بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 تشرين الثاني 2020 12:00ص أيام بيروتية (44) 1910 إضراب ومظاهرة بسبب حكاية الديك والثعلب

حجم الخط
في مجتمع متعدد العقائد والثقافات والأجناس، لم يكن من الصعب فيه مع غلبة الجهل وقلّة الفهم إثارة الفتن والشرور، وكان من السهل توسّل الدين واتهام أي شخص بإهانة الدين أو تحقيره لكي تلصق به تهمة الكفر وتثكله أمه وأخته وخالته وعمته. 

وكما أن النار هي من مستصغر الشرر كما قيل، فإن مسبة الدين التي سارت على بعض الألسنة كانت كافية لإثارة الفتنة والاقتتال، ما دعا الحكومة في بيروت في تموز سنة 1864م إلى إصدار بيان تقول فيه أنه «في جميع الأديان والمذاهب شتم الدين والناموس والتفوّه بالكلام المنافي للديانة والمخلّ بالآداب والإنسانية أمر حرام ومذموم، فقد سمع في هذه الأوقات البعض في مدينة بيروت دائماً يتفوّهون بالسب والشتم لذلك وجد لازماً فرض تأديب الذين يتجاسرون على الكلمات القبيحة المغايرة للشرع والقانون فبعد الآن إذا سمع أن أحداً تجاسر على السّب أو الشتم المخلّ في الدين والناموس ولو من أية طائفة كان، فيصير إجراء مجازاته المعينة قانوناً».

وفي حوادث سنة 1876م أن مسبة الدين كثرت في بيروت من كل إنسان بدون أدنى حرج حتى صارت تجري على الألسنة دون ردع ولا زجر. وفي سنة 1878م سرى شتم الدين من عموم الطوائف من الصغار الى الكبار بدون مبالاة ولا إنكار مع ما فيه من لزوم الردة عند المسلمين، وطالب الشيخ عبد القادر قباني بحبس الفاعل مدة أسبوع على الأقل، فقررت الحكومة فرض جزاء على شتم الدين لما يترتب عليه من نزاع يفضي الى الجراح. وفي سنة 1888م قررت الحكومة تأديب الفاعل بالحبس والتغريب مدة تقل عن ستة أشهر.

في سنة 1898م أوعز الوالي الى مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري والى نقيب الأشراف الشيخ عبد الرحمن النحاس ولكافة الرؤساء الروحيين في بيروت أن ينهوا ويردعوا بالتي هي أحسن من تقع منهم الشتائم وسباب الدين وأن يحثّوهم على التمسّك بآداب الدين ومقتضيات الإنسانية وأمر بالقبض على كل فاعل تمهيداً لمعاقبته.

وبدلاً من دعوة الآخر المخالف في الرأي الى التفكير، يسارع الفرد الى اتهام هذا الآخر بالكفر، وكثيراً ما يتم تسخير الدين لغايات شخصية أو سياسية، وقديماً قيل: الغرض مرض وصاحبه أعمى.

فإذا صاح أحدهم يا غيرة الدين، وجد من يتبعه ويصيح مثله بدون أدنى تفكير وأيسر تدبير، وغالباً ما يهدف الصياح والعويل الى الانتقام والثأر أو الى إخفاء الحقيقة المستمدة من مدلول كلمة الكفـــر، ففي اللغة كفر الرجل الشيء غطّاه وستره والكافر الزارع الذي يستر البذور في الأرض والكافر الذي ينكر نعمة الله ووجوده وهو المنافق وفي التنزيل «كزرع أعجب الكفار نباته» أي الزّراع. والكفر القرية الصغيرة (في لبنان عدة قرى تسبق اسمها كلمة كفر ككفرنبرخ وسلوان وشوبا وحمام وحيم ورمان وحباب وحتى وشيما وعقاب وصير وفافود وفالوس وقطرا ومشكى وغيرها). ومقابل الاتهام بالكفر وإهانة الدين نشأ حديثاً ما اصطلح على تسميته بالارهاب.

يذكر أن مركز إفتاء بيروت بقي بعد وفاة المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري سنة 1905م معطّلاً حتى سنة 1909م عندما جرت المساعي لانتخاب مفتٍ جديد وانقسم البيارتة بين مؤيّد للشيخ أحمد عباس الأزهري ومؤيّد للشيخ مصطفى نجا، ويبدو ان الشيخ أحمد حسن طبارة كان من مؤيّدي الشيخ عباس وكان ممن طالب عدة مرات على صفحات جريدته «الاتحاد العثماني» بوضع قواعد لاختيار المفتي كوجوب إجراء امتحان للمفتي الذي عليه أن يبينّ شيوخه وأساتذته وطلابه ومؤلفاته.

يذكر أن الشيخ أحمد حسن طبارة (أحد شهداء السادس من أيار 1916م) صاحب جريدة «الإتحاد العثماني» أصدر سنة 1910م «الروزنامة الأهلية» وكانت إحدى أوراق الروزنامة على جري العادة - ان ورقة يوم الأحد - كتب على ظهرها حكاية الديك والثعلب.

هناك مثل تركي يقول «كيم اوقو كيم دينلر» ومعناه: من يقرأ ومن يسمع! وأصله حكاية على لسان الذئب والثعلب خلاصتها أن الثعلب جاء يوماً إلى الذئب فقال له: أبشر يا أبا ذؤالة، إن رئيسنا ملك الغابة حفظته العناية قد أعطى أوامره السنية، وأصدر مرسوماً مبيحاً للذئاب افتراس الغنم. وقد أمر حرس الطرش - أي الكلب - أن يتناوم إذا جاء الذئب شفقة بأخيه الحيوان. فسرّ الذئب لهذا الخبر وهلّل وكبّر وقال للثعلب: هيا بنا إلى ذلك القطيع الأكبر، نأكل ما طاب لنا من النعاج السمان والغنم الحسان. وسار الثعلب وراء الذئب يضحك في عبّه، حتى إذا بلغا الطرش، أسرع الذئب وما كاد يختطف الحمل حتى عوت كلاب القطيع، ففزعت إليها كلاب الحي، وما زال هؤلاء وأولئك يتبعون الذئب، والثعلب ينهب الأرض، فصرخ الذئب بالثعلب قائلاً: ويلك يا أبا ثعالة اقرأ لهم الأوامر... اقرأ لهم المرسوم. فالتفت الثعلب إلى الذئب وقال: من يقرأ ومن يفهم!

أما حكاية الديك والثعلب ففي كتب التراث: ترافق ديك وكلب فأمسى عليهما المساء فطلع الديك على شجرة فنام في أعلاها ورقد الكلب تحتها. فلما كان وقت السحر صاح الديك على عادته فسمعه الثعلب فأقبل سريعاً فقال للديك: انزل حتى نصلي جماعة قال: نبّه الإمام. فقال الثعلب: وأين الإمام؟ قال: تراه نائماً خلف شجرة، فنظر فإذا بكلب كالأسد. فهرب الثعلب خوفاً منه فقال له الديك: تعال حتى نصلي جماعة فقال قد انتقض وضوئي، أتوضأ فأحضر. والحكاية موضوعة على لسان البهائم كما جرت عادة العلماء والحكماء. وأنها منقولة عن كتب أئمة الأدب من المسلمين مثل الدميري صاحب كتاب الحيوان، والابشيهي صاحب المستطرف من كل فن مستظرف وصاحب الكشكول وهي موجودة في مجاني الأدب وكتاب الحماسة غيرها.

اختيار مصطفى نجا للإفتاء

وبعد اختيار الشيخ مصطفى نجا للإفتاء وجد مؤيدوه فيما نشرته الروزنامة الأهلية فرصة للنيل من الشيخ أحمد طبارة، فلما صدر عدد 22/12/1910م من الجريدة عاد بائعو العدد صارخين بان الناس صادروا أعداد الجريدة وأنهم مجتمعون في الشارع الجديد (كان معروفاً بسوق الفشخة وهو الآن شارع ويغان) وفي ساحة الخبز يسبّون ويشتمون، وأسرع شقيق صاحب الجريدة يستطلع الخبر فتلقّاه بعضهم بالسب والشتم، فذهب وأخبر مدير البوليس الذي أنفذ عدداً من رجاله لتفريق الجمع والتحقيق، وذكر أن فلاناً الفوّال كان يخطب في ساحة الخبز شاتماً وأن آخر كان يسب في سوق العطارين ويهيّج العامة ضد الشيخ أحمد وان ثالثاً كان يقف في السوق وبيده ورقة من الروزنامة الأهلية ويقول: أنظر كيف ان الشيخ أحمد أهان الدين، وهجم رابع على الشيخ أحمد هامّاً بضربه فدفعه عنه محمود بيهم وهمّ خامس بإخراج السنجق من الجامع... وتوقفت اثر ذلك حركة التجارة في البلدة وامتنع الصيارفة عن العمل.

واتفقت الآراء على ان الاحتجاج لم يكن القصد منه الانتصار للدين بل هو انتقام من الشيخ أحمد طبارة وجناية على الدين فمتى كان الدين محتاجاً الى جماعة جهلة فسقة ينصرونه والناس تعرفهم وهم منغمسون في الرذائل والسفاهات، وكان للسيدين خليل عبد العال (والد المهندس إبراهيـم) وأحمد آغا الشرقاوي اليد البيضاء في إخماد الفتنة، كما ان نقيب الأشراف الشيخ عبد الرحمن الحوت (الذي سبق له أن أيّد الشيخ أحمد عباس لمنصب الإفتاء) عندما جاءت بعض العامة وسألوه عن رأيه في الورقة أجابهم أنه ليس فيها ما يهين الدين وأنكر عليهم تجمهرهم.

وقد كتب صاحب الجريدة والروزنامة بعد ذلك عن أثر الحادثة في نفوس العامة التـــي لا تفرّق بين «الديك والدين» قائلاً: من رأى طائفة من الناس تسير في الأرض صارخة قد طار الدين، وثانية تقول قد أهانوا الدين وثالثة قد شنعوا في أئمة الإسلام ورابعة قد أساءوا الى المسلمين أجمعين.. وأتهم الشيخ أحمد بأن محمد عمر نجا شقيق المفتي نجا والشيخ عبد الكريم أبو النصر والشيخ رضا القباني وغيرهم كانوا من المحرّضين الخ...

يذكر ان حكاية الديك والثعلب نشر رسم لها سنة 1929م يظهر نظرة الارتياب بين الثعلب الألماني والديك الفرنسي.



* مؤرخ