بيروت - لبنان

اخر الأخبار

27 آب 2022 12:00ص بيروتيّات (2).. أيهما زار بيروت الصحابي أبو الدّحداح أو المحدّث أبو الدّحداح؟

وثيقة أبو الدّحداح وثيقة أبو الدّحداح
حجم الخط
محلة أو حي أو مزرعة الدّحداح من أولى المحلات الكائنة خارج السور والتي قصدها البيارتة لسكناهم وإقامة مؤسساتهم التجارية والعمرانية، مثلما قصد قسم آخر من البيارتة محلة زقاق البلاط. تبدأ محلة الدّحداح من ساحة الدباس وتمتد جنوبا الى الناصرة وشرقا الى الأشرفية وغربا حتى الخندق (الغميق)، أول ذكر لها ورد في وثيقة تعود لسنة 1823.
والدّحداح من عرب اليمامة قَدِم بعضهم الى لبنان وكان لهم شأن في عهد الأمير بشير الشهابي. تولّوا حكم عدة مقاطعات، واشتهر رجالهم بالسياسة والخبرة والتدبير. قيل انهم ينتسبون الى الصحابي أبي الدّحداح. جاء في «الاستيعاب في معرفة الأصحاب» لابن عبد البر انه لما نزلت الآية {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة} جاء أبو الدحداح للنبي عليه السلام وقال له: ان لي أرضين، واحدة في السافلة والثانية في العالية وقد جعلت خيرهما صدقة. فكان النبي يردّد «كَم مِن عِذقٍ مُعلَّقٍ أو مُدلًّى في الجنَّةِ لابنِ الدَّحْداحِ».
يذكر ان الشيخ لوسيان منير الدحداح، وزير خارجية لبنان السابق، طبع على رأس أوراقه نقلا عن السيوطي «وكم من عذق رداح لأبي الدحداح في الجنة». ذكر ابن حجر في «الإصابة» ان أبا الدحداح الأنصاري توفي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن القول بأنه لم يزر بيروت ولم تأخذ المحلة اسمها من اسمه.
ذكر ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (5/219) ان المحدّث أبي الدحداح أحمد بن محمد بن إسماعيل التميمي (ت 328هـ) كان يسكن بدمشق في ربض باب الفراديس، قرب باب الفراديس القريب من المقابر، وتوفي فيها وسمّيت المقبرة لاحقاً باسم مقبرة الدحداح. ومن غير المستبعد أن يكون المحدّث أبو الدحداح زار بيروت وحدّث بها فنسبت المحلة إليه.

ورد اسم الدحداح في وثيقة مؤرخة بتاريخ أول شوال سنة 1239 هجرية/ 1824 ميلادية وبموجبها وقفت مريم الراهبة بنت موسى الحداد وحبست «للّه تعالى جلّ جلاله ومحبة بمرضاته وعمّ نواله... البستان المعروف ببستان مراجل الكائن بأرض الدحداح بظاهر بيروت، يحدّه قبلة بستان ابن الفاخوري وشرقاً بستان ابن النجار ناصيف وشمالاً أولاد مراجل وغرباً بستان بيت قرانوح وكذلك البستان الكائن في ميدان البلشه على نفسها وبعد موتها على فقراء طائفتها وعند انقطاعهم على الحرمين الشريفين...»، صدّقت الوقفية في 14 ذي العقدة 1239هـ وأثبت محمد سعيد قاضي بيروت الشرعي تلك الوقفية في معرض نزاع على زراعة البستان في وثيقة مؤرخة في 27 شعبان 1278هـ.
اشتهرت محلة الدحداح بمعالم صناعية وعمرانية وبساتين زراعية منها:
{ أولا: برج دندن أو كركول العبد في الدحداح:
أسرة دندن عريقة في بيروت لها فيها آثار تُذكر فتُشكر. قدّم أبناؤها خدمات جُلّى لبيروت. من المرجح ان الأسرة تنتسب الى الأمير دندن أخي الأمير فياض حاكم عرب أبو ريشة وقد قدما الى بيروت مع الأمير فخر الدين المعني الثاني سنة 1618. ولا توجد معلومات عن دور الأمير دندن في بيروت علما بأن الأمير فخر الدين جعلها عاصمته فبنى السراي وحديقة ساحة البرج وخان الوحوش وبرج الكشاف. ويستنتج من الوثائق ان الأمير فخر الدين أقطع الأمير دندن عدة عقارات في محلات القنطاري والدحداح والشيخ رسلان.
ذكرت الوثائق تملّك حافظة وخديجة، بنتي الشيخ مصطفى دندن، إرثا عن أبيهما عقارات في محلة الدحداح منها قطعة أقيم عليها برج دندن. كما ورثت صفية فاخوري، جدة والدي لأبيه، عن والدتها خديجة بنت الشيخ مصطفى دندن بيتاً في محلة الشيخ رسلان (خلف مبنى البلدية الحالي) وقطعة أرض في محلة الدحداح (شارع داود عمون حالياً). ورثت حافظة دندن - شقيقة خديجة - قطعة أرض قرب محل فلافل صهيون. بني في أرضها برج للاصطياف والاستجمام كانت تحيط به أشجار التوت والزيتون والفواكه عرف ببرج دندن.
دعت حافظة ذات يوم زوجة متصرف بيروت لقضاء النهار في مزرعتها المذكورة - وعندما أرادتا الانصراف والعودة الى داخل بيروت، همّت حافظة بركوب عربتها وكانت مريوحة، فخرج منها صوت وخجلت وأحمرّ وجهها فأخذت تقرع العربجي الزنجي المملوك (العبد) وتوبّخه ناسبة الفعل إليه. فما كان منه إلا أن احتمل الأمر واعتذر من سيدته عما بدر منه.
أعجبت حافظة بتصرّفه وسرعة بديهته ووفائه فقالت له: «إن قطعة الأرض هذه لك ولأولادك من بعدك». ووهبته قطعة في تلك المحلة من أرضها. أقيم فيما بعد على هذه القطعة الموهوبة مخفراً للشرطة عرف بإسم «كركول العبد» أو مخفر طريق الشام.
يذكر أن هذا المخفر الذي كان شرقي وزارة المال، نقل فيما بعد أبعد من هذا الموقع بحوالي كيلومتر لجهة الجنوب الى قرب ما يُعرف اليوم بالمطعم الياباني، وقد أدركنا رئيساً للمخفر المذكور المفوض أنطون حنش.
{ ثانيا: كرخانة الدحداح وبطانة إبراهيم باشا:
جاء في كتاب مباحث علمية واجتماعية التي وضع بتكليف من إسماعيل حقي بك متصرف جبل لبنان «انشيء سنة 1836 أول معمل لحل الحرير على الطريقة الأوروبية أقامه في بيروت بحي الدحداح الكونت دي لافرته والكونت دي لامون، وانشأ نقولا وجورج بورتاليس أول معمل في لبنان سنة 1838».
ويتبيّن من الوثيقة المؤرخة في 24 ذي القعدة سنة 1305هـ/ 1888م الى ان من ضمن أملاك أسعد ثابت قطعة الأرض والآخور الواقع بجانبها في محلة الدحداح يحدّه قبلة وقف بني سعادة وشمالا وشرقا الطريق السالك وغربا «الكرخانة المعروفة بكرخانة الدحداح» وقطعة أرض يحدّها دير اليسوعية. وان من ميراث مرتا بنت منصور بن حنا مراجل ستة عشر قيراطا من أصل 24 قيراطا من قطعة الأرض الملك الكائنة بمحلة الدحداح ضمن «معمل الحرير» المشتملة على بناء أودة يحدّها قبلة ملك قسطنطين بن أنطون النجار ووقف طائفة الروم الكاثوليك وشمالا ملك بعض الورثة وشرقا ملك بني سعادة وغربا الطريق السالك الآخذ الى الأشرفية.
في أمثالنا: «من جاور الحدّاد اكتوى بناره»، وهو مثل ينطبق على كثيرين ممن يتزاحمون للتقرّب من الحكّام رغبة في مغانم النفوذ رغم ما يواكب هذا القُرب من مخاطر العزل والعقاب والغرم، فنجاح الحاكم معزو لمواهبه وقدراته ونظرته الثاقبة وفشله تحمل البطانة مسؤوليته، مع أن البطانة كانت دائماً جزءاً متمماً للأصل. وقد أتى زمن كان مستشار الحاكم يتحمّل الوزر كله حتى صحّ ما قاله شاعرنا عمر الأنسي:
معاشر السلطان شبه سفينةٍ
في البحر ترجف دائماً من خوفهِ
وبطانة الحاكم تضرب حوله سوراً أقوى وأعلى من سور الصين العظيم، فهي منّاعة للخير لا تدع أحداً يقترب منه كالبطانة التي رافقت إبراهيم باشا عندما احتل بيروت سنة 1831. فبعد أن دخل من باب الدركاه واستقبلته حية صفراء توجه الى السراي القديمة (التي حلّت محلها أبنية سوق سرسق وتويني أو سوق النزهة) وجلس في الديوان ليستقبل وجهاء المدينة وتجارها يقدمون له تحية الولاء كعادة التجار وأصحاب المصالح مع مختلف الفاتحين، وكان من بين التجار شخص يدعى الدحداح حدّث الباشا عن معمل النسيج الذي أنشأه خارج السور في المحلة المعروفة بالدحداح ودعا الباشا لزيارة المعمل ووعده الباشا بتلبيته، وفي الموعد المحدد حضر الباشا وحاشيته الى المعمل وصار يتأمل إنتاج المعمل من النسيج وعرض قطعة منه على أفراد حاشيته مظهراً إعجابه فقال بعضهم حسداً إن وجه القماش (أي لحمته) من الحرير ولكن قلبه (سداه) بطّال لأنه من القطن. فالتفت الباشا الى الدحداح وأخبره بما قالته الحاشية فقال الدحداح مورياً ومعرضاً بالحاشية «يا باشا أن الوجه والقلب هما من الحرير ولكن البطانــــــــة (الحاشية) هي البطّالة».
{ ثالثا: خان بطرس الأصفر:
انشأ الخواجه بطرس طنوس الأصفر في المحلة التي كانت تُعرف بالدحداح ساحة الدباس فيما بعد خانا باسمه. نشأ نزاع حوله بين بطرس المذكور وجاره حنا خوكاز بسبب ما يحصل من الخان من رائحة روث الدواب والكشف من بعض حجرات الخان على مقر نساء الجار، فجرى الكشف على الخان من قبل نائب القاضي الشيخ إبراهيم الأحدب وأعضاء المجلس الكبير ومدير الأملاك، ثم أجرى القاضي كشفا حسّيا بنفسه وحقق النظر في انشائه فوجده غير مضر بجاره ضررا بيّنا يمنع الإنسان من التصرف بملكه وان رائحة الروث جزئية جدا لا تصلح لمنع التصرف وقياسها على الدباغة والجزارة والحلالة قياس مع الفارق لأن الخان إذا كان بهذه المثابة فمن يسكنه وينزل به بل المطلوب من الخان أن يكون نظيفا ليرغب بالنزول فيه وان قلنا ان ذلك مضر فيبنى عليه ان كل دار فيها اصطبل للدواب هي بمنزلة الخان فيقتضي أن يمنع كل جار جاره من ربط حيوانه في داره. وقد رفع سؤال بهذه الدعوى الى مفتي يافا في حينه حسن أفندي الدجاني فأجاب بأنه لا يمنع زيد من بقاء الخان على حاله والأمر ما ذكر لأن هذا ضرر يسير وهو مغتفر...
أسماء بعض المالكين في المحلة: فليفل - الجمال - أبو فتة - ثابت - مراجل - الشاروني - النجار - سعادة - الباشا - طرازه - دندن - اللاتي - قوزما - الفاخوري - طاسو - الحاصبانية - التيان - عرب - العويني - مخباط - منيمنه - صفصوف.
{ رابعاً: الخندق (الغميق) في محلة الدحداح:
لأول مرة يحدد موقع الخندق الغميق، فقد ذكرت الوثيقة المؤرخة في الرابع من شهر صفر الخير سنة 1265هـ/ 1848م ان سعيد مصطفى فليفل وعمته سعدية باعا الى إسحاق إبراهيم ثابت قيراطين من أصل 24 قيراطا من كامل قطعتي أرض متلاصقتين مفرزتين من بستان مصطفى فليفل لجهة غربه المشتملتين على أشجار توت وبري وفواكه وعمار بيت مسقوف بالجسور والأخشاب يحدّهما قبلة ملك نقولا بن أبي فتة اليافي وشمالا ملك المشتري وشرقا قسيمتها الجارية في ملك ورثة بني فليفل وتمامه ملك حتا الجمال وغربا الطريق السالك ما عدا حق المرور الباقي للأصيل والى ورثة أبيه والى حتا الجمال الواقع هذا الطريق في الجل التحتاني أي في قطعة الموكل يمر من أول القطعة من جهة الشرق وينتهي للمرور الى الخندق الواقع لجهة الغرب بالرجل والدواب. ويتضح من تضاريس المحلة وامتداد أرض محلة الدحداح غربا الى ما يعرف اليوم بـ«الخندق الغميق» الذي ذكر المعمّرون ان عرضه لم يكن يتجاوز المتر والذي عرف بزاروب الحرامية.
* مؤرخ