بيروت - لبنان

اخر الأخبار

22 كانون الأول 2018 12:04ص الصنائع من مدرسة مهنية عثمانية الى مكتبة وطنية

حجم الخط
كان قد اشيع عن رغبة البلدية بإنشاء مواقف للسيارات في أرض حديقة الصنائع ثم عدل عن ذلك بعد اعتراض جمعيات  المجتمع المدني. وادى الاهتمام بالحديقة الى إغفال الوضع التاريخي والقانوني لأرض مدرسة الصنائع ولمبانيها التي جرى تغيير بعض معالمها لجعلها مكتبة وطنية. 
وقد أدت مباني الصنائع ولا تزال تؤدي وظائف مختلفة للدولة والمواطن. منذ ان تأسست كمدرسة صناعية مهنية الى جانب مستشفى خيري يخدمهما جامع شريف للأساتذة والطلاب وحديقة. وشغلت كلية الحقوق  والعلوم السياسية غرف المباني في ستينات القرن الماضي. وبسبب الحرب الاهلية اضحى احد اجنحة المبنى مقراً لرئاسة الحكومة  ثم الى مقر لوزارة الداخلية. وجرى مؤخراً تدشين المكتبة الوطنية  في الأبنية الباقية بعد تجهيزها بما يلزم. 
من المتفق عليه ان جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية تأسست في بيروت سنة 1878م بهمة خمسة وعشرين رائداً من عائلات بيروت. بدعم من والي سورية مدحت باشا ومتصرف بيروت رائف بك. وقد حدد البيان التأسيسي الصادر بعنوان الفجر الصادق أهداف الجمعية وهو تأسيس المدارس والجوامع. فحرص المؤسسون على انشاء جامع مع كل مدرسة يتم افتتاحها. ولأسباب بيناها في كتابنا (نور الفجر الصادق) أقدمت السلطة العثمانية سنة 1882م وبعد عزل الوالي مدحت باشا على حل الجمعية وإلحاقها بالمعارف كشعبة خاصة باسم « شعبة المعارف الأهلية « وعين لرئاستها نائب بيروت (أي القاضي الشرعي) عبد الله جمال الدين، وضمت في عضويتها تسعة من مؤسسي جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية. واعتبرت شعبة المعارف الأهلية عباءة  للجمعية بدليل ان أعضاء  شعبة المعارف الأهلية دعوا الأسر البيروتية التي سبق لها ان دعمت المقاصد، الى مواصلة دعمهم لشعبة المعارف «وعدم تغيير عوائدهم بإسعاف الفقير وبث العلوم» كما تمنوا على والي سورية الجديد أحمد حمدي باشا بأن يتمم تعميم فتح المكاتب خصوصاً المدرسة الداخلية. 
وبالفعل وأثناء ولاية الوالي المذكور أسست شعبة المعارف الأهلية سنة 1883م المدرسة السلطانية (المعروفة حالياً بكلية المقاصد للبنات في الباشورة). وفي سنة 1884م شكلت هيئة جديدة لشعبة المعارف الأهلية برئاسة مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري وعضوية احمد دريان وبديع اليافي وحسن بيهم وطه النصولي وعبد القادر قباني ومحمود رمضان ومحمد المغربل (وهؤلاء من مؤسسي المقاصد) وإبراهيم الطيارة واحمد العابد وعبد القادر الدنا وعثمان بيهم وعمر غزاوي (والد عبد الله احد مؤسسي المقاصد) ومحمود الخجا ومحمود درويش والأمير مصطفى أرسلان ومصطفى بك مدير المكتب الرشدي العسكري. 
وتعاظم دور شعبة المعارف الاهلية سنة 1907م عندما أولاها والي بيروت ابراهيم خليل باشا - الشهير بخليل باشا - عنايته فشكل لها هيئة مستقلة نوعاً عن ادارة المعارف برئاسة عبد القادر الدنا يعاونه اثنا عشر عضواً منهم عمر الداعوق وسليم علي سلام واحمد مختار بيهم ورشيد الفاخوري ومحمد الكستي ونجيب عيتاني. 
ومع انتهاء حكم السلطان عبد الحميد الثاني وقيام العهد الدستوري سنة 1908م، قرر مجلس ادارة ولاية بيروت تجديد الاعتراف بجمعية المقاصد الخيرية الاسلامية وإعادة نقل الاملاك من شعبة المعارف الاهلية الى الجمعية  الذي تولى رئاستها نقيب الاشراف الشيخ عبد الرحمن الحوت لمدة سنة تقريباً خلفه سنة 1908م الشيخ مصطفى نجا ثم سليم علي سلام (1909م) فعمر الداعوق (1913م). ومع اندلاع الحرب العالمية الاولى اصدرت الحكومة العثمانية قراراً ضمت بموجبه جمعية المقاصد الى المجلس العمومي وحولت املاكها الى الدولة طيلة الحرب حتى سنة 1918م حين تجددت الجمعية برئاسة المفتي الشيخ مصطفى نجا. فعمدت الى ترميم املاكها وإنشاء أبنية جديدة واستلمت المقابر الاسلامية مجدداً. 
يذكر انه في سنة 1908م اثناء رئاسة المفتي مصطفى نجا للجمعية تألفت لجنة منه ومن قاضي بيروت وعبد الحميد الغندور ومحمد الفاخوري «لزيارة الحاكم العسكري العثماني من أجل طلب المدرسة السلطانية وردها الى جمعية المقاصد اسوة بغيرها من الاملاك المرتجعة لأصحابها». وبعد الملاحقة تقرر تسجيل سند طابو برقم 99 تاريخ 18/7/ 1925م بتمليك المكتب السلطاني للمقاصد بموجب قرار المفوض السامي رقم 3010 تاريخ 4/3/1925م وأمر نظارة المالية المؤرخ في 9/7/1925م وتسلمت الجمعية المبنى وجرى ترميمه بإشراف الشيخ شريف خطاب وسمي «كلية البنات التابعة لجمعية المقاصد الخيرية الاسلامية». 
رخصة للسادة عرداتي وداعوق لإنشاء مدرسة صنائع
كانت الحاجة ماسة لإنشاء مدرسة صناعية مهنية  فبادر السادة عرداتي وداعوق سنة  1891 الى طلب ترخيص لتأسيس المدرسة المذكورة  في بيروت وأرسلوا نظامها الى مجلس الشورى في اسطنبول  ويتضمن اسم المدرسة «المدرسة الصناعية للأولاد والبنات» بعدد 300  طالب وتضم شعبة للأولاد وشعبة للبنات وان يتم منح الطالب بين قرش واحد وعشرة قروش يومياً مع توفير الكسوة والطعام والمبيت لعشرين بالمائة ممن ليس لأوليائهم امكانيات . وعلى ان يشمل التدريس الحياكة والتجارة والصباغة وصناعة الأحذية والدهان والنقش والنسيج والتجليد وما سوف يتم تحديده من الادارة. وقد وافق مجلس الشورى على النظام المشار اليه وكذلك الصدر الأعظم وصدرت ارادة سنية بذلك في 16/12/ 1891 (لدى الاستاذ  خالد داعوق التفاصيل كافة). 
افتتاح مكتب الصناعة والتجارة الحميدي 
إلا ان هذه المدرسة التي نال السادة عرداتي وداعوق رخصتها  لم تباشر عملها وهو ما دفع السلطنة ووالي بيروت خليل باشا وشعبة المعارف الاهلية لإنشاء مدرسة الصنائع.  
ونقول ان البعض من اهالي بيروت رأى سنة 1904م الحاجة ماسة الى انشاء مدرسة صناعية في بيروت يأوي اليها اولئك الصبيان الذين لا شغل لهم ولا عمل بل يكونون عبئاً على آبائهم ووطنهم ، فقرر مجلس ادارة ولاية بيروت استملاك خان الصاغة في سوق البازركان (سوق العقادين سابقاً) لتأسيس مدرسة صناعية مكانه ثم تقرر ان يكون هذا المكتب في منطقة الرمل. (يذكر ان جمعية المقاصد سعت فور تأسيسها  لإدخال بعض هؤلاء الصبيان الى مدرسة مهنية في دمشق).  
واحتفل في ايلول 1905م بوضع حجر الأساس لمكتب الصنائع بحضور والي بيروت خليل باشا والعلماء وعلى رأسهم قاضي بيروت عمر خلوصي ونقيب الاشراف الشيخ عبد الرحمن الحوت . كما احتفل في ايلول 1906م بوضع حجر الأساس للمستشفى الخيري. ولما كان مكتب الصنائع لا بد له من جامع شريف في باحته يؤمه الاساتذة والطلاب والمستخدمون لأداء الصلوات «احتفل في حزيران 1907م بوضع حجر أساس للجامع في الارض التي بنيت عليها وزارة السياحة ومبنى الإذاعة. وتم في ايلول 1907م افتتاح مكتب التجارة والصنائع وسمي « مكتب التجارة والصنائع الحميدي» وذلك في احتفال خطب فيه حسن بيهم وعبد القادر الدنا واحمد اللبابيدي والشيخ عبد الرحمن سلام . وقد اعد المكتب لاستقبال 600 تلميذ على مساحة 200 الف ذراع افرز منها 35842 ذراعاً للحديقة. واستعمل في البناء الحجر المنحوت النظيف المجلوب من اللاذقية وجعلت مدة التعليم 12 سنة منها 4 ابتدائية و3 رشدية و2 اعداديتان و3 تجارية، وكانت الصنائع المقررة هي الحياكة والخياطة والتجارة والخرازة (صنع الاحذية) والموسيقى واللغات العربية والتركية والفرنسية والانكليزية والالمانية. 
وعلى غرار ما حصل بعد حلّ جمعية المقاصد سنة 1882م وتعيين القاضي الشرعي عبد الله جمال الدين لرئاسة المدرسة السلطانية، عين الوالي خليل باشا القاضي الشرعي عمر خلوصي لرئاسة مكتب الصنائع مع أعضاء من شعبة المعارف الاهلية هم عبد القادر قباني والشيخ محمد الكستي والشيخ رشيد الفاخوري ومحمد اللبابيدي ومحمد ابراهيم الطيارة وامين حلمي اضيف اليهم نجيب طراد ونجيب الهاني وبشارة المهندس كما الف لجنة خاصة للمستشفى. 
وكان اهالي بيروت يعتبرون ان مدرسة الصنائع انشئت من اموال تبرعاتهم ومن الأراضي التي وقفوها في موقع الرمل بدليل ان محمد عبد الله بيهم أوصى سنة 1910 بأن يصرف من وارداته ثلاث مائة ليرة عثمانية لمكتب الصنائع  بشرط ان يكون المكتب «بيد الأهالي لا بيد الحكومة  وإلا ترصد هذه القيمة لمدارس المسلمين الأهلية». وبالتالي فان ملكية المدرسة وإدارتها يجب ان يعودا إما إلى جمعية المقاصد اسوة بالمدرسة السلطانية، وإما الى ادارة الاوقاف الاسلامية ، وعارضوا انتزاع الحكومة ملكيتها منهم. وتمثل هذا  الرفض بما ذكرته صحيفتا المفيد والاتحاد العثماني سنة 1911م بمناسبة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف الذي اقيم في ساحة  مدرسة الصنائع، من ان قاضي بيروت الشرعي (عمر فخر الدين) ومفتي بيروت (الشيخ مصطفى نجا) ونقيب الاشراف (الشيخ عبد الرحمن الحوت) تخلفوا عن حضور الاحتفال. وان لجنة مكتب الصنائع كانت قد وضعت امام الباب  الرئيس للمكتب يوم الاحتفال صندوقاً لتلقي تبرعات الإعانة للمكتب فلم يوجد في الصندوق «ولا متليك» واحد اعتراضاً وإظهاراً لغضب الاهالي من عدم رد الحكومة العثمانية المكتب اليهم الممثلين بجمعية المقاصد الخيرية  الاسلامية ( شعبة المعارف الأهلية ) او بإدارة الأوقاف الاسلامية. وقد تنجلي يوماً حقيقة مراحل انشاء مدرسة الصنائع عندما تكشف سجلات الأرشيف العثماني.
ومن المرجح ان سلطة الانتداب الفرنسي كانت خلال الفترة الاولى من حكمها تحاول استمالة الرأي العام الاسلامي ما دفعها الى الخضوع لمطالبة جمعية المقاصد فأعادت لها المدرسة السلطانية. ثم بعدما رسخت السلطة  اقدامها تمنعت عن اعادة مكتب الصنائع بذريعة الاعتراضات التي واكبت اعمال التحديد والتحرير وما نشأ من نزاعات بين ادارة المدرسة ومالكي الاراضي المجاورة كالنزاع الذي حصل سنة  1932م وما يليها  حول قطعة ارض ملاصقة غرباً لأرض المدرسة بين موريس زوين مدير مدرسة الصنائع وبين  نظير العيتاني وقد نظرت فيها محكمة الجزاء وطالت التحقيقات فيها عدة موظفين ومخاتير ومسؤولين في اللجان و الدوائر العقارية. وكان نظير يملك الارض التي يقوم عليها حالياً مصرف لبنان والتي كانت فيها شجرة جمّيز عرفت بجميزة البابور. (لقب بالبابور لأنه كان يعمل في شركة سكة الحديد).
واذا كان لا بد من كلمة أخيرة لبلدية بيروت فمما يؤسف له ان الشارع الذي فتح بجوار الصنائع كان يحمل  اسم الوالي خليل باشا وكان الوفاء يقضي بعدم تغيير اسم الشارع المذكور وتغييب اسم خليل باشا. كما حصل أيضاً لجادة الحميدية الذي استأجر فيها الشيخ محمد توفيق الهبري سنة 1909م   مبنى من طابقين يملكه يوسف ضيا بك ليكون مقراً لمدرسة دار العلوم وقد ابدل اسم الجادة بعد الاحتلال الفرنسي باسم شارع كليمنصو. 
 ونأمل ان تعيد البلدية الى الشارع اسمه الأصلي ومن الادارة ان ترفع عند مدخل المبنى لوحة تبين تاريخ المدرسة ومؤسسها وتاريخ تحويلها الى مكتبة وطنية. 
 *محامٍ ومؤرخ