استعار محمد علي باشا سيف ديموقليس ليُريَ منجّده حاله في السلطة كما روى شاكر الخوري. فبعد أن انتهى أحد المنجدين من تنجيد الفرش الخصوصية لمحمد علي، وضعها على السرير، وطلع وتسطّح عليها وقال: هنيئاً لك يا باشا على هذه النومة. وبالصدفة دخل محمد علي وسمع ما قيل، فنهض المنجّد وهو يرتعد من الخوف وأراد النزول عن الفرشة إلا ان الباشا أمره بأن يتسطح كما كان، وبدأ الرجل يرتعش عندما طلب محمد علي سيفاً، أخذ محمد علي السيف وعلّقه بخيط دقيق ووصله بسقف الناموسية ووجّه رأسه على قلب المنجد، وأمر بأن يهزّوا السرير، ثم سرّى عنه وأمره بأن يقوم وقال له: أنظر يا رجل حالة محمد علي في نومه فما عدت تحسده. وخرج المنجد وهو يردد في قرارة نفسه بيت المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها?
ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ
يذكر أن محمد علي باشا لم يكن يرتاح في نومه بل كان يتقلّب مراراً كحالة كل ذي سلطة بحيث يسقط اللحاف عنه، فكان يضع خادمين لأجل تغطيته ليلاً.
كان ديموقليس نديماً للملك ديونيسيوس ملك سيراكيوس في القرن الرابع قبل المسيح، وأخذ يوماً يمدح عيشة الأمراء الهنية وسعادة المتزلّفين المقرّبين إليهم وهناءهم، وسمعه الملك، فدعاه لتناول العشاء على مائدته، ولما جلس الى المائدة، رأى فوق رأسه مهنداً مسلولاً متدلياً من السقف ومربوطاً بشعرة. فأكل والرعب يملأ نفسه وهو يخشى في كل لحظة أن يقع السيف على عنقه. وهكذا أفهمه الملك بأن عيش الملوك والحكام غير هنيء وأن حياتهم متوقفة على شعرة.
شهدنا الناس تتهافت لنيل السلطة والتمتع بخيرات الحكم رغم المهالك التي يتعرّض لها العامل بإمرة الحاكم وينسون أو يتناسون الرواية الني ذكرها التنوخي، رواية عن قرّاد يجتمع إليه الناس وقد درّب قرده على تمثيلية معينة. فيقول له: تشتهي أن تكون بزازاً أو عطاراً. ويعدد له الصنائع... والقرد يومىء برأسه موافقاً حتى قال له في آخرها: تشتهي أن تكون وزيراً؟ فيومىء برأسه أن لا. ويعدو من بين يدي القرّاد. (ما أبعد الليلة عن البارحة).
في أدبيات البيارتة ان السلطان غدّار لا يؤتمن له كبحر شوران التي غرق فيه شباب من بيروت كانت أمهاتهم تقول: متل ما اخدتو جيبو يا بحر شوران، وشبّهوا القُرب من الحكام كسفينة في البحر ترجف دائماً من غضبه. ومن أجمل ما أنشد عن حال معاشر السلطان (الدول الكبرى) بيتان خمسهما الشاعر عمر الأنسي السقعان وهما:
جانب معاشرة الملوك لزينة
فلربّ داهية هناك كمينة
فالناس في الدنيا بكل سكينة
ومعاشر السلطان شبه سفينة
في البحر ترجف دائماً من خوفه
لو ترتجيه مأمناً من حيضها
لم ترتجف بشتائها وصيفها
لكنها اضطربت لشدّة خوفها
إن أدخلت من مائه في جوفها
يغتالها مع مائها في جوفه
وفي تاريخ الدول والخلفاء والسلاطين والولاة شواهد جمّة تظهر كيف قرّبوا وزراء وأدباء وكيف انقلبوا عليهم وكيف كانت أساليب معاقبتهم. قلّد الخليفة المقتدر بالله أبي الحسن بن الفرات الوزارة (والوزير من الأزر وهو الظهر لأن الملك يقوى بوزيره كقوة البدن بالظهر) وبعد ثلاث سنوات طلب الخليفة أن يعطيه من بيت المال ما يصرفه في نفقات خاصة فمنعه الوزير، فوجد أعداء الوزير الطريق الى الوقيعة به، فقبض عليه ونهبت داره ودور أولاده وسجن ثلاث سنوات ثم أعيد للوزارة مرة ثانية وردّ إليه ما سبق ان صودر منه، ثم سجن مرة ثانية، ثم أعيد للوزارة مرة ثالثة ولم يطل به الأمر فهوجم في داره وأخرج منها حاسراً وضرب بالدبوس ثم ضربت عنقه وألقيت جثته في نهر دجلة. تنبأ القاضي أحمد بن إسحاق بما حصل لابن الفرات، فقال له بعد وزارته الثالثة:
قل لهذا الوزير قول محقٍ
بثه النّصحَ أيّما إبثاثِ
قد تقلدتها مراراً ثلاثاً
وطلاق البنات عند الثلاثِ
روى أبو حيان التوحيدي عن الوزير الصاحب بن عباد أن هذا الأخير كان سيئ السياسة لصنائعه، وكان يعطي الإنسان عطيته ثم يبلوه بجفاء يتمنى معه لقطُ النوى من الطرق. وكان يقول لمن قدم عليه من أهل العلم: تقدّم يا أخي وتكلم واستأنس واقترح وانبسط ولا تخف ولا يخيفك هذا الخدم والحشم وهذه المجالس والطنافس فإن سلطان العلم فوق سلطان الولاية، وقل ما شئت فلست تجد إلا الإنصاف والإسعاف والمؤانسة والمقايسة، فإذا اطمأن ذلك الإنسان، تنمّر له وغضب عليه. وقال: يا غلام خذ بيد هذا الكلب الى الحبس وضعه فيه بعد أن تصبّ على كاهله وظهره وجنبه خمسمائة عصا فإنه كلب نبّاح متعجرف أعجبه صبري وغرّه حلمي. ذكر انه كلف يوماً كاتبه بتنظيم حسابه، فحرره وحمله إليه فأمرّ عينه فيه ثم رمى به إليه وقال: أهذا حساب. أهذا كتاب؟ أهذا تحرير ولولا أني قد ربّيتك في داري لأطعمتك هذه الصحيفة وجعلتك مثلة لكل شاهد وغائب، غيّر هذا الذي رفعته. فيأخذ الكاتب الحساب فيقدّم ويؤخّر ثم يردّه إليه، فينظر إليه ويقول: أحسنت.
سيف العقوبات الدولية أصدق أنباء من سيف ديموقليس
أنشد أبو تمام للمعتصم:
السيف أصدق أنباءً من الكتب
في حدّه الحدّ بين الجد واللعبِ
ولا يزال المخضرمون وتابعيهم يذكرون الحكواتي في مقاهي بيروت يردد بيتاً منسوباً لأبي الفوارس عنترة بن شداد:
وسيفي كان في الهيجا طبيباً
يداوي رأس من يشكو الصّداعا
وفي ذلك إشارة الى السيف كأداة قديمة من أدوات العقاب. وقد عرفت هذه الأداة لدى العديد من الشعوب والأقوام. ودخل مسرور الكبير سيّاف هارون الرشيد في الحافظة الشعبية من خلال ما روته شهرزاد للملك شهريار عن قيام مسرور الكبير بقطع رأس جعفر البرمكي بطلب من الرشيد (ولا نعلم لما سمّي بمسرور وما إذا كان يسرّ بقطع الرؤوس) وقد وصف بالكبير لوجود آخرين عرفوا بإسم مسرور منهم مسرور البلخي ومسرور ابن الوليد.
ولم يكن إعمال السيف في الرقاب على الغارب، فمما يذكره المقدسي في كتابه «الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية» انه لما ولّي نور الدين زنكي حكم الموصل أمر ان لا ينفذ شيء من قبل القضاة إلا بأمر من شيخ الموصل عمر الملا، فراجعوا رئيس العسكر وشكوا من كثرة أرباب الفساد فأحالهم الى عمر الملا الذي كتب الى نور الدين بأن المفسدين وقطاع الطريق قد كثروا ولا يردعهم إلا إعمال السيف... فقلب نور الدين الكتاب وكتب على ظهره «ان الله تعالى خلق الخلق وهو أعلم بمصلحتهم وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم وان مصلحتهم تحصل فيما شرعه على وجه الكمال فيها ولو علم ان على الشريعة زيادة في المصلحة لشرّعه فما لنا حاجة الى زيادة على ما شرّعه الله تعالى...».
يذكر ان المماليك ادخلوا القوانين التترية بجانب الشريعة الإسلامية وطبّقوا الأحكام التي وضعها جنكيز خان وسمّاها الياسة، حرّفها المصريون الى السياسة ونفذوا عقوبات قاسية مثل التنصيف أو التوسيط وذلك بقطع الشخص من عند بطنه، فيعرّى من الثياب ثم يربط الى خشبتين ويطرح على ظهر جمل ثم يأتي السيّاف فيضربه بقوة ضربة تقسم جسمه نصفين من وسطه. وقد تم سنة 1438م بأمر من السلطان المملوكي الأشرف برسباي توسيط طبيبين لأنهما فشلا في شفائه من مرضه ولم تنفع فيهما شفاعة أحد. وذكر المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي في كتابه «تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار» لجوء الولاة الى تقطيع الأعضاء. ونعتقد انه بقي من رواسب هذه العقوبة في الموروث الشعبي المصري ظاهرة تقطيع المقتول الى قطع انتقاماً حتى ان المرأة تدلل على خضوعها لحبيبها بقولها له «قطّعني حتت وارميني للكلاب...».
ذكر الشيخ أحمد البربير أن السكرات التي تعتري العقل خمس جُمعت في بيتين:
سكرات خمس إذا ابتلي المرء بها صار خلّة للزمان
سكرة المال والشبيبة والحب وسكر المدام والسلطان
وبما ان لكل عصر جرائمه وله كذلك عقوباته وبعدما أصبح السيف من أدوات لعبة السيف والترس ومن أدوات زينة الجدران أضحت الدول الكبرى تتدخّل في الأمور الداخلية للدول وتنصب سلطتها لا لتحقيق العدالة والدفاع عن حقوق الإنسان وحرية الأفراد والجماعات بل في سبيل مصالحها الخاصة فتتولّى التحقيق والاتهام والإدانة بما يلحق بالدول من أضرار وما يصيب سمعة الأشخاص من تشويه وأخذت تسوّد أوراقا بيضاء بمن تريد من الأسماء. وابتدعت عدة أنواع منها عقوبات اقتصادية ومنها عقوبات سياسية ووضعت عدة لوائح واحدة للإرهاب وأخرى للفساد وثالثة لتبييض الأموال، فمن لم يكتب في الواحدة ورد اسمه في الأخرى.
* مؤرخ