وفقاً للمفهوم القرآني شهر رمضان لحظة وجودية عظمى تذكّر الإنسان بأن الأرض ليست مفصولة عن السماء، وأن ما نسمّيه بقوانين الطبيعة هو جزء من قوانين كونية أشمل، وبهذا السياق أراد الله للإنسان التفكير جيداً بأصل وجوده ومنطق ارتباطه بعقل المجموعة الكونية التي تعكس هوية الخالق العظيم، ومعه تتحدد معادلة «كون ومكوّن، صانع ومصنوع، خالق ومخلوق» بما يليق بالربّ الحكيم، وبخلفية هذه الكونية المترابطة ساق الله شهر رمضان كمفصل زمني أكبر من المفهوم الضيق للأرض ليقول للإنسان: وجودك ومصيرك مرتبط بإرادة السماء، وهنا أكّد علينا أن اختصار الإنسان بالحسّ أمر مدمِّر لأن القيمة الجوهرية للوجود أعمق وأكبر من المفهوم الحسي، لذا قدّم الله شهر رمضان كأكبر رحماته ولطائفه بمقاس ليلة القدر التي يُقدّر فيها كل أمر حكيم ليقول للإنسان أنت حرّ لكن ضمن سقف المجموعة الكونية وبذلك قدّم شهر الضيافة كشهر للأرض كلها وللإنسان كلّه، ما يفترض بالإنسان التطلّع نحو السماء وقراءة كتابها ومنطق أحداثها وموضوع مقدساتها، والثابت بنص القرآن وكتب السماء أن الإنسان هو المقدّس، على الأقل من زاوية الموجود الأرضي لأنه قد تكون هناك موجودات ذات قداسة ببحر هذا الكون، لذا على المستوى الأرضي قدّم الله شهر رمضان كحدث سماوي كبير للإنسان بما هو إنسان إلا من ضلّ الطريق، ومعه لا تكفي القداسة التكوينية والظاهرة الطبيعية بل لا بدّ من قوانين ترعى طبيعة الإنسان وتستثمره بما يتفق مع كمال وجوده ومنطق منافعه بسياق أهداف السماء، وهو ما عبّر الله عنه بقوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)، أي لا بدّ من كتاب سماوي يكشف مصير العالم وبقية العوالم والشروط الكلية التي تتفق مع جوهر الإنسان كقيمة سماوية، ومعها قال الله تعالى لا بدّ من فرقان سماوي وخريطة وجود ومنطق عوالم لا يصادر الحس ولا يفرّط بحقيقة الإنسان الباطنية لذا أصرّ على مفاهيم وضوابط سلوكية للإنسان ككائن أرضي وموجود سماوي، ومعه حين تعرّض للصوم قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، قال «تتّقون» لأنه لا يقبل مطلق سلوك أو تفكير أو مفهوم إلا ما يعزز الإنسان ومفهوم سماويته، ومن الجنون القول بأن الكون لا شيء وأن من خلق الوجود ترك الإنسان عبثاً وأنّ للإنسان أن يفعل ما يشاء حتى لو توحش وارتكب الإبادات، كلّ هذا المنطق لا يتفق أبداً مع عقل وبصمة من خلق الكون، وعليه يتعيّن على الإنسان سلوك مفاهيم تتطابق مع عقل الكون وحكمة الخالق، وهو بذلك يخاطب كلّ الخليقة، ولأنّ الله لا يصادر الإنسان وتجربته فقد أكّد على الخلائق ضرورة أن تتعايش وتتسامح وتتلاقى وتتعاون بعيداً عن الحقد والعداوة والأنانية والوحشيّات المختلفة، وهنا نقطع أنّ الكتب السماوية هي كتب رحمة وكفالة وشفقة وضمانة أشمل من الميزة الدينية الخاصة أي أنها ضمانة إنسان، وأنها رغم اختلاف الخلائق بفهمها للربّ وطريقة الإنتماء له تؤكد قداسة الإنسان ولا تتعامل معه بالسيف أو القطيعة أو الخنق والقتل بكافة أشكال القتل المالي والتجاري والتقني والعسكري والمعيشي والحقوقي وغيره، وخلاصة الأديان بشهر الله تبدأ بالإنسان وتنتهي به، ومعه فإنّ الإختلاف الفكري والديني والحضاري ليس سبباً للقطيعة والعداوة، نعم الأفكار العدوانية كارثة كبرى لذا يجب محاربتها وقمعها لأنها تؤسس لجيل وكيانات متوحشة، ولذلك كمفهوم لشهر رمضان كما قدّمه الله هو شهر روح الإنسان والأرض والكون كقيمة أكبر من حس ومادة، هو شهر له صلة بالسماء أكثر منه بالأرض، وبالمعنى الإجتماعي هو شهر الرحمة والبرّ والخير والإحسان والأمان والرأفة بالإنسان ليس كقيمة فردية فحسب بل كقيمة جَماعية ومجتمعية وسياسية وأخلاقية عبر نظام سياسي ضامن للحقوق الأساسية للإنسان بما هو إنسان، بمعنى أن شرعية أي نظام سياسي تُستَمد من حقوق الإنسان نفسه بعيداً عن لونه وعرقه وجنسه وملّته وحضارته وطائفيته، وهو ما طالبنا به لهذا البلد تأكيداً لكرامة الإنسان وتأسيساً لمنظومة سياسية عادلة بعيدة عن طاعون الطائفية والمناطقية ووفقاً لمفهوم حكم مجرّد يضمن المواطنة ويوظف المؤسسة الدستورية السياسية ضمن مصالح المواطن(كإنسان له قيمة شرفيّة)بعيداً عن ملّته وطائفته مع احترام خصوصيات الطوائف والإقرار بعظمة السماء وديانتها، على أنّ تعزيز القيمة الدينية أمر ضروري لأنّ روحيّة الأديان تقوم على الرحمة والمحبة والبرّ والإحسان والعدالة والشراكات المختلفة بالخير والعون عليه، على أنّ مطلبنا بالعدالة السياسية المجرّدة ناظر بشدّة إلى القطاعات المالية والنقدية والإقتصادية وعالم الأسواق والأرزاق والبرامج الإجتماعية لأنها الركيزة الأساس لمفهوم العدالة ومنع الظلم والفساد والإستئثار والصفقات بمختلف أشكالها، ومنها منع الفريق الحاكم من تجيير السلطة لمصالحه الشخصية أو الحزبية أو المناطقية وهذا يفترض تأسيس منظومة سلطة ممنوعة على الأنانية والمصالح الشخصية والسياسية للفريق الحاكم وبهذا تفترق مصالح السلطة عن مصالح من يحكم على طريقة مصالح المواطن وحيثيتها وهو أكبر مراد الله بأي سلطة. وكختام: لا يقبل الله أي سلطة فاسدة أو ظالمة أو مفرّطة أو أنانية ولديه مسلّمَة واحدة وهي ضرورة أن تكون السلطة منظومة حكم تدور مدار مصالح المواطن كمواطن توازياً مع المبادئ الأخلاقية والوجودية وبعيداً عن لغة العداوة للأديان وبما يكفي لربط الأرض بالسماء ويمنع أباطرة الطائفية والأسواق والسلطة والنفوذ من ابتلاع البلد باسم الربّ الديّان أو باسم السلطة ولعبة شراكاتها المالية والنقدية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* المفتي الجعفري الممتاز