بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 أيار 2021 12:01ص السنّة والإنتماء للأمّة... نقطة ضعف وقوّة في آن معاً

حجم الخط
على أثر هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، سلّم الحاكم التركي إسماعيل حقي بك مقاليد الحكم إلى عمر الداعوق رئيس بلدية بيروت في 30 سبتمبر 1918، ثم وصلت برقية من الأمير سعيد الجزائري في دمشق يطلب فيها تشكيل إدارة عربية في بيروت، بإسم الحكومة العربية التي تأسست في دمشق. وعلى هذا الأساس تشكّلت حكومة عربية في بيروت في أول تشرين الأول، برئاسة عمر الداعوق ورُفع العلم العربي على المباني العامة.
لكن الحكم العربي لم يدم في بيروت سوى أحد عشر يوماً، فما أن دخل الأمير فيصل دمشق حتى أرسل شكري باشا الأيوبي إلى بيروت، فوصلها في 6 تشرين الأول وأعلن دخول المدينة في ظل الحكم العربي ورفع العلم العربي على السراي ثم توجه إلى بعبدا، فرفع العلم العربي على السراي ودعا مجلس إدارة المتصرفية إلى الاجتماع، وكُلّف رئيس المجلس حبيب باشا السعد بتولّي الحكم في الجبل.
في 7 تشرين الأول دخل الحلفاء إلى لبنان، الإنكليز عبر الساحل من فلسطين باتجاه بيروت فوصلوها في 7 تشرين الأول 1918 وأنزل الفرنسيون وحدات من الجيش الفرنسي في المدينة.
ما كاد الفرنسيون يدخلون بيروت حتى اعترضوا على الحكم العربي وأنزل دي بياباب العلم العربي، ورفع العلم الفرنسي وغادر شكري الأيوبي بيروت على أن يبقى جميل بك الألشي في بيروت بوصفه معتمداً عربياً لدى الفرنسيين.
إن الحكم العربي في بيروت في ظل حكم الأمير فيصل كان التعبير الأوضح عن فكرة الإنتماء للأمة لدى سنّة بيروت والمدن الساحلية كما لدى السنّة بشكل عام، فالمكوّن السنّي إعتبر الإنضمام الى الحكومة العربية في دمشق أمراً بديهياً يعكس فكر ونهج هذا المكوّن وإرتباطه بالعمق العربي وإعتبار نفسه إمتداداً لهذا طبيعياً لمحيطه العربي.
بعد إنتهاء مؤتمر سان ريمو في نيسان عام 1920، تم إعلان الإنتداب الفرنسي على كل من سوريا و لبنان، ما شكّل أول صدمة للطائفة السنية التي وجدته فيه إحتلالاً وسلخاً لها عن محيطها وعمقها التاريخي، لتبدأ إشكالية الإنتماء لدى أبناء الطائفة، وتطوّر الأمر أكثر مع إعلان قيام دولة لبنان الكبير في الأول من أيلول من العام 1920، حيث اعتبر ذلك إنجازاً لأهل متصرفية جبل لبنان الذين أدركوا أهمية تحوّل متصرفية جبل لبنان الى دولة لبنان الكبير، مقابل رفض سنّي واضح للفكرة والمطالبة بالوحدة مع سوريا في ترجمة للإمتداد التاريخي المرتبط بالهوية العربية والإنتماء الديني.
لم يقتنع المسلمون والسنّة خاصة بوجود دولة لبنانية ذات تاريخ منفصل عن محيطها، خاصة بعد تغيير الواقع الذي عاشوا خلاله طيلة ثلاثة عشر قرناً، وفي الخامس من كانون الثاني من العام 1926، عقد وجهاء المسلمين إجتماعاً في جمعية المقاصد الإسلامية حضره: أحمد عباس الأزهري ، حسن الأسير، حسن القاضي، حليم قدورة وغيرهم، وقد وضعوا مذكرة قرروا فيها بالإجماع طلب الإلتحاق بالوحدة السورية ورفض الإشتراك في صياغة الدستور، ثم عقد مؤتمر الساحل في دارة أبو علي سلام في المصيطبة وذلك في تشرين الثاني عام 1933، وقد حضره وفود من بيروت وطرابلس وصيدا وصور وجبل عامل، وتمّ رفع مذكرة الى المفوّض السامي الفرنسي دي مارتل، بموجبها حصل تطوّر في موقف وجهاء بيروت بالإستعداد للإعتراف بالجمهورية اللبنانية شرط المساواة والعدالة، وشكّل هذا المؤتمر تطوراً في وجهة النظر السنّية تجاه الإندماج والقبول، وفي التاسع عشر من أيلول من العام 1936، وقّعت المعاهدة السورية – الفرنسية، وكانت تكريس لوجود الجمهورية اللبنانية، وتزامن معها الإتفاقية المصرية - البريطانية، كما وقّعت المعاهدة اللبنانية - الفرنسية في الثالث عشر من تشرين الثاني من العام 1936 وصدّقها مجلس النواب في التاسع عشر من نفس الشهر، في حين لم تقرّها لجنة الخارجية في البرلمان الفرنسي.
تدرّج القبول السنّي للإندماج والقبول بالدولة اللبنانية مع التطورات الحاصلة مع فضائهم الرحب وإمتدادهم الطبيعي، فإنعكس الإتفاق الفرنسي - السوري والمصري - البريطاني قبولاً من سنّة لبنان بنتائج وتبعات قيام الدولة اللبنانية، حتى كان الإندماج الرسمي بعد الإتفاق بين المكونات اللبنانية بمسعى بريطاني - عربي، فيما عرف بإسم «ميثاق العام 1943».
كانت نكبة العام 1948، مثالاً حول الإنتماء السنّي الى تلك الأمة التي اعتبروها تاريخياً إمتدادهم الطبيعي، هذا فضلاً عن ثورة الجزائر والعدوان الثلاثي وغيرها من الحروب الإسرائيلية ضد العرب، فاعتبر السنّة أنفسهم معنيين بشكل مباشر بتلك الحروب الثورات كونها تمسّ أمتهم، وهو يمثل إنعكاساً واضحاً لشعورهم المستمر بالإنتماء لأمة، وهو ما ترتب عليه عدم وجود شعور لدى السنّة بالقوقعة أو الإنزواء أو الشعور بأنهم أقلية بين مكونات أخرى.
شكّلت الحالة الناصرية منذ خمسينيات القرن الماضي حالة جذب للسنّة للإنخراط ضمن المشروع الناصري، فكانت الوفود تتوجه الى دمشق ترحيباً وتأييداً لزيارة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حتى ارتفعت صور الزعيم العربي داخل كل منزل وشارع، في أبرز تجليّات الشعور السنّي بإمتداداته القومية والدينية.
بعد إنتهاء الحرب الأهلية بتوقيع إتفاق الطائف، برز الرئيس الشهيد رفيق الحريري كأبرز شخصية سنية مع علاقات دولية وعربية قلّ نظيرها، ومعه أحسّ السنّة بالإنتماء أيضاً وأيضاً لمحيطهم، وتمثل منذ تسعينيات القرن الماضي بالمملكة العربية السعودية، وكان للرئيس الشهيد الدور الأبرز في توجيه هذه البوصلة وهو القادم من تجربة عربية ثقلها ضمن حركة القوميين العرب.
بعد إغتيال الرئيس الحريري، خرجت مقولة «لبنان أولاً» الأمر الذي اعتبره الكثيرون الإندماج السنّي النهائي ضمن حدود البلاد، ولعل في الأمر مبالغة أو فهم خاطئ لواقع السنّة وقبولهم الإنخراط في الدولة اللبنانية، فالدولة اللبنانية ما كان لها أن تقوم لولا القبول السنّي، فالمكوّن السنّي هو أساس الشراكة الوطنية، وهو الذي قدّم شهداء من أعظم الشخصيات التي مرّت بتاريخ لبنان.
إن الإنتماء للأمة قد يكون عاملاً إيجابياً نقطة قوة للسنّة، فمع هذا الإنتماء، لا يشعر السنّة باليتم أو الإنعزال أو بالعددية كمشكلة، ولكن الإنتماء أعلاه قد يكون نقطة ضعف أيضاً، ومرد ذلك الى قبول السنّة بالتسويات والتضحيات، وفي الغالب على حساب مصالحهم.
الإنتماء للأمة هي نقطة قوة وضعف في آن معاً.
 * كاتب وباحث سياسي