلي مرة

عشر ويسكن في الجنان مقيما

وكثيرة هي سير المولد النبوي أو قصة المولد منها مولد العروس المنسوب للإمام ابن الجوزي. والنظم البديع في مولد الشفيع نظم يوسف النبهاني ومولد من نظم مفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا ومولد المناوي لعبد الله ابن محمد المناوي. (نقوم بإعداد دراسة حول النصوص المختلفة لسير المولد النبوي الشريف). وأما قصة المولد التي شاعت في بيروت واعتمدها الناس في الذكرى وفي المناسبات، وعرفتها صغيرا وشابا، فهي التي نظمها الشيخ محمد أبو الوفا الرفاعي الحلبي (1765-1847م) وهو مولد شعري مطلعه:

أبتدي نظمي باسم الأحد 

مستدراً فيض سر المدد 

وبعد كل فقرة ينشد الحاضرون نشيدا من نغم البيات هو:

يا رسول الله يا سندي 

أنت بعد الله معتمدي 

فبدنياي وأخرتي

يا عظيم الجاه خذ بيدي 

لم يتبيّن لنا كيف احتفل البيارتة بعيد المولد النبوي قبل سنة 1860م أي قبل فتنة الجبل الطائفية والنزوح المسيحي من الجبل الى بيروت. ولم تتضمن دواوين شعراء بيروت إشارات بهذا المعنى وان وردت فيها قصائد يغلب عليها طابع ما كان يذكر في الزوايا الصوفية من أوراد وأناشيد وابتهالات ومواويل إضافة الى قصائد توسّلية. منها توسلية للشيخ أحمد البربير (ت 1812م) في أسماء القرآن كله مطلعها:

يا رب يا من فضله عميم

وهو بنا مع جهلنا رحيم

وللشيخ عبد اللطيف فتح الله (ت 1844م) قصيدة في مدح سيد الرسل بلغة «حمير» وقصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم متوسلاً ومتشفعاً بها وموشحاً ابتهالياً مناسباً للذكر. وقصيدة طويلة سمّاها «العقد» نظمها سنة 1821م توسّل فيها بسور القرآن وبالمعروف أسماؤهم من الأنبياء والمرسلين وبالآل والصحب والأئمة المجتهدين والأولياء والعارفين، أولها:

بدأت بسم الله في نظم ذا العقد

وأحمد ربي الله في أبلغ الحمد

ونظم الشيخ أحمد الأغرسنة 1819م موشحاً مطوّلاً على طريقة الأندلسيين مادحاً سيد الكائنات متشفعاً به. كما نظم أناشيد تنشد في الذكر منها واحد من مقام الرست على قدّ:

سلبت ليلى مني العقلا

قلت يا ليلى ارحمي القتلى

وما نعرفه من تقاليد الإحتفال بالمولد النبوي في بيروت يعود لما بعد سنة 1875م (أي بعد صدور صحيفة «ثمرات الفنون») ففي ذكرى المولد التي صاقبت سنة 1878م نوّرت منارات الجوامع وأطلقت المدافع من القشلة وتليت خطبة المولد في جامع النبي يحيى (العمري). وفي الذكرى سنة 1881م تكرر الإحتفال وذكر ان الأهالي حرقوا من البارود والنفط والفراقيع ما يعادل قيمة خمسماية ليرة «وانه لو صرف هذا المبلغ في سبيل فتح مدرسة داخلية لكان أجدى بالقبول عند النبي من إتلاف المال بدون فائدة».

وتكررت المراسم نفسها سنوات 1882 و1890 و1891م و1892 و1893م. وتكرر في سنة 1898م إطلاق عيارات نارية، فصدرت الأوامر للضابطة لمنع ذلك والقبض على المخالفين. أما كيفية الإحتفال العائلي فقد رواها الشيخ عبد الجواد القاياتي سنة 1882م بأن تنشر الدعوة للوجوه والأقارب لحضور كتب الكتّاب وسماع قراءة المولد في محل يفرشونه بالفرش الجميلة وينصبون للقارئ كرسي مسجّى بالحرير والكشمير ويبدأون بعشر من القرآن وبين كل فاصلة من القراءة ينشدون الأشعار النبوية والموشحات والأدوار على الطريقة القديمة التي كانت في مصر ثم يقدّمون قراطيس اللوز الملبس بالسكر ويدورون بالشربات.

الطابع التنظيمي الرسمي للاحتفال

وأخذت الإحتفالات منذ سنة 1910م تأخذ طابعاً تنظيمياً رسمياً. فقد تألفت سنتها لجنة للإحتفال بالمولد النبوي. وبعثت اللجنة برقية الى مجلس المبعوثان في اسطنبول لجعل العيد عيداً رسمياً تعطّل فيه الدواوين وتقفل المتاجر والدكاكين. فأرسل رضا بك رئيس مجلس المبعوثان برقية موجهة الى الشيخ عبد الحميد فاخوري ورفاقه من علماء بيروت جاء فيها «أخذنا تلغرافكم بيد الإمتنان المتضمن استكمال الوسائل لجعل يوم ولادة فخر الكائنات عليه أفضل الصلوات من الأعياد الرسمية... فقررت الحكومة ذلك...» وكان رضا بك الصلح قد أرسل الى بيروت برقية بموافقة الحكومة. وتقرر جعل ساحة مكتب الصنائع مركزاً للإحتفالات، وحددت المراسم كما يلي:

1) حض الأهالي على الزينة وتلاوة السيرة.

2) أطلاق المدافع بالأوقات الخمسة.

3) تزيين المساجد والمآذن.

4) تلاوة السيرة في المساجد.

5) عزف الموسيقى في الإحتفال.

5) الإستعانة بفضيلة جند.

6) معايدة رسمية في دار الحكومة.

7) تعطيل المنتديات والملاهي.

8) منع إطلاق العيارات النارية.

9) منع النساء عن الخروج لمحل الحفلة ومعاقبة المخالفة منهن. وعلى أن يثبت يوم المولد بحكم من القاضي الشرعي.

وكان برنامج الحفلة الرسمية الأولى تلك يتضمن تلاوة القرآن من شريف العريس وخطباً للمفتي الشيخ مصطفى نجا وللشيخ أحمد عباس الأزهري ومصباح محرم وعبد الرحمن سلام ومصطفى الغلاييني ومحيي الدين الخياط وقصيدة ينشدها الشيخ حسن الأنسي.

وأقيم في السنة التالية (1911م) احتفال مماثل بعيد المولد شارك فيه المسيحيون فنظم الشاعر حليم دموس قصيدة، وفي عيد لاحق نظم الشاعر القروي رشيد سليم الخوري:

عيد البرية عيد المولد النبوي

في المشرقين له والمغربين دويّ

فإن سألتم رسول الله تكرمة

فبلّغوه سلام الشـــــــاعر القروي

واستمر الإحتفال بالمولد رسمياً بعد إنتداب فرنسا على لبنان وكان يتم في الجامع العمري. وكان المفوض السامي يحضر الى قاعة الاستقبال الملحقة بالجامع لتهنئة المفتي والعلماء والوجهاء. وأسّس مداح الرسوم الشيخ عبد الغني الكوش «جمعية الإنشاد النبوي» مع رفاق كرام منهم: راضي شاكر وقاسم يموت والحاج عبد الرؤوف الكبي وعبد الله علم الدين وحسين يموت وناجي عباس.

وقد أدركت شخصياً لافتة كانت تُعلّق عند باب الجامع العمري الكبير عليها بيتان هما:

المسلمون ثلاثــــــة أعيادهم

الفطر والأضحى وعيد المولدِ

فإذا انقضت أفراحها فسروهم

لا ينقضـــــي أبداً بحب محمد

ودأبت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت على إحياء ذكرى المولد بتلاوة القرآن الكريم والسيرة النبوية وإنشاد القصائد، وتميّزت حفلة المولد سنة 1941م بإنشاد «سباعية الرسول» من نظم أحمد دمشقية وتلحين فليفل اخوان. فيما وقعت في احتفال سنة 1954م كارثة نتيجة تسلل النفط ما أدّى الى إصابة بعض الشباب بحريق.





* مؤرخ