بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 نيسان 2022 12:00ص إمساكية بيروت من حاجة رمضانية إلى وسيلة إعلانية

حجم الخط
كان لعالِمي بيروت الشيخين محمد الحوت وعبد الله خالد اليد البيضاء في نشر العلم والتفقّه في الدين في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد شوّقا البيارتة إلى تعليم أبنائهم وكان من الذين حصّلوا العلم بحضورهم على الشيخين المذكورين: الشيخ عبد الباسط الفاخوري (مفتي بيروت) والشيخ عمــــــــر البربير وشقيقه الشيخ إبراهيم والشيخ حسين بيهم والشاعر أبو الحسن قاسم الكستي والشاعـــر عمر الأنسي والشيخان عمر وخضر خالد وهشام بن أحمد قريطم ومحمد عمر الفاخوري ومحمد محي الدين البلعة وغيرهم.. وكانت دروس الشيخين تشمل تعليم الحساب والفرائض والمقاسمات والمناسخات لمعرفة الأنصبة الإرثية، كما شملت علم الفلك والهيئة والميقات لاتصال ذلك بركنين من أركان الإسلام وهما: الصلاة والصوم، ولمعرفة مواقيت الصلاة واتجاه القبلة ومطالع الأهلّة، ومواعيد الإفطار والإمساك والأعياد والحج.

وبقي من دروس الحساب والفلك رسالة للشيخ محمد الحوت في الحساب نقلها تلميـــــــذه الشاعر عمر الأنسي (الصقعان - السجعان) وطبعت مؤخراً. ورسالة للشيخ محمد الحـــــــــوت فـــــــي «تحديد سمت القبلة» نقلها تلميذه عبد الباسط الفاخوري (لم تنشر وفي خزانتنا نسخة منها). ومن الدروس أيضاً رسالة في مسائل فقهية للشيخ عبد الله خالد (نشرت مؤخراً بعناية الباحث خالد بلال عيتاني) قال فيها «تعلّم أدلة القبلة فرض كفاية على المقيم، وفرض عين على المسافر. ومن علاماتها بيت الإبرة والظل وقت الظهر. إعلم أن القطب يجعله من في جهة الشام خلف ظهره. ومن في اليمن تلقاء وجهه. ومن في مصر خلف أذنه اليسار. ومن في العراق خلف أذنه اليمنى..»، وكان من نتيجة تحصيل العلم أن وضع المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري رسالة في «الأشهر الهلاليـــة» (لا تزال مخطوطة) بيّن فيها كيفية معرفة أوائل السنوات العربية وأوائل الشهور في أيام الأسبــــوع، ووضع جداول لها. ومما قال فيها «وضعوا لأوائل الشهور حروفاً تدلّ عليها رمز لها بالبيت:

ان جاد دهري وجادت زينب بِوَفا

جلت همومي وقد أحيت به دنفا

فالألف من (ان) أول محرم. والجيم من جاد لشهر صفر. والدال من دهري لربيع الأول إلخ.. باعتبار عدد ذلك الحرف بالجمل (أبجد هوز الخ..) فلو كان أول محرم الثلاثاء وأردنا معرفة أول صفر فحرفه الجيم وهو الثلاثة فتعدّ من أول محرم الى ثلاثة فيكون أول صفر الخميس.. الخ..».

يذكر أن الشيخ مصباح شبقلو، وهو أحد تابعي تلامذة مدرسة الشيخين الحوت وخالد، نشر سنة 1908م تقويماً لمعرفة أوقات الصلوات لعرض مدينة بيروت.

مواقيت الصلاة

كانت مواقيت الصلاة والإفطار (المغرب) والإمساك، تعرف من أصوات المؤذنين وأنوار المـــــــــآذن أو من مدفع الإفطار والسحور الذي كان يطلق من تلة السراي ثم من تلة الخياط، في زمن لم تكن قد عرفت أو صدرت فيه الروزنامات (فارسية من كلمتين: «روز» أي اليوم و«نامة» أي الكتاب) وهي كتيب يتضمن الأيام والشهور ومواعيد الصلاة والأعياد.

يذكر في هذا الصدد أن الأب دامياني اليسوعي أصدر ما سمّاه (تقويم أي مطبوخ لسنة 1879م) ذكر فيه حساب الأشهر والأيام الغربي والشرقي والقمري وما يلحق بها من الأعياد والصيام وأوقات طلوع الشمس والقمر وغيابهما والظهر الخ..

أما الشيخ أحمد طبارة (شُنق في ساحة البرج في السادس من أيار سنة 1916م) فقد أصدر سنـــة 1910م روزنامة العثمانيين أو الروزنامة الأهلية باللغات العربية والتركية والإفرنجية. ذكر فيها طلوع الشمس وغروبها للساعتين العربية والإفرنجية، ووقت الإمساك في شهر الصيام. وكانت مطبوعة على شكل كتاب جمع قصصاً ونكتاً أدبية ونوادر تاريخية قيل في شكلها:

فليس الوصف يبلغ ما حَوَته 

وأحسن وصفها هو أن تراها 

الإمساكية

نعود إلى الإمساكية لنقول انها جدول بأوقات الصلاة والإمساك والإفطار في شهر رمضان. من أمسك الرجل عن الطعام في السحور أي كفّ وامتنع عن الطعام في الفجر عند بدء الصباح. وقد أطلق على الجدول المذكور لفظة الإمساكية لأن المختلف فيما تضمنته عن بقية التقاويم تحديد وقت الإمساك عن الطعام الذي يختلف عن وقت آذان الفجر من جهة ولصعوبة تحديد العامة للفرق بين الخيط الأبيض والخيط الأسود من جهة ثانية. فأطلق اسم الجزء على الكل.

نرجّح بأن أول إمساكية وضعت في بيروت حسبها الشيخ محمد عمر البربير سنة 1320 هجرية/ 1903 ميلادية وطبعت بتصديق من مفتي بيروت في حينه الشيخ عبد الباسط الفاخـــــــــــوري، كما وضع إمساكية لشهر رمضان سنة 1325هـ/ 1907م (وفي خزانتنا نسخة منهما). ومحمد عمر البربير هو إبن عمر البربير أحد تلامذة الشيخين محمد الحوت وعبد الله خالد، والدته عنبرة بنت قاضي بيروت ومفتيها الشيخ أحمد الأغر وهو والد السيدة كلثم بربير والدة الرئيس صائب سلام وجدّة الرئيس تمام سلام.

برع محمد عمر البربير في اللغة والحساب والفلك، وتميّز بخط جميل يفوق خط ابن مقلة الخطاط العربي الشهير. ومن بقايا خطّه لوحة رخامية في مقام الإمام الأوزاعي خطّها سنة 1320هـ. ولوحة رخامية خطّها سنة 1318هـ/ 1900م. تؤرّخ إنشاء السبيل العثماني الذي كان يتوسط ساحة السور (عصور - رياض الصلح) ونقل إلى حديقة الصنائع حيث يقبع حزيناً لا ماء فيه (سبق أن نشرنا له خطبة الجمعة التي ألقاها في جامع المجيدية).

والإمساكية التي نظّمها محمد عمر البربير حسبها لموقع بيروت على عرض 33 درجة و54 دقيقة، وقد حدّد فيها مواعيد الإمساك والفجر والشروق والظهر والعصر والعشاء.

ويلاحظ أن الإمساكية المذكورة خلت من تحديد موعد الإفطار (المغرب) لسهولة معرفته من المآذن وأصوات المدفع ولا سيما انتظار الصائم وترقّبه حلول ذلك الموعد. كما أنها حسبت المواقيت بالساعة العربية بحيث يكون الظهر مثلاً الساعة 7 ودقيقتان والإمساك الساعة 12.

كان نظام التوقيت العربي هو المعتمد في تلك الأيام. وكان عدّ الساعات الأربع والعشرين لليوم الواحد في هذا النظام، يبدأ عند غروب الشمس. علماً بأن اليوم في نظام الزمن الإسلامي يبدأ من الليل. فعندما يقال الخميس ليلة الجمعة فالليل السابق لنهار الجمعة هو بدء يوم الجمعة.

السنة المالية

كما تميّزت الإمساكية بأنها حسبت لشهر رمضان لسنة 1320 وما يقابله من شهر تشرين سنة 1318 مالية. وهذه السنة الأخيرة أي 1318 هي ما عرف «بالسنة المالية» والتي خلط كثير ممن عدّوا مؤرخين بينها وبين السنة القمرية (الهجرية). وأصل هذا الحساب أن مصروف الدولة العثمانية كان يتمّ استناداً الى التقويم الشمسي، بينما كانت الموارد لا سيما المواسم الزراعية ونتاج الماشية تجنى في الربيع، ولسدّ هذا الخلل أصدر السلطان سليم الثالث أمره الى الدفتردار (وزير المالية) بأن ينظم الشؤون المالية في الدولة اعتباراً من أول شهر آذار الشرقي سنة 1789 ميلادية الموافقة لسنة 1205 هجرية. فكان بدء السنة المالية في أول آذار الشرقي وحساب الشهر فيها كحساب الأشهر حساباً شرقياً (ينقص عن الحساب الغربي 13 يوماً) وعرفت بالسنة المالية أو المارتية (نسبة الى شهر مارت - آذار).علماً بأن الكثير من الدول في أوروبا وأميركا وغيرهما تحدد بدء سنتها المالية في شهر نيسان. وقد جرت العادة في غرّة آذار الشرقي (مارس) من كل سنة بذبح رؤوس غنم في إدارات الدولة وفي دائرة بلدية بيروت.

الإمساكية وسيلة إعلانية

وإنطلاقاً من هذه الإمساكية الأولى البسيطة التي أنشأتها الحاجة الرمضانية لمعرفة وقت الإمساك. أخذت الإمساكيات تظهر في شهر رمضان في السنوات التالية تباعاً. ثم أخذت المؤسسات تطبع إمساكيات مصدّرة بشعارها ومزيّنة بالألوان والخطوط وبعض الآيات القرآنية وبالأحجام المختلفة. وأكثرها كان عبارة عن صفحة واحدة كإمساكية صيدلية السلام في طرابلس لشهر رمضان 1369هـ/ 1950م. وصدر بعضها بشكل كتيب كإمساكية شركة المستحضرات الصيدلية قنواتي إخوان في دمشق لسنة 1935م والتي تضمنت ذكر بعض المأكولات للإفطار والسحور وقصة بقلم عبد المحسن القنواتي لجلب السرور والانشراح للنفس بعنوان «أبو فياض الهمــــام وما حدث له في الحمام».

وفي السنوات الأخيرة شهدنا تحوّل الإمساكية الى وسيلة إعلانية لجأ إليها التجار وأصحاب المطاعم والمؤسسات والدكاكين ترويجاً لمؤسساتهم وبضائعهم. كما لجأ آخرون إلى إصدارها عن روح موتاهم. وقد رأينا تراجع الاهتمام في هذه السنة بإصدار إمساكيات فهل انتفت الحاجة إليها بعد انتشار وسائل الاتصال؟



* مؤرخ