بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 أيلول 2020 12:00ص أيام بيروتية (6 3): 1913م المؤتمر العربي الأول في باريس

زكريا طبارة ... أبو بكر حازم بك زكريا طبارة ... أبو بكر حازم بك
حجم الخط
في 18 حزيران سنة 1913م عقد في باريس ما عرف بالمؤتمر العربي الأول وقد طبعت محاضر جلساته والخطب التي ألقيت من المشاركين فيه وبياناته في كتاب أصدرته سنة 1913 مطبعة البوسفور بالقاهرة، وأعادت وزارة الثقافة في سورية طبعه سنة 1996 فلا نرى ضرورة لتلخيص ما ورد في الكتاب ونسبه إلينا. وقد اعتاد بعض الذين يكتبون في التاريخ ويعتبرون أنفسهم من المؤرخين، اعتاد على سرد الوقائع والأسماء دون تعليل أو تحليل كما يوجب علم التاريخ.

من المتفق عليه أن والي بيروت أيام حكم حزب الائتلاف شجّع عدداً من الشخصيات البيروتية على تأليف جمعية الإصلاح العام في ولاية بيروت ورعى اجتماعاتها بهدف العمل على التطوير والإصلاح. فأصدرت الجمعية نشرة سمّيت «اليقظة» (Reveil) وأسست نادياً في باب ادريس سمّي «نادي الاصلاح». وبعد الانقلاب الذي قام به حزب الاتحاد والترقي واستلامه السلطة وتأليف حكومة اتحادية متشددة، عمد الوالي الجديد الى حل الجمعية وإقفال ناديها وملاحقة بعض أعضائها والقبض على آخرين. وإذا كان المؤرخون قد اكتفوا من تاريخ تلك الحقبة بذكر الوقائع والأسماء، فإن التاريخ الحقيقي أهمل رأي الشعب الذي عبّر بعفوية عما يجول في خاطره وكان قادراً بحسّه وفطرته على التمييز بين الغث والسمين.

يذكر ان جمعية بيروت الإصلاحية أو جمعية الإصلاح العام في ولاية بيروت تألفت من ست وثمانين شخصية (42 من كل من المسلمين والمسيحيين و2 من اليهود، وكان من المسيحيين 16 من الأرثوذكس (رغم تساءل البعض؟) وصفوا بأنهم وجوه (جمع وجه) وأعيان (جمع عين) يذكر أن أنظمة التجارة العثمانية عرفت شركة سمّيت شركة الوجوه، وهي شركة لا تحتاج الى رأسمال لأن الثقة في وجوهها هي رأسمالها - كذا. ويصدق في بعضهم رأي مفتي بيروت الشيخ عبد اللطيف فتح الله:

ان تصير سيداً وجيه أناسٍ/ فأنت في نفعهم تعدّ نبيها 

كل قومٍ وجيههم لم يُعنهم/ فوجيه أن لا يكون وجيها

ونسارع الى القول بانه لم يثبت بعض الذين شاركوا في الجمعية الاصلاحية - كي لا نقول الكل - أن أحداً من أجدادهم كان منسوباً لأهل البيت سواء من السادة أم من الأشراف. أو انه ينحدر من نسل أحد الصحابة الكرام، أو من التابعين أو حتى من تابعي التابعين. ولم يزعم واحد بأن جده الأعلى شارك في الحرب ضد الصليبيين دفاعاً عن سواحل الشام المحروسة ولا سيما ثغر بيروت المأنوسة. أو انه ينتمي الى احدى العائلات السبع البيروتية، وإنما كان شرفهم في أعمالهم كما قال إبن الوردي في لاميته: لا تقل أصلي وفصلي أبداً / إنما أصل الفتى ما قد حصل

أو كما قال أبو فراس الحمداني:

ما بقومي فخرتُ بل فخروا بي

وبنفسي علوْتُ لا بجدودي

أو كما قال المفتي فتح الله:

ما صيّر المرء في قومٍ أخا شرفٍ 

الا انتفاع به في الجاه والكرمِ

والمتتبع لحركة التاريخ يدرك صحة القاعدة التي تقول ان كل شيء نسبي، فالذين حوكموا وشنقوا سنتي 1915 و1916م اعتبروا خونة في ظل الحكم العثماني، وهم نفسهم الذين اعتبروا فيما بعد شهداء بقوة الإنتداب الفرنسي، فلا يفخرنّ أحدٌ على أحد.

مع الملاحظة بأن وجهاء العهد العثماني كانوا أنفسهم وجهاء عهد الانتداب ووجهاء عهد الاستقلال.

حدس القاعدة الشعبية في بيروت وتخوّفها من نغمة الإصلاح

ومن مراجعة آراء القاعدة الشعبية في بيروت ومواقفها قبل انعقاد المؤتمر وبعده، يظهر كم كان الوعي الشعبي العفوي المبكر في ذلك الزمن لمّاحاً.

ففي سنة 1908م وإثر الانقلاب على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، خرجت مظاهرة في بيروت مؤيدة للانقلابيين ومطالبة بسقوط عبد القادر الدنا رئيس مجلس بلدية بيروت الذي لعب دوراً كبيراً في المقالب السياسية البيروتية والذي كان يتمتع بصلات وثيقة مع رجال قصر السلطان ومع الصدر الأعظم كامل باشا كما كان وكيلاً قانونياً عن أبي الهدى الصيادي الشهير ومعتمده في بيروت.

وفي سنة 1911م نظم الشاعر عمر حمد عندما كان طالباً في الكلية العثمانية (الإسلامية فيما بعد) قصيدة بعنوان «خاطرة في ساعة» جاء فيها عن البيارتة (ما أشبه الليلة بالبارحة) قوله:

إذا قام فيهم الى الحق داعٍ/ ينبه منهم ذوي الهمّة 

ويرفع فيهم لأوّج الرقي/ مقاماً وينهض للعزّة

تقوم عليه الزعانف فيما / تكنّ النفوس من الغلة

فيهدم ما قد بناه النبيل / ويعمر فيه جفا السوقة

تسود البلاد وترقى العباد / وبيروت تلبث في رقدة 

ونعود الى المؤتمر العربي لنقول بان وفد بيروت الى المؤتمر تألف من الثلاثي سليم سلام (أبو علي) وأحمد مختار بيهم والشيخ أحمد طبارة. وأثناء المؤتمر أرسل علماء من بيروت وغيرها من المدن (اللبنانية) برقية يحتجون فيها على عقد المؤتمرات في العواصم الأجنبية بدون تكليف من أحد ويعترضون على أسلوب المؤتمرين. وقد وقّع البرقية مفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا والشيخ حسن المدور أمين الفتوى فيها، والشيوخ والعلماء محمود فرشوخ وحسين الحبال وجواد إبراهيم وجواد مرتضى ومحمد حسين وعلي شمس الدين وخليل عبد العال وغيرهم. وبعد انتهاء المؤتمر وعودة الوفد، توافدت الجماهير الى مرفأ بيروت في 6/9/1913 لاستقبال وفد الإصلاح الثلاثي، وكان على رأس المستقبلين شباب البسطة وأمامهم الموسيقى الوطنية وقد حملوا علم أهل المحلة يعلوه بيتان هما:

لواء البسطة ارتعدت لديه/ فرائص كل جبار عنيد

سحاب يمطر الأعداد حتفاً/ إذا سطع الوميض من الحديد

وأعدّوا لاستقبال الوفد مركباً فرش بالطنافس وأقيمت على جوانبه أشجار الصنوبر ورشت فيه الزهور. وصدحت الموسيقى عندما حضر أعضاء الوفد من الباخرة فقام الشيخ مصطفى الغلاييني وتلا أبياتاً مطلعها:

جئتم فكان مجيئكم عيداً/ ولميّت بالآمال تجديدا

فيكم غدت بيروت بالغة/ أرجاءً من العلياء محسودا

إلا ان الشاعر عمر حمد تلا قصيدة شكك فيها بنتيجة المؤتمر ولمّح الى الخوف من أن يكون الإصلاح برقاً خلّباً لا تليه ديمة ولا غيث، فقال:

قفوا حدثونا هل هنالك كوكب

يلوح لنا في الأفق أم ذاك غيهبُ

رأينا بروقاً من فروق تلألأت

وبرق فروق قد عهدناه خلّبُ

أيتبع هذا البرق غيث وديمة

من الأفق أو فالغيث عنقاء مغرب

ونهض بعده مختار ناصر مشككاً أيضاً ومتوجّساً، فقال:

سمعنا نغمة الإصلاح قرت/ لدى حكامنا أهل المواطن/ فنادى الجميع يا مختار ناصر

ألم تؤمن؟ فقلت بلى ولكن 

فلفظة (ولكن) يستفاد منها أنه قد آمن بالإصلاح ولكن إيماناً مشوباً بالريبة، ويستفاد منها أيضاً أن الرجل يريد أن يقول (ولكن ليطمئن قلبي) وفي هذا القول بلاغة في الشعر وريبة مما قد ينتج عن المؤتمر.

ويقول الرئيس صائب سلام في ذكرياته عن ذلك اليوم أنه في اليوم الثاني لاستقبال وفد الاصلاح الثلاثي العائد من باريس، كانت الناس تتساءل «شفتوهم مبارح وحدهم ما معهم الاصلاح وتقول لبعضها أنا شفتهم ما معهم الاصلاح، ثلاثة فقط ما معهم أحد، ما معهم الاصلاح؟» وهذا يشير الى أن الشعب كان بنيّة والساسة المحليون كانوا بنيّة وكان أبالسة السياسة الأجانب فوق كل نيّة.

قلنا ان والي بيروت أبو بكر حازم بك حلّ الجمعية الإصلاحية وقبض على بعض أعضائها فأعلن تجار المدينة الإضراب وأقفلوا حوانيتهم احتجاجاً وصدرت الصحف مجللة بالسواد وعلى صدر صفحتها الأولى قرار الحل ضمن إطار أسود. وذهب من يهمس في أذن الوالي بأن أحد أعضاء الجمعية زكريا طبارة كان يردد عبارة تسخر من الوالي (لا لزوم لذكرها) وهذا النوع من السخرية شائع لدى عامة الشعب في بلاد الشام فالعامة لا تعرف الرياء والنفاق ومعسول الكلام فأرسل الوالي من كمن لزكريا طبارة واغتاله. وقد أكد ذلك قنصل فرنسا في بيروت كوجيه في رسالة مؤرخة في 16/5/1913م بعث بها الى وزير خارجيته بيشون يخبره فيها باغتيال زكريا طبارة الذي كان قد أوقف عقب إقفال نادي الجمعية وان الاغتيال أحدث ضجة في المدينة ويشير الى ما كان يتردد في البلدة حول مسؤولية حاشية الوالي عن الاغتيال المذكور. وقد أكد سليم أبو علي سليم في مذكراته «بان القتل كان باتفاق والي بيروت وقومندان الجندرمة وبعض عديمي الوطنية».

وكل مؤتمر عربي والشعب العربي بخير؟

* مؤرخ