في الوقت الذي كانت المعارك حامية في جبهة جناق قلعة كان مشروع هدم المباني القديمة في بيروت يأخذ سبيله الى التنفيذ بمعول فضي تمّ به هدم أول مبنى من مباني وسط بيروت باحتفال كبير على وقع موسيقى فرقة مدرسة التعليم الإسلامية. أما الأثرياء الذين لم يتمكنوا من تملّك العقارات قبل إقرار المشروع، فقد تملّكوها بعد تنفيذه.
****
نشرت صحف بيروت في كانون الثاني (يناير) 1914م خبر رغبة بعض الأغنياء في بيروت بتأسيس شركة عقارية بيروتية تتولّى هدم الأبنية القديمة في بيروت وذلك من الميناء إلى سوق المنجدين (عند باب يعقوب) فعصّور (ساحة السور – رياض الصلح) فباب الدركاه (تجاه التياترو الكبير) فالميناء. والغاية من ذلك جعل بيروت بأسواقها وأبنيتها على نسق أوروبي مع توسيع الطرق وترتيب الأرصفة. وقد راجع مؤسسو الشركة والي بيروت بكر سامي بك الذي درس المشروع وقرر تأليف لجنة من أهالي المدينة لاستدانة ما يلزم من مال لتنفيذه (لسان الحال 7450 - 22/1/1914).
وكان بكر سامي بك قد تلقّى في الرابع عشر من شهر تشرين الأول (اكتوبر) 1914م برقية من نظارة الداخلية في الأستانة تتضمن إعلان السلطان محمد رشاد الجهاد المقدس على أعداء الدولة والخلافة. فاستغل بكر سامي بك نشوء الحرب العالمية الأولى واستحصل من الإدارة المركزية في الاستانة ومن مشيرية الشام بالموافقة على هدم الأسواق والأبنية القديمة.
وفي صباح الخميس الثامن من شهر نيسان (ابريل) 1915م نظمت بلدية بيروت احتفالاً حضره الوالي المذكور ورؤساء الأديان وكبار المأمورين والوجهاء أي الوجوه (جمع وجه) والأعيان (جمع عين)، وكانت البلدية قد أعدّت معولاً فضياً استعمله الوالي بهدم أول حجر من أول بناء برسم الهدم من أبنية سوق الحدادين (عرف هذا السوق فيما بعد بشارع اللنبي) وذلك وسط عزف فرقة موسيقى مدرسة التعليم الإسلامية التي كانت قد تأسست سنة 1910م لتعليم الأيتام وتقديم كسوة وكتب لهم وكان يرأسها الشيخ عبد الرحمن سلام (لبنان في التاريخ، كنعان ولبنان في الحرب الكبرى ص 152 و162 والإتحاد العثماني 449 آذار 1910م).
وكان أصحاب الأبنية قد أنذروا قبل المباشرة بالهدم لإخلائها بمهلة ثلاثة أيام. فجرى تنفيذاً لذلك إخلاء ماية وأربعين مخزناً وتسعين بيتاً دون أن يبدي أحد أية معارضة خوفاً من الأحكام العرفية العسكرية والعقوبات التي قد يتعرّض لها أي معارض. وتقرر أن يكون عرض الشوارع الجديدة عشرين متراً.
وكان الوالي المذكور قد ألّف لجنة بلدية لتخمين الأملاك الواقعة تحت الهدم وإعطاء أصحابها «وثائق» يصير دفعها غبّ انتهاء الحرب أي عند التيسير. (قارب مشرع إعادة اعمار وسط بيروت - سوليدير كشركة مغفلة استملكت منطقة كبيرة من بيروت وأصدرت أسهما بقيمة الأملاك، بالمشروع العثماني الذي استملك بعض العقارات لغاية توسيع الطرقات مقابل وثائق أي سندات على البلدية).
وفي التاسع عشر من شهر نيسان من السنة نفسها تمّ شق الشوارع التي أخذت فيما بعد أسماء فوش واللنبي وفخر الدين (شارع المصارف الحالي) بعد أن جرى استملاك ألفين وثلاثماية وستة وخمسين عقاراً جرى تخمين أثمانها بمبلغ 807390 ليرة عثمانية. وتمّ أيضاً هدم بقايا باب الدركاه وجامع الدركاه والحمام التركي والكنيسة المكوبيه وغيرها من أجل تخطيط شارع المعرض، نسبة للمعرض الفرنسي الذي أقيم فيما بعد في الشارع المذكور.
وفي أيلول (سبتمبر) من السنة نفسها ألّف الوالي نفسه لجنة من السادة عمر الداعوق وأنطوان عرب وحسن القاضي وكلّفها بوضع نماذج للدور الجديدة المنوي بناؤها.
ويبدو أن أعضاء اللجنة المذكورة أرادوا بعد انتهاء الحكم العثماني (بتشجيع من رجال الانتداب) إثبات الهوية التراثية العربية لبيروت فجاءت الأبنية الجديدة والتي لا تزال قائمة في شوارع فوش واللنبي وويغان والمعرض تنبيء عن هذه الهوية بما فيها من عقود ومقرنصات وقناطر وأعمدة وزخارف.
وكان الولاة الأتراك قبل بكر سامي بك قد سعوا بتوسيع بعض شـــــوارع المدينة ولا سيما سوق الفشخة أي الشارع الممتد من جامع الأمير منصور عساف (السراي) شرقاً وصولاً الى باب إدريس (وعرف بفشخة أبو عسكر يونس نقولا الجبيلي) وكان صاحب الدكان يعرض في الطريق المشار إليها أمام دكانه بضاعته فيضع سحاحيره وأولاده وحميره بحيث لا يبقى لعابر هذا السوق سوى فشخة. وفي سنة 1894م صار توسيع هذا الشارع وسمّي الشارع الجديد الى أن فرض الانتداب الفرنسي تسميته بشارع ويغان.
ولم يتمكن بكر سامي بك من إتمام المشروع فقد غادر بيروت في الثامن والعشرين من شهر حزيران (يونيو) 1915م وجاء خلفه عزمي بك في الأسبوع الأول من شهر تمــوز (يوليو) 1915م والياً على بيروت.
عزمي بك
وكان عزمي بك مثالاً للدقة والنظام في أعماله، فكان الناس يضبطون ساعاتهم على وقت مرور عربته بعد الظهر في طريقها الى دار الحكومة (كما نضبط ساعاتنا اليوم على مواعيد تقنين الكهرباء - تأمّل) ويعود الفضل لعزمي بك في تنفيذ مشروع إعادة اعمار بيروت وكانت له في بيروت آثار تُذكر فتُشكر.
كان عزمي بك صغيراً في جسمه، جباراً بإرادته، علّم الناس كيف يكون النظام وعلّم المأمورين كيف تكون الخدمة. وقد بلَغ من تشدده في الحفاظ على النظام أنه لم يكن أحد من الموظفين يجسر على التغيّب دقيقة عن ميعاد العمل، أو تعطيل أمر من أمور الإدارة (ما أبعد الليلة عن البارحة). روت جريدة المعرض في عددها الصادر في أول سنة 1927م أن محررها وصل عند الساعة الثامنة صباحاً الى دائرة محكمة التجارة فوجد الباش كاتب (لا نزال نقول لرئيس كتاب المحكمة باشكاتب أي رئيس الكتبة) مشغول البال يستعجل مباشر المحكمة لإحضار القزّاز لإصلاح لوح زجاج محطم؟ ولما سُئل الباشكاتب عن سبب اهتمامه أجاب: وغداً ماذا أقول للوالي عندما يمرّ من هنا مفتشاً الدوائر ويرى لوح الزجاج مكسوراً؟ وهو يمرّ كل يوم وفي ساعة لا يعرفها غيره وغير الله؟ وذكرت الصحيفة حادثة ثانية مؤدّاها أن عزمي بك كان قد أمرَ بالمحافظة على النظافة في السراي، وصادف ان أحد المتقاضين كان ماراً في الرواق وبصق في أحد الزوايا من غير انتباه ورآه الوالي فأخذه من أذنه واضطره الى أن يمسح البصقة عن الأرض بمنديله.
وعزمي بك هو الذي أشرف على بناء النادي الذي عرف بنادي عزمي بك، والذي اتخذه المفوض السامي بعد الانتداب الفرنسي قصراً له وعرف بقصر الصنوبر. ومن باحة مدخل هذا القصر أعلن الجنرال غورو في أول أيلول (سبتمبر) 1920م دولة لبنان الكبير بعد أن أجلس البطريرك عريضة إلى يمينه والمفتي مصطفى نجا إلى يساره، بعد أن كان المفتي ايام الحكم العثماني يجلس إلى يمين الوالي التركي.
كما ان عزمي بك هو الذي قلب القشلة الهمايونية (الثكنة العسكرية) وجعلها داراً للحكومة وفرشها بالأثاث الجميل الفخم وضم فيها دوائر الحكومة كلها وعرفت من يومها ولا تزال بالسراي الكبيرة.
يذكر ان عزمي بك وجد ان عدد مأموري الولاية لا يكفي لترقي الحالة الزراعية فيها، فقرر مجلس عمومي الولاية بطلب منه رصد ميزانية كبيرة للزراعة وكان من بنودها تأسيس مكتب زراعي في كل لواء من الوية الولاية. وابتاعت الولاية الأراضي اللازمة لهذه المكاتب. وقد افتتح عزمي بك سنة 1915م نموذجاً زراعياً وداراً للحليب في بيروت وحدّد لهذا المكتب 121 ألف غرش كمخصصات سنوية. ولما رأى تأخّر صناعة الألبان والأجبان في البلاد، أصدر أمره بافتتاح مكتب الألبان سنة 1916م إحياء لهذه الصناعة وترغيباً لأربابها، وتقرر قبول عشرين تلميذاً في كل عام يتعلمون على نفقة الحكومة، وعلى أن تتولى مديرية الزراعة في بيروت إدارة المؤسسات الزراعية والنظارة على مأموري الزراعة.
وثمة مأثرة من مآثر عزمي بك غفل عنها المؤرخون - من دون قصد حتماً؟ جديرة بالتنويه وتتمثل بما قام به من أجل تعليم الفتيات، فقد ذكرت عنبرة سلام الخالدي في ذكرياتها أن الأديبة التركية خالدة أديب استلمت سنة 1917م إدارة معهد المعلمات التي خّصص لهن دير راهبات الناصرة في الأشرفية. وأنها أي عنبرة تعرّفت على خالدة أديب في مجلس حضـــــــره جمال باشا الذي اقترح عليها أن تعلّم خالدة اللغة العربية على أن تعلّمها خالدة اللغة التركية، وأضافت عنبرة بأن والي بيروت عزمي بك شجّع تلك السنة (1917م) على إنشاء نادٍ اجتماعي للفتيات المسلمات وان هذا النادي افتتح فعلاً في الثالث والعشرين من شهر تموز (يوليو) سنة 1917م واتخذ له مقراً في قصر الخوري بزقاق البلاط وقام بعدة نشاطات ثقافية من محاضرات وندوات واستقبل أدباء وشعراء.
ولا بدّ من الإشارة الى أنه أثناء الحفريات التي قامت بها البلدية لتوسيع شوارع بيروت وهدم أبنيتها القديمة، عثر العمال والمهندسون على كثير من الأعمدة والتيجان والكتابات واللقى الأثرية والنقود القديمة التي سنشير إليها في محله.
وإذا كان الأغنياء لم ينجحوا قبل بدء المشروع بتأسيس شركة عقارية لتملّك الأبنية المطلوب هدمها، فإنهم عادوا وتملّكوها بطريقة غير مباشرة بعد الهدم، عندما عمدوا الى شراء الوثائق من حامليها وقاموا بدفع هذه الوثائق للبلدية لقاء تملّكهم قطع الأراضي الجديدة. (وأعاد التاريخ نفسه حديثاً؟).
ولا بد من الإشارة أخيراً الى أن عزمي بك كان قبل ولاية بيروت قد عيّن متصرفاً على طرابلس وكانت له فيها مشاريع تُذكر ليس أقلها الشارع المستقيم القديم الذي لا يزال يعرف بشارع عزمي، فقد كانت بلدية طرابلس أوفى له من غيرها، في حين أن بلدية بيروت أطلقت اسم عزمي على شارع فرعي صغير خلف مبنى البلدية ويكاد لا يلحظه أحد، وقد تقوم في مستقبل الأيام بإزالة اسمه؟
* مؤرخ