بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 تشرين الثاني 2019 12:03ص أيام بيروتية (5): قصف الأسطول الروسي سنة 1772م يُدخل الجزار إلى بيروت

أحمد باشا الجزار أحمد باشا الجزار
حجم الخط
للروس في تاريخ بيروت مواقف مشهورة ولا سيما في السنوات 1772 و1773 و1840 و1878، عاش قسطنطين بازيلي في سورية منذ سنة 1839م ثم عمل قنصلاً لروسيا في بيروت بين 1843 و1853م ووضع كتاباً بعنوان «سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني» أثناء قضائه صيف سنتي 1846 و1847م في دير مار إلياس في بلدة الشوير ضمّنه الكثير من الوقائع التي عرفها بصفته الرسمية أو عاشها في الواقع، ومنها ضرب الأسطول الروسي وحصاره لبيروت سنتي 1772 و1773م. نشأ نزاع روسي - عثماني بين سنتي 1768– 1777م حينما أرسلت الامبراطورة كاترين الثانية الأسطول الروسي بقيادة الكونت اورلوف من بحر البلطيق الى البحر المتوسط الدافئة تحقيقاً لحلم قديم منذ القيصر بطرس الأكبر. وسيطر الأسطول على الجزء الشرقي من البحر. (والمياه الدافئة مصطلح سياسي استعمل عند ذكر بحر الشرق الأوسط والخليج العربي والبحر الأحمر وبحر العرب وتردّد كثيراً أيام الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والغرب).

وفي أيام الإمبراطورة كاترين كان النزاع محتدماً بين ضاهر العمر الزيداني في الجليل وعلي بك الكبير بمصر وبين الولاة العثمانيين من جهة ثانية. فبعث علي بك الى اورلوف برسالة عبر هاكوب الارمني أعرب فيها عن رغبته بالتحالف مع امبراطورة روسيا لخوض الصراع ضد السلطان وعن استعداده لدعم أسطولها بالمؤن. فظهرت السفن الروسية قبالة ساحل صيدا وقصفتها ثم توجّهت السفن الى بيروت بقيادة الفريق ريزو وكانت مؤلفة من قسمين، يضم الأول فرقاطة مسلحة بعشرين مدفعاً وثلاثمائة وخمسين رجلاً منهم رماة قنابل وضباطهم، ويضم القسم الثاني فرقاطتين تحمل الأولى 16 مدفعاً والثانية 18 مدفعاً وسنبك ذي 14 مدفعاً.

علي سربيه يحمل رسالة البيارتة إلى والي الشام

ويبدو ان المنطقة الغربية من بيروت بقيت الى أمد طويل لا كثافة سكانية فيها وغير مجهّزة بسور أو بتحصينات، وتضم بساتين وبيوتا صغيرة متفرّقة وزاوية الشويخ القادرية التي تحوّلت فيما بعد الى جامع المجيدية وبقايا زاوية الإمام الأوزاعي.

ففي ليل العاشر من حزيران 1772م أبحرت سفن الأسطول باتجاه بيروت. وفي الثامن عشر منه تجمّعت إحدى عشرة سفينة في عرض البحر تجاه بيروت وأخذت، وفقاً لتقرير قنصل فرنسا في صيدا الشيفاليه دي توليس «تقصف المدينة بلا هوادة حتى الثالث والعشرين من الشهر المذكور ثم قامت بإنزال جنودها فدخلوا المدينة وراحوا ينهبون البيوت ويسلبون كل ما في أسواق المدينة من بضائع ويذبحون دون تمييز كل الذين لم يسعفهم الحظ من النجاة منها بسرعة من الرجال والنساء والأطفال». وأمضى الجنود ليل 23/24 حزيران في المدينة وفي اليوم التالي عند السابعة مساء أخذ حوالى ألف من أهل المدينة وجوارها يطرقون على الأبواب ويطلقون صيحات مريعة ويتراكضون محدثين ضجة كبيرة جعلت المحتلين يرتعبون ويسرعون هاربين على سفنهم تاركين كمية كبيرة من أسلابهم.

وأرسل علي بك مركباً الى اورلوف حمل فيه ثلاثة أحصنة وعجلاً وثلاث صرر واحدة للكونت اورلوف والثانية للامبراطورة كاترين والثالثة لأحد وزرائها. وتم الاتفاق بين ربابنة الاسطول الروسي وأعيان بيروت والأمير يوسف على انسحاب السفن لقاء ثلاثة أحمال ونصف من الحرير قيمتها 14 كيساً (الكيس يساوي 500 قرش) والمعروف عند العامة بكيس الخمسماية.

أما عبد الله طراد البيروتي، المعاصر لتلك الأحداث والشاهد العيان، فقد روى في كتابه «مختصر تاريخ الأساقفة الذين رقوا مرتبة رئاسة الكهنوت الجليلة في مدينة بيروت» بعض تلك الوقائع. ومنها ان مسلمي بيروت تهيّأوا وأطلقوا عليهم المدافع من القلعة ومن برج الميناء ووضعوا مدفعين حول المدينة لأنه لم يكن لها سور منيع ولا أبراج محصنة. ويضيف طراد بأن العساكر نزلت الى البر ونشبت معركة مع أهالي البلدة الذين كانوا عملوا عند باب السنطية سوراً من بداري (البدرة جمعها بدر وهي كيس كبير فيه عشرة آلاف درهم كان يعطى مكافأة للشعراء وغيرهم) مملوءة رملاً، كما ملأوا الصناديق بالرمل وجعلوها متاريس. ويضيف بأن العسكر دخل البلد ليلاً أولاً الى قيسارية الأمير يوسف بالميناء ونهبوها ونهبوا كذلك قيسارية الصاغة كما نهبوا بيوت الأهالي المجاورة لها ثم «قويت عليهم اسلام البلد وهزموهم لمراكبهم» وقد تهدّم نتيجة تلك الحملة قسم من خان الملاحة الذي بناه الأمير ملحم شهاب.

أما رأس البلد (أي البعيد عن الشاطئ) فقد حمته (حماه) المسلمين (المسلمون) «دفعت هذه الحملة أعيان بيروت الى عمل عرض حال لوالي الشام لإبلاغه بتوقعهم حضور المراكب مرة ثانية ونهب البلدة مجدداً» وأن «البلد داشرة من غير سور ولا حصارات ولا محافظ» والتمسوا إرسال عسكر محافظ للبلدة وارسلوا العرض حال مع أحد وجهاء بيروت السيد «علي سربيه» (يذكر ان أسرة سربيه البيروتية أنجبت الفنان المشهور إبراهيم سربيه الذي خلّد بلوحته الجميلة زيارة امبراطور ألمانيا غليوم الثاني الى بيروت سنة 1898).

يذكر ان الأمير منصور كان أثناء حملة الأسطول الروسي قاطنا في بيروت وكان قد تنازل عن الحكم لابن أخيه الأمير يوسف، فلما وصلت المراكب الروسية هرب الأمير منصور من بيروت مع بعض أقربائه ثم أرسل مبلغ خمسة عشر ألف قرش للقبطان الروسي لقاء حملته على بيروت على غرار ما يجري في هذه الأيام بين الدول العظمى والدول الصغيرة فقام مع مراكبه من بيروت.

أحمد باشا الجزار يتسلّم بيروت

وهنا بدأ دور أحمد باشا الجزار، وأصله من البشناق من مدينة البوسنة حضر الى مصر ولبس لباس المماليك وخدم عدة أسياد قتل آخرهم وأراد الانتقام من قتلة سيده فقبض على القتلة وأرسل رؤوسهم الى القاهرة فلقبوه بأحمد الجزار أي القاطع. وكان للجزار صديق تآمر عليه أبو الذهب وقتله وطلب من الجزار الذي حضر الواقعة أن يريه سيفه قصد قتله هو أيضاً فأجابه ان سيفي لا يخرج من غمده إلا ليدمي. وغادر الاسكندرية الى القسطنطينية حيث لقي التفاتا فسار الى حلب وبدأ يجول في بر الشام عندما كان حاكمها عثمان باشا الكرجي وفي تلك الأثناء حضر الأمير يوسف الشهابي لعند عثمان باشا فأكرمه وولّاه على الجبل مكان عمه الأمير منصور وحضر الجزار الى بيروت سنة 1184هـ/1770م وتجوّل فيها وتفقّد أحوالها ثم توجه الى دير القمر فاستقبله الأمير يوسف وأكرمه ولبث عنه عدة أيام عاد بعدها الى بيروت (التي بقيت من يومها في خاطره) وتوجه منها الى دمشق. وكن قد تولّى عليها عثمان باشا المصري فسيّر حملة لاسترداد صيدا من ضاهر العمر في الوقت الذي حضرت فيه مراكب روسية إليها وسارت منها الى بيروت كما ذكرنا أعلاه.

وكان الأمير يوسف قد أخبر والي الشام عثمان باشا بحضور المراكب الى بيروت وما سببته للمدينة من أضرار وما نهبته من أسواقها وبيوتها فأرسل عثمان باشا أحمد باشا الجزار الى بيروت ومعه حوالى ثلاثمائة عسكري مغاربة ولدى وصول الجزار الى ميان البلشة قرب بيروت عمد أحد المغاربة الملقّب بأبي عقلين الى إطلاق النار عليه فأصابه في كتفه ولم يمت وقيل في حينه ان ذلك كان بتدبير وإيعاز من الأمير منصور.

وعند حضور الجزار الى بيروت كان فيها عثمان باشا المصري الذي أقام فيها مدة ثم عزم على الرجوع الى دمشق بعد أن اطمأن على المدينة بوجود الجزار. وقيل ان الأمير منصور حذّر ابن شقيقه الأمير يوسف من خطر بقاء الجزار في بيروت ونصحه بضرورة رحيله مع عثمان باشا فلم يقبل نصيحة عمه.

ومن ذلك اليوم أمكن القول بان حكم الأمير يوسف والأمراء الشهابيين على بيروت انتهى الى غير رجعة.

فقد تسلّم الجزار المدينة على أن يضبط مداخيلها لحساب الأمير يوسف ولما يتوجب للعسكر على أن تجري المحاسبة شهرياً. ونودي في البلدة بأن الجزار مكلّف من طرف الأمير وان على الجميع أن يطيع أوامره. إلا ان الجزار لم يرسل أي مبلغ للأمير كما خدمه السعد بحضور مراكب شراعية تحمل نقوداً وأغذية لأهالي بيروت والشام وضبطها فبلغت ثمانمائة كيس سلّمها لأصحابها من المسلمين والمسيحيين.

ثم أخذ الجزار ببناء سور المدينة وأبراجها وتحصينها وأحضر أسلحة و مدافع من أرواد وغيرها.

* مؤرّخ