بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 تشرين الأول 2022 12:00ص الدكتور أسامة حداد في ذكرى المولد النبوي الشريف: علاقة كثير منّا بالسُّنّة النبوية الشريفة علاقة عاطفة ومشاعر ونحتاج إلى العمل

الشيخ د. أسامة حداد الشيخ د. أسامة حداد
حجم الخط
معلوم أن أول ما يجب علينا تجاه السنّة النبوية أن نعتقد حجيتها, وأنها المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله (جلّ وعلا) فمن واجبنا أن نعتقد أن كليهما وحي من عند الله (جلّ وعلا). فقد قال تعالى {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وكان فضل الله عليك عظيماً}، وقال -تعالى-: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أُوتيت القرآن ومثله معه, ألا لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن, فما وجدتم فيه حلالاً فأحلّوه, وما وجدتم فيه حراماً فحرّموه, ألا وإن ما حرّم رسول الله كما حرّم الله».
ولكن هل فعلا نحن فهمنا ماذا تعني السنّة النبوية وكيف يكون العمل بها..؟!
هل فعلا - ونحن في أجواء ذكرى المولد النبوي الشريف - ناجحون في علاقتنا مع السنّة النبوية..؟!
وإذا كنا كذلك.. فلماذا هذا الفساد المنتشر في النفوس من حولنا..؟!
أسئلة كثيرة حملناها إلى المفتش العام للأوقاف الإسلامية في دار الفتوى، الشيخ الدكتور أسامة حداد، وكان هذا الحوار:
مولده ميلاد للأخلاق الفاضلة
{ في شهر المولد النبوي الشريف ومع الأزمات المحيطة بنا.. ألا نحتاج إلى إعادة النظر في فهمنا للسنّة النبوية الشريفة؟
- يقول الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سورة آل عمران 164].
شرّف الله تعالى الوجود بمولد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واستنارت به الأكوان، فمولد النبي صلى الله عليه وسلم مِنَّةٌ عظيمةٌ من الله تعالى على الناس، فهو مولدٌ للهداية بعد الضلال، ومولدٌ للنور بعد الظلام، ومولدٌ للعدل بعد الظلم.
كان مولده صلى الله عليه وسلم ميلاد أمَّةٍ، لتغيِّر الواقع السيِّئ الذي كانت تعيشه البشرية، إلى واقع أصبح مثالاً يُحتذى به في الحضارة والطُّهر والنقاء، والرحمة العامة الشاملة لكل من عرفه وأحاط به، إنه صلى الله عليه وسلم رحمة بحنانه على المسكين، وعطفه على الضعيف، وشملت رحمته الصغير والكبير، والقريب والبعيد، والمؤمن والكافر، فنال بذلك رحمة الله رب العالمين، إذ يقول في كتابه الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء 107].
وكان مولده صلى الله عليه وسلم ميلاداً للأخلاق الفاضلة، والقيم السامية، وكيف لا؟ وقد وصفه ربه بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [سورة القلم 4].
وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم الهدف من بعثته فقال: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ» رواه البيهقي.
لذلك لم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا بذيئاً، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان من أكثر النَّاسِ تَوَاضُعاً وتسامحاً، يُواسي الفُقراءَ وَيَسْعى في قضاءِ حاجةِ الأرامِلِ والأيتامِ والمساكينِ والضُّعفاءِ، فما أعظَمَهُ من نبيٍ وما أحلاها من صِفاتٍ.
ما أحوجنا أن نفهم سنّته فهماً صحيحاً فنَتَجَمَّلَ ونتحلّى بصفاته الكريمة؛ لنكونَ على هديِهِ صلى الله عليه وسلم، لا سيما في هذا الزمان الذي ابتعد فيه الناس عن دينهم، فلنهذّب أنفسنا، ولنطهّر جوارحنا، ونربّي أبناءنا على هذه الأخلاق الإسلامية السامية، وعلى محبةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم منْ خلالِ التأسِي بصفاتِهِ وأخلاقِهِ، ودراسةِ سيرتِهِ العطرةِ المباركَةِ، وسيرةِ أهل بيته وأصحابِهِ رضوانُ اللهِ عليهِمْ أجمعينَ، الذينَ ربَّاهُمْ، فصنَعَ منهُمْ خيْرَ أُمةٍ أُخرجَتْ للناسِ..
فلنتعلم منه صلى الله عليه وسلم كيف تعامل مع أسرته، حيث كان يحدّثهم بأطيب الكلمات وأرقِّ التعابير، ويلاطفهم، ويُدخل السرور على قلوبهم، واذا أردتم أن تعرفوا أخلاق رجل فاسألوا عنه زوجته، وها هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم تصف أخلاقه بقولها: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ».
وكان صلى الله عليه وسلم على درجة عالية من المحبة في تعامله مع مجتمعه، فكان يشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم، ويهتمُّ بقضاياهم، ويسعى لحلِّها، ومن هنا يستمد المجتمع قوته وصلابته، ويطمئن الناس إلى بعضهم البعض، وتزداد ثقتهم ببعض، فيزول من المجتمع البغض والكراهية، ويحلّ الوئام والمودة، وتزول الآلام وتتحقق الآمال.
وكان صلى الله عليه وسلم قدوة في قيادته، فهو القائد المتواضع الناجح؛ الذي يسهر على مصالح الناس، ويستشعر قدر المسؤولية الملقاة على عاتق المسؤول، ويغرس هذا المفهوم في النفوس؛ فهو القائل صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِه، الإِمَامُ رَاعٍ ومَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ومَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» رواه البخاري.
ويَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئاً فَاحْتَجَبَ عَنْ حَاجَاتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَاقَتِهِمُ احْتَجَبَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَاقَتِهِ» رواه البيهقي.
وعلى هذا ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فلما تولَّوا أمر الناس من بعده جعلوه قدوتهم في ذلك، فأسعدوا مجتمعهم وأعزوا دينهم..
ولذلك أصبح حال كل مسلم مؤمن يقول: إني أحبك يا رسول الله..
نحبك يا رسول الله، لأن أقوالك وأفعالك مليئة بالهدى والخير والنور..
نحبك يا رسول الله، لأنك تحمّلتَ كل المشاق والتعب، لكي نسعد ونرتاح، فإليك يرجع كل فضل علينا بعد فضل الله تعالى، فقد بلّغتَ الرسالة، وأدّيتَ الأمانة، ونصحتَ الأمّة، وكشفَ الله بك الغُمّة..
نحبك يا رسول الله: لأنك لم تترك خيراً إلا ودللتنا عليه، ولم تترك شراً إلا وحذّرتنا منه..
نحبك يا رسول الله: لأنك كنت أرفع وأرقى وأسمى نموذج حيّ في الحياة، كنت أرقى صورة للمعلم المربّي الفاضل، وللزوج المثالي، وللحاكم العادل، وللقائد الصادق، وللأب الحاني..
نحبك يا رسول الله: فمن أخلاقك علّمتنا الأخلاق، ومن عبادتك علّمتنا كيف نعبد الله، ومن شجاعتك علّمتنا الشجاعة وعدم الخوف إلّا من الله، ومن كرمك علّمتنا الكرم، ومن عفوك وصفحك علّمتنا العفو، ومن رحمتك علّمتنا الرحمة والرأفة..
فلنفرح بمولد النبي صلى الله عليه وسلم كما يُحب، وليكن حبنا له صلى الله عليه وسلم حباً عملياً وليس عاطفياً فقط، والحب العملي هو أن نقتدي بهديه ونعمل بسنّته ونتخلّق بأخلاقه..
مراجعة واجبة لواقع العلاقة مع السنّة
{ كيف هي علاقتنا مع السنّة النبوية الشريفة... وأين الخلل في تلك العلاقة؟
- إذا نظرنا إلى واقعنا اليوم وجدنا أن علاقة كثير من المسلمين بالسنّة النبوية الشريفة علاقة عاطفة ومشاعر فقط.. فتراهم يكتفون بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وبادّعاء محبته ولكن أخلاقهم سيئة، يتمسّكون بالمظهر ويتركون الجوهر، فهل تكفي تربية اللحية مع النفاق وسوء الأخلاق؟ وهل يكفي لبس الحجاب على الرأس مع الغيبة والنميمة والطعن بالأعراض؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي تصوم النهار وتقوم الليل ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها: «لا خير فيها، هي في النار..»؟ رواه أحمد.
جميل جداً أن نشاهد الفرح بالمولد النبوي الشريف.. ولكن الأجمل أن يفرح النبي صلى الله عليه وسلم بأخلاقنا وسلوكنا وتعاملنا مع غيرنا.
الأخلاق والعمل أساس
{ إذا كانت السنّة النبوية الشريفة تدعو إلى كل خير فلمَ انتشر الفساد والشر في مجتمعنا؟
- المشكلة اليوم هي في بُعد بعض المسلمين عن الالتزام بسنّة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أسس السنّة النبوية الشريفة الأخلاق والعمل بإخلاص لإنقاذ المجتمع من وحول الأنانية والتكبّر والاستغلال، وهذا ما أدّى إلى انتشار الفساد في كثير من جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأصبحنا نعاني ما نعانيه بسبب ذلك، ولذك فإن الخلاص الحقيقي في التزام نهج النبي صلى الله عليه وسلم في جميع شؤوننا، عملاً بقول الله تعالى: {وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ ‌فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُواْ} [سورة الحشر: 7].
نسأل الله تعالى أن يفهّمنا جوهر ديننا، ويخلّقنا بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وكل عام وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وسنّته وطاعته حيّة فينا وفي سلوكنا ومجتمعنا.