أيام قليلة تفصلنا عن وداع عام ميلادي واستقبال عام جديد، وعامنا الذي سنودّعه حمل بين طيّاته الكثير من الهموم والمشاكل والغموم، والأحزان والأحداث العظام، فكم من دول انقرضت وكم من عالٍ انخفض وكم من غني افتقر، وكم من مظلوم انتصر، وكم شخص رحل عن هذه الدنيا، وكم ابتلى من معافى وكم... وكم...
وهكذا أيام العمر تتوالى وتتقارب على الرحيل وكأنها حلم، قال الله تعالى في كتابه العزيز: {كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالو لبثنا يوماً أو بعض يوم فأسال العادين قال ان لبثتم إلا قليلاً لو انكم كنتم تعلمون افحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وانكم إلينا لا ترجعون}.
ونتساءل اليوم أين المتفكرون في كلام الله وأين المتعظون في أحداث الأيام والليالي ومن انقضاء السنوات والأعوام؟ أين المتحيزون للقاء الله؟ كم أناس عصوا ربهم في الأيام والليالي المنصرمة، فبين مضيّع للصلوات وبين عاقٍ لوالديه وقاطع لرحمه، وبين آكّال للربا ومضيّع عمره في النظر إلى المحرّمات وبين واقع في الكذب والغيبة والنميمة وبين حاسد وظالم ومتكبر وبين آكّال لمال الدنيا وبين حريص على الدنيا لا يأبه لآخرة ولا معاد.
بعد أيام يتوقف الكثيرون في أنحاء العالم يتأملون حصاد عام مضى قد أصبح في ذمة التاريخ ويتلمّسون ملامح عام جديد لا يزال جنينا في رحم الغيب، هذه الساعات الفاصلة بين عامين تخضع للكثير من المراجعات والكثير من التوقعات، وفي كل الأحوال نتمنى أن تكون أيام وسنة جديدة مفعمة بالأمل وأن تحتوي طموحات تهب الجميع شعوراً بالرضا والثقة في الغد المرتقب.
فهنيئاً لمن مضى عمره وانقضى عامه على طاعة الله عزّ وجلّ، ويا خسارة من مضى عمره وانقضى وهو على معصية، وشتّان بين الفريقين…
فماذا يقول العلماء مع قدوم العام الجديد؟..
النقري: الطيور تختبئ لكي تموت
بداية قال الشيخ د. محمد النقري: هذا العنوان مستمد من رواية أدبية شهيرة لكاتبتها الأسترالية كولين ماك غوليغ سنة 1977. بدايتها تتحدث عن صاحبة مزرعة دفعها طمعها في حرمان شقيقها من حصته الإرثية لتبقيه بصفة رمزية كمشرف على مزارع العائلة... تعاقبت الأحداث بعدها لتغيّر مسيرة عائلة بأكملها وتقذف بها الى أحداث أليمة متلاحقة.
تطابقت في ذهني مقتطفات من أحداث هذه الرواية مع مجريات الأمور في لبنان، من خلال مفردتين أنتجتا بينهما عنواناً متناقضاً تماماً عن عنوان الرواية. فالمزرعة هي تعبير عن المنهجية التي تدار بها البلاد من قبل حفنة مزارعين سيئي السمعة وطامعين في أرزاق الآخرين. والحرمان يتعدّى الحصص الإرثية لأصحاب الحقوق ليشمل سرقة شعب بكامله، ونهب خزائن الدولة، وتفريغ المصارف من ودائعها وترحيلها الى حساباتهم في الخارج. أما العنوان المتناقض فهو أن السياسيين في لبنان لا يختبئوا لكي يموتوا، بل تدبّ بهم الحياة كلما سرقوا ونهبوا. فمفهوم الموت الذي تتحضر له الطيور وتختبئ، هو في قاموس هؤلاء الساسة مقلوب رأساً على عقب وهو مرادف للحياة التي تنعشها السرقة والنهب والطمع والجشع وحب السيطرة بلا خوف ولا وجل، وبلا حياء ولا خجل.
في الأمس كنا نفتخر بأن لبنان سويسرا الشرق، وأنه البلد الأكثر ديمقراطية، وأن نظامه السياسي كما يصفه القانوني الكبير ادمون رباط بأنه فريد من نوعه «sui generis» وأن مستوى التعليم لدى أبنائه مرتفع حيث يعتبر أبنائه من أكثر أبناء البلاد العربية ثقافة وانفتاحا، وأنه بلد الرسالة الى العالم نظراً للعيش المشترك الواحد لأبنائه. أصبحنا الآن في قعر الأمم المتخلّفة وغير النامية. فماذا تغيّر فينا؟
الفساد عندما يطال أفراداً معينين لا يخشى المجتمع من التغيير والتبديل في بنيانه وعلى أمنه واستقراره، فخطرهم محدود ومعروف في كل مجتمعات العالم حتى الأكثر ديمقراطية وتمسّكاً بالقانون. هم كالطيور يختبئون حين تصبح نهايتهم وشيكة، مع فارق انهم يختبئون خشية الإمساك بهم وليس خجلاً أو حفظاً لكرامتهم. حين تترصدهم الدولة أو تنتظرهم حتى يقعوا في شراكها تتلقفهم وتضعهم في غياهب سجونها ولو كانوا في قمة المسؤولية. ولكن الفساد لدينا ليس فساد أفراد، بل هو فساد مجموعات وعصابات، فينتقل من تصنيفه كفساد أفراد ليتحول الى مؤسسة فساد ويصبح خطره مستديماً لا انفصام فيه. فالمؤسسة في تعبيرها القانوني كما يعرّفها J. CHEVALLIER في كتابه باللغة الفرنسية «المؤسسة»: التقاء مجموعة أفراد على فكرة معينة على جهة الديمومة يصاحبها وجود سلطة. فالفساد في لبنان فكرة اجتمع على استمرارها وتأبيدها فاسدون مفسدون فولّدوا سلطة وتحكّموا في البلاد وبرقاب العباد.
تمرُّ السنوات تتبعها السنوات وفي كل مطلع سنة جديدة نتمنى أن يفرط عقد مجموعة الفساد أو يردّوا الى أرذل العمر فلا يعلموا من بعد علم شيئاً، ولكن الأمنية شيء وإرادة التحقيق شيء آخر. الأمنية يظهر فيها التواكل وترك الأمور الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا، وإرادة التحقيق فيها سعي وتصميم تبتدأ من (ان الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)، وتتوسطها (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله) وتختتمها (وذلك هو الفوز العظيم).
شحادة: نتطلّع لتولّي رجال العدل المسؤولية
أما القاضي الشيخ حسن الحاج شحادة فقال بدوره: تمرُّ الأيام تلو الأيام وتلك الأيام نداولها بين الناس، وها نحن على مشارف وداع عام من أعمارنا ونستقبل آخر من الممكن أن يكون ذلك مناسبة يحتفي بها الكثير في العالم في بلادهم المختلفة كل على طريقته ولا زال اللبنانيون يودّعون عام ويساورهم الخوف من العام الذي يليه لما يشهده هذا الشعب من أزمات تلو الأزمات الى أن وصف الوضع ان اللبنانيين بالوضع العام ذاهبون الى جهنم وكان من يحدد ذلك هم البشر اننا لا نيأس من الأمل بالله تعالى لقد مرَّ لبنان على مدى عشرات السنين بالعديد من الأزمات والحروب وكان يخرج منها بإذن الله متعافيا ولذلك نحن نودّع العام الحالي الذي كان كسابقه مليئا بالمصاعب والأزمات الاقتصادية والإنسانية والعواصف السياسية وكلنا أمل بأن يأتي العام الجديد بالمخارج لأزمة لم نشهد لها مثيل من قبل ما يمكن أن نتعلمه من ذلك اننا لا يجب أن نبتعد عن الإيمان بالله الذي بيده كل شيء ولا يظلم عنده أحد وأن نؤمن بأن بعد العسر يسرا وأن نحافظ على الود بيننا وننبذ الأحقاد والأنانية والتظالم فيما بيننا كي نستحق رحمة من الله عزّ وجلّ، فهو الرحمن الرحيم.
وتابع: ونأمل أن تكون مرحلة انتقالية في حياتنا الى عام نأمل أن يكون مختلف على جميع الصعد وأن يكون مليئا بالخير ورجال العدل الذين ننتظر توليهم أمر البلاد والعباد فلم يعد هناك مجال للتحكّم بأمور الناس وسلب الأمل من حياتهم ومستقبلهم وأن يهيئ الله لنا حكّاما فيهم الخير والإنسانية ويعملون على تحقيق العدالة بين الناس وهذا ليس من أجل السنوات التي تمرُّ فهي سنّة الله التي فطرنا عليها بل من أجل بناء وطن يؤمن فيه أبناؤه وتذهب من أفكارهم رغبة الهجرة والهروب من الأزمات المختلفة.
وأضاف: لذلك أرجو الله عزّ وجلّ أن يرفع غضبه عنا ويمنّ علينا برحمته وعفوه ويهيئ لنا الأفضل فهو العليّ القدير وإليه المصير، انها ليست مناسبة للاحتفالات بانتهاء عام واستقبال آخر فهو عام يسجل علينا ويأخذ من أعمارنا وطوبى لمن عمل صالحا في كل ما مضى من الأعوام بل هو مناسبة كي نراجع فيها ما عملنا وما صنعته أيدينا وما قدّمناه ان كان خيرا فهو لأنفسنا وان كان غير ذلك فهو علينا ولدينا فرصة العودة الى الخير والعمل الصالح الذي به تصلح المجتمعات. وفي الختام أتمنى أن يأتي العام القادم مختلفاً عما سبقه ويكون فيه السعادة والسلام والأمن لكل لبنان واللبنانيين وأن يجعل لنا مخرجا الى حياة أفضل.
حداد: أملنا بالله كبير
أما الشيخ الدكتور أسامة حداد، المفتش العام للأوقاف الإسلامية في دار الفتوى، فقال بدوره: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، وها قد مضى عام بكل ما يحمل من أحداث وأفراح وأحزان، وجاء عام لا ندري ما الله فاعل فيه..
عام مضى، كم شقي فيه أناس؟ وكم سعد فيه آخرون؟..
وكم من طفل قد تيتّم؟ وكم من امرأة قد ترمّلت؟ وكم من صحيح قد مرض؟ وكم من مريض قد تعافى؟..
كم ودّعنا في هذا العام من صديق وحبيب! وكم نقلنا إلى المقابر من عزيزٍ وقريب! وأحدنا لا يدري هل يتم هذا العام عليه، ويدرك العام الجديد، أو لا، فالموت الذي تخطانا إليهم سيتخطى غيرنا إلينا، فاعتبروا يا أولي الأبصار..
وأضاف: في مرور هذه الأعوام وتتابع السنين، وانقضاء الأيام والليالي عبرة وعظة، يتوقف فيها المسلم مع نفسه، يحاسبها على ما مضى وينظر فيما هو آتٍ، فقد قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَعمالَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنَ عليكم، وَتَجَهَّزُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}»، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ، عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَا عَمِلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ»، كما قال عزّ وجلّ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سيُسأل العبد عن كل شيء، فقد سُطِّرت أعماله وأقواله وحركاته وسكناته وجميع أفعاله في كتابٍ {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا}، والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قال لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: «اغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ».
وتابع: نلفت انتباه بعض المسلمين الذين يتشبّهون بغير المسلمين في عاداتهم وتقاليدهم ومنها وضع شجرة التي ينسبها البعض إلى الميلاد زوراً، فأساس هذه الشجرة وثني ووضعها في بيوت المسلمين مخالف لشرع ربنا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» رواه أبو داود، نعم لا مانع من أن نهنئ شركاءنا في الوطن بأعيادهم ومناسباتهم مع الحفاظ على عقيدتنا وشريعتنا في أسلوب التهنئة وألفاظها، ولكن لا يجوز لنا أن نشارك في طقوس واحتفالات لا علاقة لديننا بها، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: «مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟» قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْراً مِنْهُمَا يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ».
وأردف قائلا: لا بد من وقفة محاسبة صادقة مع مرور عام، واستقبال عام جديد، ماذا قدّمنا لغدنا، ماذا قدّمنا لديننا ومجتمعنا؟ وهل ستظل أحوالنا كما هي عليه في السنوات الماضية؛ لا بد للمسؤولين من وقفة محاسبة لأنفسهم.. ماذا قدّموا للوطن؟ وهل كانوا أهلاً لتحمّل المسؤولية؟
إننا مع كل هذا، نتفاءل كثيراً بدخول هذا العام، وأملنا في الله كبير، أن يكون هذا العام عام خيرٍ وعزّة، واستقامة وصلاح الأحوال، ويقظة ضمير للقادة والعلماء، والشباب والنساء والرجال.