بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 كانون الأول 2019 12:05ص أيام بيروتية (8): كيف قاس نابوليون بونابرت عند أبواب عكا البيض بالباذنجان؟

حجم الخط
يُحكى الكثير عن خطط نابوليون بونابرت العسكرية، ويُحكى القليل عن ناحية مخفية من حياته تمثّلت فيما نُسب إليه من أقوال مأثورة. وقد قال بمعناها أجدادنا من الحكماء والفقهاء. إلا أن ثمّة ناحية أخرى من معارك نابوليون عرف البيارتة بعضاً من أسرارها عند صراعه مع الجزار عند أسوار عكا. فمن المعروف أن فرنسا كانت احدى الدول التي منح السلطان سليمان القانوني امتيازات لتجّارها وسمح لها بفتح قنصليات في عدّة مدن ما أدّى الى تحصيل الفرنسيين ثروات كبيرة والى قيام علاقات وطيدة بين القناصل الفرنسيين ووالي صيدا ودمشق أحمد باشا الجزار. 

إلا أن هذه العلاقات تدهورت سنة 1789م عندما ثار بعض مماليك الجزار ضده وقيل في حينه بان بعض الفرنسيين شارك بتلك الثورة لاعتقادهم بأن الفرصة كانت سانحة للتخلّص من الجزار ومن احتكاره لبعض ما كانوا يتاجرون به، إلا أن فشل الثورة وتشتّت القائمين بها دفع الجزار الى مصادرة أموال من عمل مع الفرنسيين، والى أن يرسل في 25 أيلول 1789م رسالة الى القنصل الفرنسي في عكا يعلمه بأنه سيعرضه للذبح إن لم يرحل خلال أسبوع، فاضطر الفرنسيون الى مغادرة عكا وصيدا. وراجع سفيرهم في الأستانة بأمرهم ولكن دون طائل لأن الجزار أبلغ الباب العالي رفضه إعادتهم لأن التجار الفرنسيين طعنوه في شرفه ودينه لمضاجعتهم حريم قصره.

وقد سادت القناعة في فرنسا بأن مصالح فرنسا في بلاد الشام لا تحميها سوى حملة عسكرية سيقودها نابوليون. وكانت عمليات طرد التجار الفرنسيين معروفة في بيروت وكانت العلاقات جيدة بين علماء بيروت ووجهائها وبين الجزار.

قصيدة المفتي فتح الله

وكانت علاقة مفتي بيروت الشيخ عبد اللطيف فتح الله بالجزار علاقة وثيقة كشفت عنها قصائده، منها واحدة مدح فيها فتح الله الجزار وأبدى عاطفته وعاطفة أهل بيروت تجاهه.

ومنها القصيدة التي نظمها أثر فشل حملة نابوليون على عكا بعد احتلال مصر. ففي شهر حزيران (يونيو) سنة 1798م أقبلت عمارة بحرية تجاه شاطئ الإسكندرية فأطلق أهلها المناداة: «اليوم يوم المغازاة» ثم نزل ألوف الجنود الفرنسيين بقيادة نابوليون فاحتلوا البلدة في أقل من ساعتين وساروا الى القاهرة فقابلوا عسكر المماليك «وتلاطم العسكران وتقدموا الى الضرب والطعان، وانقضت الجنود انقضاض البواشق بالسيوف البوارق والرماح الخوارق والخيول السوابق واطلقوا المدافع كالصواعق وثار العجاج وزاد الهياج وصاح قائد المماليك في الأعداء: ويلكم يا لئام» (الجبرتي) ولم تصمد أساليب القتال المملوكية أمام الآليات الفرنسية فدخل الفرنسيون القاهرة ظافرين في سنة 1798م. وأرسل نابوليون رسولاً الى عكا مع رسالة الى أحمد باشا الجزار يعلمه فيها بأنه قدم الى مصر بإذن الدولة العليّة لحماية الناس وتسيير محمل الحج. ولما وصلت الرسالة وأخبر القبطان خبره الى الجزار قال هذا الأخير له: «وجه هذا الظافر ودعه يسافـــــــر وإن لم يرجع في الحال من هذه الديار وإلا حرقته بالنار».

وقيل في عكة قبر عكّ الذي نسبت إليه عكا ويزعمون أن عكّ نبي وفيها عين البقر الذي ذكروا ان البقر خرج منها لآدم عليه السلام يحرث عليها. وعلى هذه العين مشهد ينسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. زارها ابن جير سنة 1184م وقال «هي قاعدة مدن الإفرنج بالشام، سككها وشوارعها تغصّ بالزحام زفرة قذرة مملوءة كلها رجساً وعذرة» وفي أمثال البيارتة بيقولون عكا وخمه؟ زارها عبد الغني النابلسي سنة 1693م فوجدها خربة تهدّمت أسوارها لم يبقَ فيها إلا القليل من البيوت والأخصاص من العيدان وقال «وتلك البلاد وخيمة المطاعم رديّة الهواء خشنة العيش لا يمكن فيها النعيم ولا الحال الناعم» وعن ابن عساكر ان عكا من قولك عككته أي حبسته والعكة شدّة الحر مع سكون الريح.

وكان الجزار قد حصّن المدينة وأعاد بناء أسوارها وحسّن أسواقها واتخذها مقراً له. وبعد وصول العسكر الفرنسي الى أسوارها أرسلوا والصقوا في أسواق القاهرة منشوراً فيه «نخبركم أننا عملنا لغماً عمقه ثلاثون قدماً وسرنا به حتى قربناه الى السور بمسافة ثمانية عشر قدماً وعند وصول كتابنا إليكم وقبل إتمام قراءته عليكم نكون ظافرين بملك قلعة عكا أجمعين».

وتناقلت الأخبار صمود الجزار وصدّه الفرنسيين عن عكا، فنظّم مفتي بيـــــــروت الشيخ عبد اللطيف فتح الله قصيدة من مائة وستة عشر بيتاً وكتب مقدمة للقصيدة وبياناً نثرياً مطوّلاً يذكر فيها مناسبتها وأحداثها. وقد سار صيت القصيدة بين الأدباء في أقطار الشام فعُرفت «بقصيدة عكا» وطلبها كثيرون. جاء فيها عن نابوليون وعكا:

أما درى أن أسد الغاب داخلها وأن عكا لآساد الوغى غيلُ

أما درى أن فيها ضيغماً بطلاً ثبت الفؤاد ولم يزعجه تهويل

والسّور إن هدّ فالجزار حافظها فإنه السور والسور الأراجيل

وكم تساقط سور من قنابرهم وكم تجندل قرم وهو متلول

وقد تطرق المفتي فتح الله في قصيدته الى معتقدات الفرنسيين في علمانية الدولة ووصف بالتفصيل أحداث المعارك في عكا والأسلحة المستعملة وعدد أيام الحصار ثم تاريخ رجوع نابوليون عن عكا وأسبابه، وختم قصيدته بقوله:

ستين يوماً أقاموا ثم أربعة في مرج عكا فما زالوا ولا زيلوا

وأظهروا ما لديهم من مكائدهم فلم تفدهم ولا وافاهم السّول

وأهلك لله منهم فوق نصفهم وردّ، من فرّ منهم وهو مخذول

ولوّا فراراَ بليلٍ لا نجوم له سرّاً وقلبهم بالرعب مشمول

من الفراسخ عشراً حيثما هربوا كأنها حينما يمشونها ميلُ

إلا أن ما يهمّنا في قصيدة عكا ما ورد في مقدمتها النثرية التي كتبها المفتي فتح الله فقد جاء فيها أن بونابرت توجّه نحو عكا «وألقى نفسه إلقاء الفراش على النار، وأعمى الله تعالى منه ومن جيشه البصائر والأبصار، وعمّ الله عزّ وجلّ عقله بالإنسلاب وجعله أجهل من الذباب، فجاء الى ذلك الثغر المحروس فرآه ثغراً في وجهه عبوس، فحطّ في مرجها (عكا) حين وصوله في الحال في اليوم الثالث عشر من شوال، وظنّ أن أخذها من غيره أهون، لأنه أخذ ما هو منها أحصن، فكان ممن قاس الهجين بالهجان والبيض بالباذنجان، ولم يدرِ أن السر في السكان لا في المكان إذا لم يصادفه فيما أخذه مثل البطل الجزار الأسد الكرّار الخ» وخلاصة ما يعبّر به عن ذلك ويقال بطريق التلويح ومنهج الإجمال أنه حاربها حروباً ليس لها مثال ولا تخطر في بال ولا تتصوّر في خيال، وهدّم أسوارها ولم يدرِ أن السّور الرجال.

أما قول المفتي فتح الله أن نابوليون قاس البيض بالباذنجان فقد أخذه من مثل سائر كان معروفاً في بيروت وصيدا والمغرب العربي وحكايته ان شيخ مدرسة قرآنية – وهي الكتّاب الذي كان يطلق عليه لفظ المسيد – اعتاد أن يشتري حاجات منزله وما يلزمه يومياً لعشائه من الخضار واللحم والفاكهة ويرسله إلى بيته مع أحد أولاد المسيد، وكان الولد يجدها فرصة سانحة ليلهو ويلعب فيتمهل في سيره ويعود الى المدرسة متأخّراً متعللاً للشيخ بشتى الأعذار كأن يقول ان زوجة الشيخ لم تكن في البيت وانه اضطر لانتظارها عند الباب. وتضايق الشيخ من تمادي إهمال الولد فأحدث فتحة في باب البيت وطلب من الولد أن يلقي ما يكلف بنقله من تلك الفتحة.

أعطى الشيخ الولد كمية من الباذنجان فأوصلها الى البيت ورماها من فتحة الباب وعاد بسرعة، وفي مرة ثانية أعطاه عدداً من البيض فأخذه الولد ورماه من فتحة الباب أيضاً وعندما علم الشيخ أمسك بأذن الولد بين إبهامه والسبابة وأخذ يفركها على عادة معلّمي الكتاتيب قديماَ ويقول له: بتقيس البيض بالباذنجان؟

يذكر أن نابوليون بعد قيامه من عكا وتوجهه الى فرنسا أرسل الى الجزار بارودة مفتخرة طاقمها من الذهب الإبريز بصياغة مفتخرة يزيد طول حديدها عن ذراعين ونصف وقماش الحديد نظير القطيفة الحرير ومرسوم جميعه بالذهب ووصلت الهدية إلى دروفيتي قنصل فرنسا في الاسكندرية الذي كان مأمورا بإرسالها الى الجزار، فالقنصل الفرنسي بعد موت الجزار أبقى البارودة عنده وعرف نابوليون بذلك فأجابه بأن يرسلها لمن يجلس مكان الجزار وحين حضر الجواب كان سليمان باشا قد تولّى الحكم فأرسلت له، فقبلها وحفظها في خزانته وكان يفتخر بها وكان قواص باشي رأس الحرب يحملها قدامه في العروض العسكرية وفي الأعياد. وبعد وفاة سليمان باشا خلفه عبد الله باشا الذي أنعم بها على الأمير بشير الشهابي الثاني.

وختاماً نشير الى أن الجبرتي أرّخ الحملة الفرنسية على مصر في كتابه «مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيين» وقدّم له بعبارة ملفتة وذات دلالة ذكّر فيها ما حلّ ببلاد الأندلس فقال عن الغزو الفرنسي «لقد كادت تعمّ الرزية وتصير القضية أندلسية». وهكذا أدّت هزيمة نابوليون عند أبواب عكا الى تأخير سقوط بلاد الشام مائة وعشرين عاماً أي حتى سنة 1918م. 

 * مؤرّخ