بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 تموز 2022 12:00ص الحج قديماً (٢).. المحمل المصري كان يتميّز بنقل كسوة الكعبة الشريفة

حجم الخط
في رحاب الشوق إلى عتبات بيت الله الحرام، وروضة النبي الكريم (#) ارتبطت رحلات الحج قديما بمعالم دينية واجتماعية ما زالت حاضرة في الأذهان، من بينها محمل الحجاج الذي كان خروجه من مصر صوب الحجاز مناسبة شعبية ورسمية مشهودة، بقيت قائمة حتى تحوّل طريق الحج من «درب الحج المصري» إلى الطريق البحري أواخر القرن التاسع عشر...
*****
• الاهتمام بالمحمل المصري:
أخذ الاهتمام بقافلة المحمل المصري أكثر من مظهر ظهر في مكونات القافلة، التي اشتملت على الكثير من العناصر المختلفة والمتنوعة التي تمثلت في الآتي: المحمل: يراد بالمحمل الجمل أو الجمال التي تحمل كسوة الكعبة، ويضم المحمل مع قافلة الحجاج «ركب الحجاج» أي الركب السلطاني الذي تصحبه الكسوة الشريفة للحرمين.
وكان المحمل أول الأمر عبارة عن حمولة جمل تتضمن هدايا وكسوة الكعبة. ثم نما المحمل نمواً عظيماً، حتى بلغ ثقله قناطير مقنطرة استعمل لنقلها عشرون جملاً، وصار إنتقال المحمل مع قافلة الحاج إلى مكة من مصر عبارة عن إنتقال مجتمع بأكمله، معه السبيل المسبل للفقراء والضعفاء والمنقطعين بالماء والزاد والأشربة والأدوية والعقاقير والأطباء والكحالين والمجبرين والأدلاء والأئمة والمؤذنين والأمراء والجند والقاضي والشهود والدواوين، والأمناء، ومغسل الموتى، في أكمل زي وأتمّ أبهة.
***** 
• تفنن في التصميم:
بما أن المحمل المصري إرتبط برحلة الحج كونه كان يحمل معه كسوة الكعبة المشرّفة، وهي ميزة أكسبته شهرة واسعة بين قوافل الحج، لذلك كان أكثر قوافل الحج تنوّعاً، وضم إلى جانب الحجاج المصريين حجاج المغرب العربي وممالك المسلمين في غرب أفريقيا والأندلس.
وتفنن الصنّاع في تصميمه وزخرفته، وكان حسن الطلعة وجمال الصنعة بخرط متقن وشبابيك ملونة بأنواع الأصباغ، وعليه كسوة من الديباج المزركش بالذهب، حسب وصف المؤرخين، كما ارتبط بأناشيد وأغانٍ شعبية أطلق عليها «أغاني المحمل» التي أصبحت جزءاً أصيلاً من الفلكور المصري.
*****
• أجواء إحتفالية قبل رحلة الحج:
كان للمحمل دورتان أولاهما في شهر رجب تنبيها للأذهان بقرب موعد موسم الحج وإعلانا بأن الطريق آمن من هجمات اللصوص وقطّاع الطرق وتسمّى «الدورة الرجبية» أو «الرجبية»، فعند ذلك تهيج العزمات وتنبعث الأشواق وتتحرك البواعث ويلقى الله تعالى العزيمة على الحج في قلب من يشاء من عباده فيأخذون في التأهب والاستعداد.
أما الدورة الثانية فكانت تجري بعد ثلاثة أو أربعة أيام من إنتهاء عيد الفطر وتُعرف بالدورة الشوالية وفيها يكون الخروج لمكة المعظّمة.
وفي أجواء احتفالية وروحية كبيرة يبدأ «المحمل» مسيرته عبر «درب الحج المصري» من باب النصر بالقاهرة إلى منطقة عجرود بالسويس، ومنها إلى عيون موسى للتزوّد بالمياه.
ويتجه الحجاج بعدها إلى مدينة نخل بسيناء، وصولاً إلى مدينة العقبة، ويعبرون الحدود إلى مدينة ينبع السعودية، لتنتهي الرحلة إلى مكة المكرمة.
يمدّنا المؤرخ والرحّالة المصري محمد البتانوني في كتابه «الرحلة الحجازية» الذي سجل فيه وقائع رحلة خديوي مصر عباس حلمي الثاني للأراضي المقدسة في عام 1327هـ/ 1909م بوصف كامل لمراسم خروج المحمل في يوم يعدّه مشهودا بالقاهرة، حيث تمشي في الموكب الجنود الراكبة و«البيادة» (المشاة) وحرس المحمل وركبه وخدمته من «ضوية» (حملة المشاعل) وعكامة يتقدمهم أمير الحج الذي يعينه الجناب العالي الخديوي سنوياً، وبعد أن يدور المحمل دورته الأولى بميدان القلعة يمرُّ على «المصطبة»، وهي المكان المعدّ لجلوس الجناب العالي الخديوي يوم الإحتفال ومعه رجال الحكومة والعلماء وهنالك يأتي مأمور الكسوة الشريفة وبيده زمام جمل المحمل فيستلمه الجناب العالي منه ويسلّمه إلى أمير الحج، وعندها تضرب المدافع من القلعة ويسير الموكب يتقدمه أصحاب «الأشاير» من فرق الصوفية بألوان بنودهم وعماماتهم الملونة، ثم الجنود، ثم جمل المحمل يتقدمه أمير الحج ويتلوه المحاملي المسؤول عن قيادة الجمل والجمالة و«الفرايحية» (قارعو الطبول) على جمالهم. ويستمر هذا المحمل سائراً إلى المحجر فالدرب الأحمر ويمرّ من باب زويلة فالغورية فالنحاسون فباب النصر فالعباسية. وهناك يتفرّق الموكب وينزل ركب المحمل إلى خيامهم التي ضربت فى صحراء العباسية، وينصب المحمل في وسط ساحتها ليزوره من يتبرّك به حتى إذا كان يوم السفر إلى السويس نقلوه مع أدواتهم وذخائرهم إلى وابور المحمل الذي يكون مهيّأ في محطة العباسية...
*****
• هيئة وظيفية للمحمل المصري:
وكان للمحمل المصري هيئته الوظيفية التي تتلقى رواتب ثابتة من الحكومة، وتتمتع في ذات الوقت بصلاحيات واسعة من أجل تدبير إحتياجات قافلة الحج لعل أهمها شراء الأغذية والمياه بل وشراء العملات الرئيسية وفقا لأسعار خاصة تعلنها السلطات وليس لأحد من الباعة والتجار أن يخالفها بحال من الأحوال.
*****
• الوظائف الرسمية للمحمل:
كان «أمير الحج» هو الشخصية الأبرز (كما أشرنا في الجزء الأول) بين هؤلاء الموظفين الذين يتوزعون على نحو 42 وظيفة، منها «الدوادار» وهو حامل دواة الحبر التي يستخدمها أمير الحج لكتابة الأوامر وتوقيعها وبوصفه من العسكر كان يعتبر القائد الميداني لحرس المحمل، و«قاضي المحمل» ويفصل في المنازعات التي قد تنشب بين الحجاج، و«أمين الصرّة الشريفة» وهو المسؤول عن الأموال المرسلة للحرمين والمخصصة للإنفاق على القافلة.
وهناك أيضا «البيرقدارية» وهم قادة الجند ممن يحق لهم حمل البيارق أو الأعلام، فضلاً عن مسؤولين عن تزويد القافلة بالمؤن والمياه، ومشرف على المطبخ وخباز، وطبيب، وبيطار، وأخيراً «مبشر الحاج» وكانت مهمته تبدأ فعليا عقب عودة القافلة من الأراضي المقدسة، إذ يسبق القافلة بهجينه السريع للإبلاغ عن أحوال الحجاج وما حدث بشأنهم من سرقات أو وفيات. ويكون وصوله للقاهرة قبل نحو أربعة أيام من إياب قافلة الحج بمثابة تبشير وإعلام ليستعد ذوو الحجاج لملاقاتهم.
لكن أمير الحج هو الشخصية الرئيسية في المحمل المصري، كما أشرنا، بما له من صلاحيات واسعة وواجبات جمّة فقد كان منوطا به جمع الناس حتى لا يتفرّقوا ويوزعهم على مجموعات لكل منها قائد وأن يرفق بهم أثناء السير حتى لا يعجز الضعيف أو يضل المتأخر وأن يسلك بهم أسهل الطرق وأخصبها وأن يسير بهم إلى الماء إذا انقطع وإلى المراعي إذا قلّت وأن يدفع قطاع الطرق عن الحجاج وأن يراعي الوقت حتى لا يفوتهم الحج وكان له أن يقوم المنحرف ويؤدّب الخائن ويقيم عليه الحد.
*****
نشير أخيراً إلى أن قافلة الحج المصري لعبت دوراً مهماً في الحركة التجارية بين الشرق والغرب، حيث تتولى نقل سلع الغرب إلى مكة التي تنقل منها لبلاد المشرق، المختلفة، وتجلب من مكة سلع الشرق لتوزع في بلاد الغرب. وذلك يوضح الدافع الإقتصادي للاهتمام بالمحمل المصري...
* إعلامي وباحث في التراث الشعبي