بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 تشرين الثاني 2020 12:00ص أيام بيروتية (45): هل باع إلياس وردة الميناء الفينيقي في ميناء الحسن إلى آل بسّول؟

سفينة «فينيقيا» سفينة «فينيقيا»
حجم الخط
 
 يستعيد الشعب في الأزمات أجمل الذكريات، وكلما اشتدّت المحن، عادت آلة الزمن إلى الماضي السحيق. ففي شهر تشرين من سنة 2010، عادت السفينة «فينيقيا» لترسو على شاطئ جزيرة أرواد بعد أن جابت شواطئ المتوسط وأفريقيا لأكثر من سنتين، قاطعة حوالي عشرين ألف ميل بحري، في إستعادة رمزية لجولة الفينيقيين حول العالم القديم، ناقلين الأبجدية وما تيسّر من بضائع الأرجوان. وفيما كانت السفينة ترسو في مستقرها، كان شاب من قرطاجة اكتشف هيكله سنة 1994 وأطلق عليه اسم «عريش» جرى ترميمه في فرنسا وأعيد رسم وجهه بفضل علم الأنتروبولوجيا الإحيائي، وعاد إلى تونس في أيلول 2010م وفي آذار 2011 إلى لبنان، أرض الفينيقيين لمعرض في الجامعة الأميركية.

****

ذكر الأب لويس شيخو ان اسم بيروت اشتق من الآرامية بروتا ومعناها السرو أو الصنوبر لوجود هذه الأشجار بجوار بيروت، وقيل سمّيت كذلك تذكاراً للآلهة الفينيقية عشتروت معبودة بيروت، وهو ما أورده فيلون الجبيلي أول مؤرّخ لفينيقية. وعشتروت هي إلهة العشق والجمال، وقد عرفها العرب بإسم الزهرة أو اللات، وعرفها الرومان بإسم فينوس. ولعل إضافة الحسن الى الميناء من خلفية هذا الجمال الذي وهبه الخالق لموقع هذا الميناء الفينيقي. وقال آخر بأن اسم بيروت اشتق من البئر لكثرة الآبار التي حفرها الأقدمون في أحيائها وضواحيها، وقد اكتشفت أخيراً في شارع بشارة الخوري - قرب جامع عثمان ذي النورين - بقايا القناة التي كانت تجر فيها مياه رأس النبع الى قلب المدينة. وفي عهد الرومان بالغ اغريبا الأول بتحسين بيروت، فبنى مسرحاً فخماً وملعباً للحيوانات وميداناً للمبارزات على شاطئ البحر قرب ميناء الحسن في موضع كان يعرف بخان الصاغـة، ما أضفى على محلة ميناء الحسن جمالاً وأهمية.

والأرض في بيروت تخرج أثقالها كلما جرت فيها حفريات، فبعدما كتبنا عن اكتشاف مقبرة الصحابة والتابعين في ساحة رياض الصلح، ظهر المرفأ الفينيقي الخارج من باطن الأرض في منطقة ميناء الحصن، كما أشارت مي عبود أبي عقل في نهار 8/4/2011. وقد نقلت عن الخبير هشام صايغ بأن موقع المرفأ كان على خليج بين رأسين فسمّيت المنطقة ميناء الحصن. وأن الباحثين اختلفوا في الأمر، فمن قائل ان المكتشف هو مقلع حجارة، فيما اعتبر ان الزلاقتين المنحوتتين في الصخر من منشآت مرفأ، مما يعتبر دليلاً على أهمية منطقة ميناء الحصن.

ونرجو أن تأتي التقارير والفحوصات الجديدة، بما يثبت اعتباره مرفأ فينيقياً يستأهل الحماية، ولا يكون مصيره كمصير المدينة الفينيقية أو التل الكبير الذي اكتشف في وسط بيروت.

ويبدو أن آثار الفينيقيين أجداد البيارتة، لا تزال تطفو من تحت الأرض، وتعلن هويتها تباعاً سواء في بيروت، أم فيما كان السكان في القرن التاسع عشر يتناقلونه عن الآثار الكائنة عند مدخل مغارة جعيتا والتي أشرنا إليها في مقال خاص.

مينة البليدة أو ميناء الحسن

أما عن محلة ميناء الحصن، فثمّة وقائع تعوزها الدقة من جهة، أو تتناقض مع الحقائق الثابتة ويقتضي تصحيحها من جهة ثانية. فقد تواضع المؤرخون على أن بيروت كانت تتسع من المتن إلى الدامور، وأنها كانت تضيق ضمن السور من ساحة البرج إلى ساحة عصور (رياض الصلح). وقد استدل صالح بن يحيى على كبر بيروت وسعتها، مما كان يجده الناس في أيامه في الحدائق بظاهرها، من الرخام وآثار العمائر القديمة، في مساحة طولها يقرب من ميلين، أوله مكان غربي البلدة ذكره المؤرخ المذكور بإسم «بليدة ودوقسية» إلى مكان يسمّى حقل القشا مقارب النهر شرقي البلدة (تاريخ بيروت). ولكن الشيخ طه الولي نقل عن الأب لويس شيخو، أن هذا الأخير لم يسمع للمكانين المشار إليهما ذكراً وأن أحداً لم يفده عنهما. ويشير الشيخ طه إلى أنهما قد يكونان في الموضع الذي اكتشفه الخبير «روفيه» على الساحل عند خلده، والذي كان يدعى لاذقية كنعان.

وقد اكتشفنا بمعرض تحضير كتابنا «منزول بيروت» وجود عدة وثائق شرعية تعود للسنوات 1260هـ و1262هـ و1279هـ و1282هـ وقد أثبتت حصول مبايعات على عقارات واقعة في ما أطلقت عليه الوثائق اسم «مزرعة البليدة» أو «مينة البليدي» أو محلة البليدة في مزرعة رأس بيروت. ففي 3 شوال سنة 1260هـ/ 1845م اشترى عبد القادر شبقلو من عبد الواحد الشيخ قطعة أرض مفرزة من بستان حسين نعمان «الواقع في مينة البليدي الشهيرة مينة الحسن التي هو تجاه البحر المالح بالقرب من محلة الزيتونة...».

وفي سنة 1264هـ/1848م اشترى أسعد بسول من عبد القادر شبقلو قطعة أرض من بستان بني نعمـــان (قد تكون هي ذاتها القطعة السابقة) «الكائنة بمزرعة بليدي عند مينة الحسن...».

وفي رمضان 1279هـ/1863م اشترى سلوم وإلياس وحنة بسول من إلياس فرنسيس صباغ وردة قطعة أرض بمشتملاتها كائنة في «مزرعة البليدة ضمن محلة رأس بيروت». ولعل هذه القطعة كانت أصلاً جزءاً من أرض المرفأ الفينيقي، والتي أنشأ عليها آل بسّول الفندق المعروف باسمهم، والذي بني في الطرف الغربي من خليج الميناء.

في سنة 1281هـ/ 1865م باع خليل ثمين وأشقاؤه «قطعة أرض مفرزة من بستانهم الكائن في محلة البليدة في مزرعة رأس بيروت...».

وهكذا فإن البليدة أو البليدي - بإمالة البيارتة - هي لغة تصغير بلدة، وقد تكون إحدى المدن العشر الصغيرة التي ذكر جغرافيو اليونان أنها كانت تتوسط بين بيروت وصيدا (شيخو ص.33) ومن الثابت أن مينة البليدة كانت منذ سنة 1844م على الأقل، شهيرة بمينة الحسن في الزيتونة.

أما ذوقسية التي أشار إليها صالح بن يحيى، فقد تكون محرّفة أو معرّبة عن اليونانية. ويقول المؤرخون إن بيروت خربت وحرقت سنة 140 ق.م. ثم عاد إليها أهلها وجدّدوها وأطلقوا عليها اسم «لاوذيقية فينيقية» أو اللاوذيقية التي لكنعان» ويقولون إن هذا التجديد تم في موقع قريب من نهر الغدير جنوباً، فيكون هذا الموقع هو أحد المدن العشر. وأصبحت لاوديقية اليونانية: دوقيه أو دوقسيه العربية عند صالح بن يحيى.

المرفأ الفينيقي في خليج بين رأسين

أما القول بأن المرفأ كان على خليج بين رأسين فصحيح، فالمخضرمون يذكرون وجود خليج داخل في البر عند فندق نورماندي بشكل هلال، وان الطريق التي كانت تصل بين فندق بسول غرباً ومقهى الحمراء (الملاصق لجبانة السنطية) ومقهى الحاج داود شرقاً، كانت ساحة رملية منخفضة وضيقة.

ووفقا لمشروع عزمي بك هدم الأبنية القديمة داخل بيروت بإشراف المهندس النمساوي دورفلر الذي كان يعمل في بلدية بيروت، تم اكتشاف القاعة الرومانية الواقعة تحت الجامع العمري الكبير (وقد أشرنا إليها في حينه)، أما قطعة الأرض الواقعة غربي الجامع (والتي بنيت عليها بناية اتخذ عارف حمزة مخزنا في الطبقة الأرضية منها لبيع أفخر أنواع أقمشة العرائس) فقد عثر أثناء حفر الأرض على أحجار ضخمة، نقلت بواسطة الكارات إلى الخليج المذكور، تجاه فندق النورماندي، حيث تم بواسطتها ردم البحر وتوسيع الطريق المشار إليها وتعليتها. ثم أقيم أيام الانتداب نصب الجندي المجهول أمام فندق نورماندي فيما عرف بجادة الفرنسيين.

أما عن تسمية المحلة بميناء الحصن، فنعتقد أن التسمية الأصلية هي ميناء الحسن (بضم الحاء) وليس الحصن، إذ لم يشر مرجع إلى وجود قلعة أو حصن مشرف على هذا الميناء، وما ذكر عن قلعة أو مرقب كان موقعه بعيداً عن المرفأ في التل الواقع إلى الأعلى من فندق فينيسيا. علماً بأن أية وثيقة من الوثائق المسجلة في محكمة بيروت الشرعية والتي تعود إلى سنة 1843م، لم تشر الى اسم الحصن، بل ذكرت كلها تقريبا كلمة «الحسن»» وهذا الوصف أكثر انطباقاً على موقع الميناء ومحيطه.

مدّ لربط السفن في الميناء الفينيقي

نميل إلى القول بأن الزلاقتين المنحوتتين في الصخر كانتا من منشآت المرفأ الفينيقي، وكانتا تستعملان لتسهيل نقل البضائع المعدّة للشحن إلى السفن، بحيث تعتبر الزلاقة كرصيف أو لسان ممتد في البحر.

ويرجح هذا الرأي ثبوت وجود عدة جسور في أماكن مختلفة من شاطئ محلة الزيتونة وميناء الحسن، وقد سميت هذه الجسور في الوثائق بكلمة «بونط» أو «بنض» من الفرنسية pont مع إشباع اللفظ، وقد أشار المعلم إبراهيم العورة إلى بنط أنشأه سليمان باشا سنة 1807م.

ففي سنة 1290هـ/ 1873م وقف إلياس نقولا فرج الله عقارات منها قطعة أرض كائنة في «زقاق الشامية التابع لمحلة ميناء الحسن خارج المدينة... والمشتملة على أحد عشر مخزناً وثلاثة دكاكين وبايكتين وبنط وكذلك تسعة قراريط فوق المخزنين اللذين على البنط لجهة البحر... شركة جرجس التويني..». 

وفي 29 رجب سنة 1305هـ/1888م جرى حصر تركة مصطفى الغندور، فكان منها «قطعة أرض في محلة ميناء الحسن خارج بيروت مشتملة على بنط وثلاثة مخازن ومنزل مُعدّ لعمل القهوة يحدّها قبلة طريق آخذ إلى رأس بيروت وشمالاً البحر وشرقاً قهوة نعيم أفندي محاسبة جي أوقاف بيروت... «وهذه القهوة هي التي صارت من أوقاف جمعية المقاصد وعرفت بقهوة الحمراء وكان موقعها على أحد رأسي الخليج.

وفي سنة 1273هـ/ 1856م اشترى أنطون بك من أرملة لوريلا طاحون نار كائنة في محلة الشامية خارج المدينة قرب شاطئ البحر تشتمل على «... البنض والعمار الذي في البحر أمام الطاحون...».

ولكي لا يقال بأن هذه الجسور قد تكون خشبية ومستحدثة لحاجات المؤسسات المنشأة قرب الشاطئ علماً بأنها كلها كانت واقعة في محلة ميناء الحسن، فقد فرّقت الوثائق بين الجسر والمد.

ففي 12 شوال سنة 1272هـ/ 1856م اشترى استليانوس اطناس من فاطمة حسين شانوحة قطعة أرض كائنة «في مزرعة الزيتونة بالقرب من مدّ السفن...» وفي آخر محرم سنة 1265هـ/ 1849م اشترى علي الخانجي الطرابلسي من نجم أبي خاطر قطعة أرض مفرزة من بستان بني منيمنه الكائن «بمزرعة القنطاري بالقرب من الزيتونة عند مدّ السفن... خارج المدينة».

مما يرجح أن يكون مدّ السفن هذا استعمل لربط السفن عند رسوها وحمايتها من العواصف بالإضافة الى الزلاقتين الحجريتين المكتشفتين. 

يذكر أن بيروت قسّمت بعد صدور نظام الولايات سنة 1864م الى أربع دوائر لكل منها رئيس وثمانية أعضاء ومختاران، من أجل انتخاب المجالس وإعطاء الإفادات الرسمية. وفي سنة 1880م وجّهت الدعوة الى الناخبين لانتخاب أعضاء المجلس البلدي. وحددت مدة الانتخاب بعشرة أيام، وكان يوم 11 تشرين موعد محلتي «ميناء الحسن» وجميزة يمين. وفي سنة 1893م جعلت المدة تسعة أيام كان يوم 10 حزيران مخصصاً لسكان محلات «ميناء الحسن» والدركه والتوبة. وعندما أريد تنظيم الأراضي بعد خروج إبراهيم باشا من بيروت جرى تقسيم المحلات إلى أثمان (على غرار أقسام القاهرة حيث وضع في كل ثمن أو قسم منها مخفر للشرطة، وغلب عليه مع الوقت لفظة قسم) فضم الثمن الرابع في بيروت المريسة وجميزة يمين و«ميناء الحسن» ورأس بيروت.

وبنتيجة أعمال التحديد والتحرير والمساحة التي جرت أيام الانتداب الفرنسي، جرى تغييب أسماء محلات بيروت القديمة الواقعة ضمن السور، فاختفت أسماء محلات الدباغة والشيخ رسلان والفاخورة والتوبة والغربية والشرقية والحمام الصغير والحدرة وكذلك محلة رجال الأربعين، وضمّت كلها في منطقة عقارية بإسم المرفأ.

أما محلة المريسة فقد سجلت في السجل العقاري بإسم عين المريسة، فيما بقي اسمها في دوائر النفوس «دار المريسة». واختفى اسما جميزة يمين ومزرعة القنطاري ووزعت أراضيهما بين محلات زقاق البلاط والمصيطبة وميناء الحسن، وتم في السجل العقاري تسمية المحلة ميناء الحصن بدل ميناء الحسن. 



* مؤرخ