بيروت - لبنان

اخر الأخبار

5 أيار 2023 12:00ص المسلم والقرآن بعد انتهاء شهر رمضان المبارك.. بعد انقضاء شهر الصوم وفي أيام العمر كلّها ليس لنا إلّا القرآن أنيساً وجليساً

حجم الخط
يلاحظ على كثير من المسلمين قلّة اكتراثهم بالقرآن قراءة وحفظاً وتدبّراً وعملاً، وقد يمرُّ على بعضهم أحد عشر شهراً لا يفتحون فيها المصحف ولا يطالعون فيها آية، فإذا دخل شهر رمضان قرأوا القرآن كلّه هذرمة (أي مسرعين) غير متدبرين لآياته ولا عاملين بما فيها من أوامر ونواهٍ ثم يعودون إلى هجر القرآن بعد رمضان. وفضل القرآن عظيم.. فهو كتاب حياة ومنهج وجود للإنسان، وهو يقدّم للمسلم كل ما يحتاج في الدنيا والآخرة، ويجيب عن كل ما يخطر بباله من تساؤلات.. إنه أب حنون وأم رؤوم، ينزل على القلوب المؤمنة برداً وسلاماً، ويمسح بيده الحانية عليها، فيزيل كل ما يعلق بها من أمراض وآلام، فهل يُعقل أن يغفل المسلم عن هذا الخير ولا يجعل لنفسه وِرْداً - ولو صغيراً - من القرآن..؟!
كيف نستطيع أن نستمر بهذه العلاقة مع القرآن الكريم بعد رمضان؟..
هذا ما سنطرحه في التحقيق التالي:

أبو شعر

بداية قال الشيخ يحيى أبو شعر، المدير الإعلامي في صندوق الزكاة: أشكر جريدة «اللواء» الغرّاء وتحديداً الصفحة الإسلامية على تخصيصها لي مساحة مباركة وإتاحة الفرصة للإطلالة على القرّاء الأعزاء، واغتنم الفرصة لأقول إن روحانية شهر رمضان المبارك لم تزل عالقة في النفوس، وحلاوة الطاعات ما زال أثرها باقٍ في القلوب، والناصح لنفسه من اغتنم دوافع الخير وجعلها سبيلاً لبلوغ مرضاة الرحمن، وطريقاً لتحقيق المزيد من الخيرات، فمن جدّ واجتهد فله عليه أن يثابر بل يزيد من جهده واجتهاده في الطاعات والقربات والعبادات، وحريٌ بالعاقل أن يعلم أن ربَّ رمضان هو ربُّ بقية الشهور والأيام، والمسلمون عند وداع رمضان ينقسمون إلى فريقين: فريق يفرح بانقضائه، وكأنه الجبل على صدره؛ لأنه ما عرَف حقيقة الصيام، ولا تلذَّذ بالقرآن، ينتظر انتهاء الشهر ليأكل ويشرب، ويطلق العنان لنفسه وهذا الصنف هم المحرومون في رمضان؛ لأنه إن صام لا يزيد عن صوم العموم.
والفريق الثاني: هم الصادقون الذين يفرحون بقدوم رمضان، وعند فراقه ينادونه بلسان الحال: يا حبيب الصالحين، يا حبيب المستغفرين، يا حبيب التوابين، يا شهر رمضان ترفَّق، دموع المحبين تتدفَّق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق.
وأضاف: إن من الناس من يستقيم حالُه في رمضان، فإذا ما انتهى الشهر عاد إلى حالته القديمة وسِيرته الأولى، فأفسَدَ ما أصلَحَ في رمضان، ونقض ما أبرم مع الله، كن عبداً ربانيًّا، ولا تكن رمضانيًّا، من كان يعبُد رمضان فإن رمضان قد ولَّى وانقضى، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، ولتكن الشهور كلُّها رمضان، وحياتك كلها رمضان، واعلم أن رمضان الصالحين لا ينتهي؛ فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة» أي: تصلح للسفر؛ بمعنى: أن القليل من الناس هو الذي يشكر ربَّه، هو الذي يثبت على طريق الله، فلماذا لا تكون أخي في الله صاحب همّة عالية؟ لا ترضى بالدون، ولا تقنع بما دون النجوم، فأهل العزائم علموا حقيقة الحياة، وأنها حياة كدٍّ وتعب وعناء، وفقهوا قوله تعالى لنبيِّه: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} أي: إذا فرغت من عبادة يا محمد، فادخل في عبادة جديدة، وقرَّروا أن تكون الراحة في الجنة إن شاء الله.
ولعل من أهم العوامل أثراً للثبات بعد رمضان قراءة القرآن، أنيس الصالحين، وروح المؤمنين، فمن ذاق حلاوة القرآن في رمضان فلن يهجره أبداً، ومن طهّر قلبه فلن يشبع من كلام ربه، قال سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: «لو طهُرت قلوبُكم، ما شبعتم من كلام ربِّكم». القرآنَ هدًى للناس، وشفاءً لما في الصدور، وَأَمَرَ عباده المؤمنين بتدبُّره والعمل بما فيه، ورغَّبهم في ذلك بذِكْر ما يترتّب عليه من فلاحٍ في الدنيا والآخرة، كما حذَّرهم من الإعراض عنه، وأخبرهم في أكثر من موضع عن أثر هذا القرآن العزيز في تزكية النفوس وتغييرها. احفظ وردِّد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد»، ودعاء: «يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلوبنا على دينك».
وتابع القول: أما عن كيفية أن نترجم القرآن الكريم في حياتنا بعد شهر رمضان فلا بد من القول أن الإنسان لديه احتياجات، منها ما هو حسيّ وما هو معنوي، وفي كلٍّ منهما يحتاج الإنسان إلى غذاء يسدُّ هذا الاحتياج، والقرآن الكريم كما أنه قد أُنْزِل شفاءً ونوراً وهدىً وبصائرَ للناس؛ فقد أُنزل سدًّا لاحتياج الإنسان، ولذلك كان تغييره للإنسان عجيباً وغريباً وفريداً.
إنّ القرآن لم يغيِّر في جانب واحد من الإنسان أو بعض الجوانب المحدودة، سواء على مستوى الجوانب السلوكية أو الإيمانية أو غيرها، بل كان تغييره شاملاً وجذريًّا؛ لأن القرآن خاطب الإنسان بكلِّه، ولم يخاطب جزءاً واحداً أو جانباً مفرداً فيه.
وأضاف: وإنَّ أول تغيير حدث للنبي -صلى الله عليه وسلم- كان في أول اتصال بالقرآن في رمضان، وكثير من الناس تغيَّروا بالقرآن وكانت أول علاقتهم بالقرآن في شهر رمضان، فهذه هي الفرصة الحقيقية، التي يجب ألَّا يضيِّعها الإنسان، وأن يبدأ في استغلالها، ولا يتردَّد في الاستفادة منها لتكون عاملاً فاعلاً في التغيير ثم أن يبقى هذا التغيير أثراً واضحاً في رمضان وبعد رمضان.
لا يسعني إلا أن أشير الى أن العالَم كله يمرُّ بأحداث استثنائية، ولا بد أيضاً أن يكون الارتباط بالقرآن في يومنا الراهن استثنائيًّا، ولا بد أن يكون هناك تعبّد وعبادة ومشاعر ولحظات استثنائية، هذه الأحداث فرصة ينبغي ألا يُغْبَن فيها المسلم فيها نفسه، بل هي من أفضل الأوقات للارتباط بكتاب الله سبحانه وتعالى، لأنّ الإنسان يكون فيها أشدّ احتياجاً إلى الوحي، وإلى خطاب يأتي من خارج الإنسان الضعيف الذي يحتاج إلى خطاب يأتيه من ربِّ البشر العليم الحكيم ليضيء به ظلام القلب والزمن وليرشده الى الحق والصواب ويوصله الى جادة الطمأنينة والأمان، وإنّ الناصح لنفسه هو الذي يحافظ على القدر الذي يجعل نفسه قريبة من حاله أيام رمضان، ويترجم الغنائم التي اكتسبها من ذلك الموسم المبارك واقعاً في حياته، تجده حريصاً قدر من القربات التي كان يعملها في رمضان لتمد القلب بالحياة، ويبقى إتصاله بربه دائما في رمضان وما بعد بعد رمضان.

شعراوي

أما الشيخ الدكتور خليل شعراوي، إمام وخطيب مسجد المكحل، فقال بدوره: يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، هذه الآية ذكرها الله تعالى بعد الآيات التي فرض فيها الصيام، فكأنَّ من صام رمضان حاله يرتقي، وصفاؤه يزيد وبعد انتهاء شهر الصوم ترنو نفسه للبقاء على ما كان عليه في رمضان، فأخبر الله عباده أنه قريب، وأعلمهم بذلك أنَّ الأمر ليس مناطه رمضان، فرمضان يأتي ويرحل، ولكن ربُّ رمضان باقٍ وهو الحيّ الذي لا يموت، القريب الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه.
وخير من يدلّك على الله الذي تسأل عنه وتحبه وتطلب رضاه هو القرآن الذي تعوّدت أن تتلوه وتتدبر آياته في رمضان، وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّه مأدبة الله فتعلموا من مأدبة الله ما استطعتم، إنَّ هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمةٌ لمن تمسّك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد».
وقال: فالمسلم بعد رمضان وفي أيام عمره ليس له إلا القرآن أنيساً وجليساً، ولن يستطيع أن يطبق آياته إذا لم يقرأ، فبداية الأمر قراءة وتدبّر وبعدها التطبيق والسلوك القوّيم، لأنَّ القرآن من طبيعته أنَّه يهدي للتي هي أقوم، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً}، بل وهو الذي يعرّفك على الله كما يريد الله، فحبّك للّه يحتِّم عليك حب كلامه، وكثرة التلاوة والتدبّر لآياته حتى يكرمك الله بتطبيق أوامره والانتهاء عن نواهيه، والأنس به ليلاً ونهاراً.
وأضاف: فالقرآن الصلة الوحيدة بينك وبين الله، وهو المخبر الحقيقي عن حبيبك الله، وسيدك الله، ورازقك الله، فلا ملاذ عن كتابه، ولا فرار عنه بل إليه. وبهذا تصير الدنيا حلوٌ فيها البقاء، وإلا فكما قال سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلّا ذكر الله وما ولاه أو عالم أو متعلم».
فالله هو الكريم يعطيك على تلاوتك لكتابه على كل حرف عشر حسنات، كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأ حَرْفاً مِنْ كِتاب الله فَلَهُ حَسَنَة، والحَسَنَة بِعَشْرِ أمْثَالِها، لا أقول: ألم حَرفٌ، ولكِنْ: ألِفٌ حَرْفٌ، ولاَمٌ حَرْفٌ، ومِيمٌ حَرْفٌ».
فيا أيها المحب للّه لا تنفيس لشوقك إلّا بتلاوة كتاب الله، ويا أيها المطيع للّه لا معرفة لأمر الله إلّا بتلاوة كتاب الله، ويا أيها المؤمن لا معرفة للغيب وما أعدَّ الله لعباده إلّا بتلاوة كتاب الله. ويا أيها المسلم لا معرفة لفضيلة الثواب إلّا بتلاوة كتاب الله.
فكتاب الله محور الخلق وهو سبيل النجاة والفوز والفلاح للخلق جميعاً في الدنيا والآخرة.
وختاماً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: «إذا رأيت عبدي يذكرني فاعلم أني أحبه وأنا أذنت له بذكري، وإذا رأيت عبدي لا يذكرني فاعلم أني أبغضه ولم آذن له بذكري».