بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 كانون الأول 2021 12:01ص العمر مسؤوليَّة.. كيف نتعامل معه؟!

حجم الخط
أيام وتطلُّ علينا سنة ميلادية جديدة، وهي مناسبة جديدة للتوقف عن دلالات الزمن وكيف يمرُّ العمر على الإنسان، والتأمّل في هذه المعاني بعيداً عن اللعب واللهو وما يثار من أجواء تعطّل العقل وتهزّ وجدان الإنسان بما يفقده التوازن الذي يفرض عليه مراجعة نفسه والتخطيط لمستقبله في مثل هذه المناسبات المفصلية.

فالدعوة القرآنية للتفكير بالمستقبل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} تريد من الإنسان أن ينظر بعين المسؤوليّة إلى اليوم الذي سيقف فيه بين يدي ربّه، حين يسأله الله سبحانه فيما يسأله عن عمره فيما أفناه؛ هل كان حريصاً على الاستفادة من دقائقه وساعاته وأيّامه ولياليه؟ هل أدّى خلاله المسؤوليّات الملقاة على عاتقه، أم أهدره وضيّعه؟ فالزّمن في حساب الله هو مسؤوليّة، وسيحاسب الإنسان عليها.

فقد ورد في الحديث: «لا تزول قدَما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه».

ولذا، حذّرت الآيات الكريمة والأحاديث الشّريفة الإنسان من تضييع فرصة العمر الذي قدِّر له وعدم التفريط فيه.

لذلك، ورد في الحديث: «إنّ العمر محدود، لن يتجاوز أحد ما قدّر له، فبادروا قبل نفاد الأجل».

وورد في هذا المجال: «كُن على عمرك أشحَّ منك على درهمك ودينارك»، أي كُن بخيلاً في صرف هذا العمر، فلا تصرفه إلا بحساب، كما تفعل في أموالك، لا بل وأكثر، ذلك أنَّ الأموال يمكن أن تُعوَّض، ولكن الأعمار لا تُعوَّض، فالسّاعة الّتي تذهب لن تعود.

وقد جاء التَّحذير في القرآن الكريم من المصير الذي يواجهه من ضيَّع عمره: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ}. وفي الحديث: «احذروا ضياع الأعمار فيما لا يبقى لكم، ففائتها لا يعود».

حوِّلْ عمرَكَ إلى رصيد

أمّا الطريق الذي لا بدّ من سلوكه لتحقيق هدف العمر والإعذار إلى الله سبحانه فيه، فقد أشار إليه الحديث: «إنَّ عمرك مهر سعادتك؛ إن أنفدتَه في طاعة ربِّك». «احفظ عمرك من التّضييع له في غير العبادة والطّاعات». ما دمت أنت ستخسر عمرك على كلِّ حال، فاحرص على أن تحوِّله إلى رصيدٍ لك عند ربِّك، وإلى عملٍ تلمسه في دنياك. وفي أثر  آخر: «إنَّ اللَّيل والنَّهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذْ منهما».

وأشارت سورة العصر إلى ما ينبغي للإنسان أن يملأ به عمره، فقالت: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. فقد بيّنت أنّ الإنسان خاسر دائماً، لأنه في كلّ يوم يفقد جزءاً من عمره، لكنّه لن يكون خاسراً إن استغلّ عمره في الإيمان وفي العمل الصّالح، وكان عنصر خير للآخرين، وراح يوصي غيره بالحقّ والصّبر.

لكنَّ هذا لا يعني أنَّ الإسلام يُنكر على الإنسان حقّه في أن يرتاح في عمره، فهذا ضروريّ، ولكنّ الرّاحة في منطق الإسلام لا بدَّ أن تكون لحساب مسؤوليّاته تجاه الله وتجاه النّاس، وليس على حسابها، وهذا ما أشارت إليه رواية: «للمؤمن ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربَّه، وساعة يرمّ فيها معاشه، وساعة يخلّي بين نفسه وبين لذّتها في غير محرَّم، فإنّها عون على تينك السّاعتين».

الاستفادة من نعمة العمر

إنَّنا نستطيع أن نصنع الكثير لأنفسنا وللحياة من حولنا، عندما نحسن الاستفادة من هذه النّعمة الكبيرة؛ نعمة العمر الّتي وزَّعها الله على كلِّ عباده بالتّساوي، فالدّقيقة الّتي تمرّ - وهي تمرّ على الجميع - والتي قد لا نبالي بمرورها، ونستهتر بأهميَّتها، نستطيع أن نبلغ بها الكثير، ففي الدَّقيقة، نستطيع أن نصل رحماً عبر الهاتف، أن نتكلَّم بكلمةٍ طيّبةٍ تفتح قلوب الآخرين على الخير، أن نقدِّم نصيحةً إلى من يحتاج إليها، أن ندخل السّرور على قلوبٍ من حولنا ببسمةٍ أو تعبيرٍ صادق... بسماع شكوى تُنفّس غمّاً...

إنّنا بدقيقةٍ نعتبرها لا شيء في حساباتنا، نستطيع أن نكون من الذَّاكرين الشَّاكرين الحامدين للّه عزَّ وجلَّ.

وبدقيقةٍ، يمكننا أن نكون كرماء، ونشارك الله وملائكته في الصّلاة على محمّد وآل محمّد. وفي العمر الكثير من الدّقائق التي تمكننا الاستفادة منها، وسنتحسّر عليها عندما نقف بين يدي الله.

لقد أصبحت كلمة قتل الوقت جزءاً من قاموسنا، وصرنا نريد تقطيع الوقت كيفما كان، بحيث بتنا نملؤه لغواً ولهواً وعبثاً وبفضول الكلام، ووصولاً إلى تناول النّاس بالقيل والقال في السّهرات والجلسات أو عبر مواقع التّواصل، أو بأن نتسّمر خلف الشّاشات والفضائيّات، وما تتفنَّن به للاستحواذ على وقتنا وسلب اهتمامنا، ليصبح حديثَنا ومادَّة تواصلنا، أو في هذه الأيّام على مواقع التّواصل، في الوقت الّذي يمكننا أن نملأ أوقاتنا بما يمكن أن يغنينا فكراً وأدباً وعلماً نافعاً، وما يؤدّي إلى رضا الله وبلوغ جنّته.

إنّنا بحاجةٍ إلى متابعةٍ دائمةٍ ودقيقةٍ لحركة هذا العمر، فلا نغفل عن كيفيّة صرفه والاستفادة منه، ولا تحت أيّ حجّة، ولا نجعل من حولنا يملون علينا كيفيّة ملء أوقاتنا. والمحاسبة هي خير معينٍ على ذلك، وقد ورد في حديث الإمام كاظم: «ليس منَّا من لم يحاسب نفسه في كلِّ يوم، فإن عمل خيراً استزاد الله منه وحمد الله عليه، وإن عمل شرّاً استغفر الله منه وتاب إليه».

ولا نكتفي بذلك، بل نخطِّط لمستقبل أيَّامنا، كما عبّر عن ذلك الإمام زين العابدين (ع) في دعاء الصَّباح: «اللّهمّ ووفّقنا في يومنا هذا، وليلتنا هذه، وفي جميع أيّامنا، لاستعمال الخير، وهجران الشّرّ، وشكر النّعم، واتّباع السّنن، ومجانبة البدع، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وحياطة الإسلام، وانتقاص الباطل وإذلاله، ونصرة الحقّ وإعزازه، وإرشاد الضالّ ومعاونة الضّعيف».

التَّخطيط للمستقبل

بهذه الرّوح، روح المسؤوليَّة تجاه العمر والزّمن الّذي نعيش، روح المحاسبة على الماضي والتَّخطيط للمستقبل، نريد أن نطلّ على بداية سنةٍ جديدة.

وهو ما عبَّر عنه رسول الله (#)، فقد كان يحاسب نفسه مع بداية كلّ سنة فيقول: «أَللّـهُمَّ ما عَمِلْتُ في هذِهِ السَّنَةِ مِنْ عَمَل نَهَيْتَني عَنْهُ وَلَمْ تَرْضَهُ، وَنَسيتَهُ وَلَمْ تَنْسَهُ، وَدَعَوْتَني إِلَى التَّوْبَةِ بَعْدَ اجْتِرائي عَلَيْكَ، اَللّـهُمَّ فَإِنّي أَسْتَغْفِرُكَ مِنْهُ فَاغْفِر لي، وَما عَمِلْتُ مِنْ عَمَل يُقَرِّبُني إِلَيْكَ فَاقْبَلْهُ مِنّي، وَلا تَقْطَعْ رَجائي مِنْكَ يا كَريمُ».

بعدها يتوجّه إلى الله ليعينه على تجاوز العقبات التي تقف أمامه في قادم أيّامه وعلى القيام بمسؤوليّاته، فكان يقول: «اللّهمّ وهذه سنة جديدة، فأسألك فيها العصمة من الشّيطان، والقوّة على هذه النّفس الأمّارة بالسّوء، والاشتغال بما يقرّبني إليك، يا كريم».

«اللّهمَّ اجعل مستقبل أمري خيراً من ماضيه، وخير أعمالي خواتيمها، وخير أيَّامي يوم ألقاك يا أرحم الراحمين»...