بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 تموز 2018 12:05ص الدور الرائد لجمعية المقاصد في الرعاية الإجتماعية والصحية

حجم الخط
ان كثيرين من الأشخاص الذين يجودون  بالأقوال الفياضة والعواطف المتدفقة لجمعية المقاصد يضنون بالمال والفعال ، فهم ذوو  دين  ووطنية  تملآ القلوب ولكنها لا تصل الى الجيوب.ومثلهم كمثل ما جاء احدى اللطائف التي رواها الشيخ محمد عبده في مجالسه يستدرج بها الحاضرين ليبين جمال المعنى وحسن تطبيقه قال « مر رجل فارسي بآخر كردي جالساً الى جدار وبجواره جراب ممتليء وأمامه رجل مريض يتلوى ويتضور والكردي ينظر الى الرجل العليل ، بألم ظاهر ويقلّب فيه أجفانه، بلوعة ظاهرة ويشفق عليه بألفاظ رقيقة. فاستوقف هذا المنظر العجيب ذلك الفارسي فحيا الكردي في رفق وسأله عن الرجل ماذا تكون حاله؟ فأجاب الكردي إنه كما ترى فقير يموت. الفارسي: ومم يموت يا سيدي؟ الكردي من الجوع... الفارسي ومن هو هذا الفقير المسكين؟ الكردي هو بلا ريب صديقي... الفارسي وما هذا الجراب بجوارك يا سيدي ؟ الكردي هو جرابي الذي أنقل فيه أمتعتي.الفارسي أراه منتفخاً فما به ؟ الكردي مآكل ومطاعم وأقوات وزاد وذخيرة. الفارسي الحمد لله  إذا كان الفقير صديقك والجراب بما فيه ملكك ، وأنت مشفق على هذا الفقير الجائع الذي يجود بنفسه جوعاً، ولديك ما يسد رمقه فلماذا لا تعطيه فتحييه ؟ الكردي لم تصل المودة بيننا الى هذا الحد».
 ما زالت المقاصد منذ تأسيسها تخدم المجتمع تربوياً واجتماعياً وصحياً ودينياً لا تطلب حمداً ولا تنتظر مكافأة  فنذكر  ببعض ما قامت به  في القضايا الاجتماعية والصحية. 

  إدخال أولاد الشوارع الى مدرسة الصناعة 
أسرة حاسبيني من أسر بيروت القديمة اشتهر من أبنائها في القرن التاسع عشر «فتوتلو» سعيد آغا حاسبيني إبن صادق حاسبيني، وكان يوز باشي ضبطية بيروت والمسؤول عن ضبط الأمن فيها. ذاع صيت سعيد آغا المشار اليه سنة 1879م عندما حضر رجل إلى مركز الضابطة وقرر أنه قد سرق له مبلغ عشرون ليرة عثمانية. فبادر سعيد آغا إلى القيام ببعض الاستعلامات والتحقيقات، وتبين له أن المختلسين هم زمرة من الزعران، الذين  طالما شكت بيروت من أعمالهم وتصرفاتهم. فتتبعهم وعلم أنهم يأوون إلى قميم حمّام السراية. فلم يدرك لهم أثراً هناك. ثم بلغه أنهم اختبأوا في تربة الدباغة (قرب موقع سينما ريفولي)، فاقتفاهم إلى تلك النقطة، فرآهم يدفنون الدراهم في المقبرة ، فأخذ ينتزعها منهم فرداً فرداً، حتى بقي من المفقود أربع ليرات، تابع جهده في تحصيلها. ثم تبين له أن تلك الزمرة لم تكن تملك إلا أثواباً لا تساوي فلساً. وثبت من التحقيقات اللاحقة التي قام بها سعيد آغا ، أن زمرة الزعران المذكورة كانت قد سطت على بعض محلات البلدة ، فحولوا الى المحاكمة وحكم مجلس التمييز على كل منهم بالسجن ثلاث سنوات بالكورك دون التشهير (الكورك وضع الحديد في الأرجل والاستخدام في خدمات شاقة. اما التشهير فهو تشويه سحنة المحكوم عليه وإركابه حماراً يلجم من ذيله ويحول وجه الراكب اليه ويمشي امامه الطبال والزمّار ويدار في الأسواق. ويعفى من التشهير من كان عمره اقل من 18 سنة وأكثر من 70 ثم أعفي المشايخ والعلماء والأئمة وغيرهم من رجال الدين من الملل من التشهير). 
لفتت ملاحقة زمرة الأولاد المذكورين انتباه جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية التي كانت قد تأسست في تموز( يوليو) 1878م فتقدمت في كانون الثاني (يناير)1881 م من والي سورية مدحت باشا في قبول بعض  صبية من تلك الزمر في مدرسة الصناعة بدمشق ، فوافق الوالي. والتقطت الجمعية عشرة منهم أحسنت اليهم بالكسوة وخرج الطريق، ثم أرسلتهم إلى دمشق على نفقة المرحوم عمر درويش غزاوي باني مسجد رأس النبع (ذي النورين). 
معالجة المرضى الفقراء مجاناً من اطباء متبرعين من مختلف الطوائف
يذكر ان من بين الأسباب التي دعت المؤسسين الى تأليف جمعية تقوم بمقاصدهم الخيرية أن الطوائف المختلفة الفت جمعيات خيرية تقوم بمصالحها كافتتاح المدارس للذكور أو الإناث وخصصت لهاته المدارس الأبنية المناسبة واستحضرت معلمين بارعين وعلمت لغات الأجانب وعلوم الطب والجراحة والكيمياء والرياضيات، وأن الطائفة الإسلامية كانت غافلة عن ذلك مقتصرة على بعض زوايا مهجورة مملوءة بالعفونة والرطوبة مما يضر بصحة الأولاد، ومن المعلمين على المشايخ العميان، ومن الأطباء على أناس من الحلاقين والحجامين .ويضيف الفجر الصادق بأن الضروريات بلغت مسامع شبان بيروت بالحاجة لتأليف جمعية تقوم بمصالحها الخيرية.
وكانت المعالجات ايامها تتمثل بالضمادات والحقن والكي والفصد والتمسيد والحمية. اما العقاقير فكانت الأنيسون (اليانسون) والكمون للمغص والكبريت للجرب ولصقات بزر الكتان (قبل ورود اللزقات الاميركية) والنباتات القابضة للإسهال وتلك الملينة للإمساك.وقد حاول فؤاد باشا سنة 1861م ضبط الأوضاع الصحية في بيروت بأن فرض على الأطباء الحصول على شهادة من مدرسة أو رخصة من الحكومة.وعرفت بيروت حوادث وفاة  نتجت عن جهل المتطببين كما ثبت في التحقيق الذي اجري سنة 1877م في أسباب وفاة الشيخ خالد ابن الشيخ محمد ابي النصر اليافي .وكما حصل لغلام بترت ساقه بعد جبرها من قبل أحد الجهلة. وكما خاط متطبب جرحاً في فخذ مريض دون أن ينتبه الى انقطاع أحد شرايينه مما ادى الى وفاته. 
وعمدت الجمعية في المجال الصحي الى ختان الاطفال على نفقتها ومساعدة المرضى والمحتاجين ولاسيما الفقراء منهم وقامت بالتنسيق بذلك مع بلدية بيروت وبعض الأطباء والصيادلة ونشرت في تشرين الأول 1879م اعلاناً جاء فيه:
«لما كانت معالجة المرضى الفقراء الذين ليس لهم اقتدار على دفع أجرة الطبيب وثمن العلاج من الأمور الضرورية رأت جمعيتنا جمعية المقاصد الخيرية في بيروت من الواجب عليها أن تبادر الى هذا العمل المبرور فذاكرت مجلس بلدية بيروت الموقر بصدور أمره الى طبيبه جناب الدكتور نخلة افندي المدور بان يعتمد شهاداتها الى الفقراء لصرف ثمن العلاجات من صندوقها.وذاكرت ايضاً جناب الطبيب الدكتور سبنس الفرنساوي بذلك فأجيب ذلك الطلب بكل سرور. فتقدم الشكر والثناء للجميع.  كما أنها تقدم الشكر الجزيل الى جناب جرجي افندي طنوس عون الصيدلي الذي انتدب بالتبرع لإعطاء العلاجات اللازمة جميع الفقراء الناقلين شهادة من الجمعية مجاناً بلا ثمن. كما أننا نقدم الشكر ايضاً لجناب مسعود افندي الحيمري الصيدلي الذي تبرع بمقدار معلوم من العلاج مجاناً. ونقدم الشكر الى جناب أحمد افندي الاسكندراني جراح الضابطة الذي قدم نفسه لتلك الخدمة الخيرية مجاناً. وقد عينت الجمعية لجنة من أعضائها وهم أحمد دريان، الشيخ أحمد عباس، بشير البربير، عبد البديع اليافي، عبد الله الغزاوي، محمود خرما ، محمود رمضان، محمد اللبابيدي لتفقد أحوال المرضى وإعطاء الشهادات اللازمة للطبيب والصيدلي وتلقي الإفادات عنهم من محبي الخير وان الله لا يضيع اجر المحسنين في 9 ذي القعدة سنة 96».
إرسال خمسة طلاب للتخصص بالطب في القصر العيني
ولما كان العلم علمين علم الأبدان وعلم الأديان، عقد المؤسسون جلسة في محرم 1297 هـ/ كانون الأول 1879م وقرروا فيها إيفاد طلاب لدراسة الطب في مدرسة قصر العيني الطبية في القاهرة فخابرت الوالي مدحت باشا الذي خابر الحكومة المصرية بشأن قبول خمسة طلاب ترسلهم الجمعية الى مدرسة الطب المصرية. وحصلت الجمعية لهم على دعم من مدحت باشا وتوصية من فخري بك رئيس بلدية بيروت.واختارت لجنة من أعضاء الجمعية خمسة طلاب هم كامل قريطم، عبد الرحمن الأنسي، سليم سعد الدين سلام، حسن الاسير  ومحمد سلطاني. وكانت  منحة كل منهم الشهرية (50قرشاً). وقد أكمل منهم اثنان دراستهما هما عبد الرحمن الأنسي وحسن الاسير. وسافرا على متن البابور الافرنسي (Vapeur) من مرفأ بيروت يوم السبت في الثالث من شهر كانون الثاني 1880م من طريق الإسكندرية يرافقهما حسن افندي البوليس من طرف السلطة لتسليمهم الى سلطات الاسكندرية ونزلا فيها في بيت التاجر سعد الله حلابه شريك عمر وعبد الله الغزاوي. ثم انتقلا الى القاهرة وانتسبا الى مدرسة قصر العيني(القصر شيده المقر الشهابي أحمد بن العيني سنة 1466م على عهد جده السلطان المملوكي خشقدم .ثم اصبح مستشفى عسكرياً حلّت فيه جثة الجنرال كليبر عندما قتله سليمان الحلبي، ثم تحول الى مدرسة حربية الى أن نقلت اليه مدرسة الطب). 
وكانت الشهادة تمنح للطلاب الشّوام ( لم تكن تعطى للمصريين لإبقائهم في مصر وعدم مغادرتها والاستفادة منهم فيها. وكان عنوان شهادة الشوام «شهادة نامة طبية خديوية مصرية» ومكتوب في ختمها:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
أنهى اثنان من الطلاب الخمسة  دراستهما هما عبد الرحمن الأنسي الذي عين فور عودته من مصر طبيباً لبلدية بيروت ومشرفاً على الصحة العامة في المدينة. كما افتتح والدكتور حسن الأسير عيادة وجعل كل منهما مواعيد خاصة لاستقبال الفقراء ومعالجتهم مجاناً.
وقد لاقت خطوة إرسال الطلاب الى مصر ترحيباً كبيراً. فقد نشرت الجوائب في الأستانة سنة 1880م رسالة جاء فيها «إنا لنشهد والشهد لا يحتاج الى شهادة لكن الشكر لذوي الإفادة من العبادة، ان سكان النصف الشمالي من افريقية من البحر المحيط الغربي الى المحيط الهندي الشامل لجميع مملكة فاس والجزائر وتونس وطرابلس الغرب والصحراء الى بلاد الصومال وزنجبار وما يجاور تلك البلاد وسكان شرقي آسية من جزيرة العرب والعراق الغربي والجزيرة، جميعهم سيسلكون مسلك جمعية المقاصد الخيرية لما أبدته هذه الجمعية من تلك الإنسانية والخدمة الوطنية».
* محامٍ ومؤرخ