بيروت - لبنان

اخر الأخبار

26 تشرين الأول 2019 12:05ص برسم مرجعيتنا الدينية: المطلوب كلمة حق في وجه سلطان جائر

مواقف مأثورة لمفتيِّي بيروت: البربير والأغر والحوت ونجا

حجم الخط
في سجل المفتين في بيروت مواقف مشهورة دفاعاً عن الحق والشرع، ما يمثل قدوة تحتذى من مرجعيتنا الدينية.

المفتي القاضي الشيخ أحمد البربير والجزار:

في سنة 1769م عاد الشيخ أحمد البربير إلى بيروت وكانت بعهدة الأمير يوسف الشهابي الذي طلب منه تولّي الفتوى والقضاء. فتولّى القضاء مدة يسيرة بشروط قبلها الأمير يوسف. ولكنه كان دائم الشكوى من المنصب المذكور فقال:

 قد عدلنا وما عدلنا لغيّ

وحكمنا بأمر رب السماء 

فشكا الناس حكمنا ولعمري 

قلّ من يرتضي بحكم القضاء.

وحاول البربير التنصل، ولم يقبل إلاّ بعد أن كتب على الأمير صكا يتضمن عدة شروط وأنه متى أخلّ بشرط منها فليس له عليه سبيل وقبل الأمر شروط البربير وهي:

1) أن لا يتصدى الأمير للدعوى بعد أن يكون قد قضى فيها مجلس قضائه.

2) أن يأمر بتنفيذ الأحكام دون إبطاء.

3) إذا كانت الخصومة بين أحد المواطنين والأمير وكان الحكم ضد الأمير فعلى هذا الأخير الإمتثال لحكم الشرع.

4) أن يبعث الأمير أحد أتباعه يجلس في المحكمة لتحصيل رسوم الدعوى.

(كي لا يساء بعد ذلك للقاضي بحجة المحاسبة).

5) أن لا يكرهه الأمير على ارتداء العمامة والجبة. وتكررت شكوى البربير ملحّاً على الانسحاب من القضاء فأقاله الأمير.

كان البربير مسموع الكلمة لدى الحكام والأعيان والشعراء كأحمد باشا الجزار وأمير مكة والشيخ مرتضى الزبيدي صاحب تاج العروس والشيخ شاهين تلحوق. وكان ينطق بإسم المسلمين في بيروت ويعبّر عن مشاعرهم، ويرفع مطالبهم للحكام. اتفق أن الوزير أحمد باشا الجزار أرسل إلى بيروت وأنابها رجلاً من المغاربة ومعه جملة عسكر منهم للمحافظة. فعاث عسكره عيث الجراد، وشمّر عن ساق الأذى والفساد، حتى اشتكت منه بقاع البلاد فضلاً عن العباد. فتوجّه البربير إلى رئيس العسكر، وكان يدعى بالبخاري، ونصحه وخوّفه عقاب الباري، فأجاب بغلظة بأنه لا يقدر على ردّ جنوده. ففارقه البربير وكتب إلى الجزار بيتين من الشعر هما:

وزيرنا طاهر المزايا 

فاقصد ندا جوده ويمّم 

قد خصّ بيروت بالبخاري 

يا ليته خصّها بمسلم 

(والتورية بين صحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم في الحديث). فلما قرأ الجزار البيتين أمر كاتبه أن يكتب لذلك المتسلم كتاباً يأمره فيه بالقدوم إلى عكا ولا يتباطأ مقدار طرفة عين. فلما حضر قتله وأراح الناس من شرّه.

المفتي الشيخ أحمد الأغر يفتي ضد إبراهيم باشا:

كانت لمفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغر مواقف جريئة. ففي شهر آذار سنة 1826م هاجم إثنا عشر مركباً للقراصنة اليونان مدينة بيروت وأنزلوا خمسمائة جندي في محلة برج أبي هدير شرقي المدينة (غلط من كتب في التاريخ. واعتبر أن أبا هدير هو أبو حيدر. وشتان بين الشخصين وبين الموقعين) وتسلّقوا السور ليلاً، وهبّت المدينة للمقاومة. قال هنري غيز قنصل فرنسا في بيروت « يعود للقاضي المفتي الأغر الفضل في كافة التدابير التي اتخذت لمقاومة وصدّ المهاجمين».

يذكر أن إبراهيم باشا حكم بيروت بين سنتي 1832 و1840م في الوقت الذي كان فيه الأغر مفتياً لبيروت. روى جرجس الخوري المقدسي خبراً رواه له أحد المسلمين المسنين في رأس بيروت قال فيه: إن إبراهيم باشا المصري عندما كان محتلاً سوريا، كان يعتمد على تاجر في دمشق بتموين الجيوش، وفي آخر السنة أراد التاجر تصفية الحساب، فادّعى إبراهيم باشا أن التاجر زاد الأسعار (على عادة الموردين)، وأبى أن يؤدّي له كامل مطلوبه. فاستاء التاجر وعرض قضيته على أصحاب الفتاوى، فلم يجسر أحد منهم أن يفتي ضد الباشا. فقيل للتاجر إن في بيروت شيخا عالماً جريئاً لعلك إذا استفتيته في قضيتك تنال الحكم على إبراهيم باشا. فقصد التاجر المفتي البيروتي (الأغر) وقصّ عليه حكايته مع الباشا، فأفتى للتاجر ضد إبراهيم باشا وحكم عليه بأداء حق الرجل. فحمل التاجر الفتوى وعرضها على الباشا مطالباً بحقه. فاستاء إبراهيم باشا من جسارة المفتي على إصدار الحكم عليه واستقدمه من بيروت إلى الشام، ولما وقف بين يديه سأله كيف جاز له أن يفتي ضده، فقال المفتي: لست أنا الذي أفتى ضدك بل كتاب الله. ثم أورد له النصوص الشرعية، فالتزم إبراهيم باشا أن يؤدي الحق بتمامه. وبعد مدة زار الباشا بيروت وطلب أن يزور المفتي في بيته، فأخذوه إليه وأدخلوه إلى غرفة ذلك المفتي البسيطة الخالية من الزخارف فوجده قاعداً يقرأ القرآن، فلاحظ الباشا أن المفتي لم يحف به، بل ظل يقرأ ماداً رجله، ثم رجع الباشا وأرسل مع خادمه صرّة من المال تقدمة للمفتي، قاصداً إمتحان عفّته، فقال المفتي لخادم الباشا: قل لسيدك إن الذي يمد رجله لا يمد يده.

يؤيد هذه الرواية ما جاء في ديوان الشيخ الأغر من أنه سافر سنة 1836م إلى دمشق «لأمر اقتضى ذلك» وأقام بها أربعة أشهر في دار الشيخ محمد عمر الغزي مفتي الشافعية بها. ولا يتضمن الديوان أي مدح لإبراهيم باشا، بل تعريض في أكثر من موضع. من ذلك قوله مقتبساً «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها»:

مليكة الحسن قد أفسدت قريتنا 

عند الدخول إليها هل يجوز كذا

وقد جعلت أعزاها أذلتها

قالت وذا شأن الملوك إذا

وفي سنة 1840م عند هروب عسكر إبراهيم باشا من السواحل إلى الشام، نظم الشيخ الأغر قصيدة من 99 بيتا يمدح فيها السلطان ويعرض بمن عارض السلطنة مطلعها:

ويل لمن خرجوا من قيد طاعتها

قد أدخلوا مطلقاً في نار عصياها

الشيخ عبد الرحمن الحوت وجمال باشا:

عانت بيروت إبان الحرب العالمية الأولى من المجاعة التي قضت على كثير من السكان. وأثناء وجود جمال باشا في بيروت زار الشيخ عبد الرحمن الحوت في داره التي كانت خالية من الأثاث إلا من بعض الحصر والكراسي البسيطة العادية. ودخل الباشا إلى غرفة الشيخ، فوجده جالساً على طراحة صغيرة يتلو آيات من القرآن الكريم، فلم يقف له. وبعد أن أتمّ القراءة نظر إلى جمال باشا وقال له: إجلس يا أفندي. أسرع الباشا وتناول يد الشيخ وقبّلها. ثم عرض عليه أن تقوم الدولة بتقديم الأثاث اللأئق للدار، فأبى المفتي وقال له «وفّروا للفقراء لقمة العيش، وأنقذوا الناس من الموت جوعــــــاً يا باشا، فهذا عند الله أعظم من كل شيء».

المفتي الشيخ مصطفى نجا وجمال باشا:

كان جمال باشا يعتمد على بعض رجال الدين في تأييد حركته لما كان يرى من نفوذ لرجال الدين لدى العامة. كما اعتمد على القبضايات ليكونوا قوة ثانية بجانبه. وأغدق على الفريقين أموالاً طائلة. وقيل إن الشيخ مصطفى نجا كان من القلائل الذين أبوا أن يمدّوا أيديهم إلى الأموال المذكورة. ففي إحدى زيارات جمال باشا لبيروت وزع بواسطة سكرتيره مبالغ مختلفة. وطلب من هذا الأخير تقديم مائتي ليرة ذهبية إلى الشيخ مصطفى نجا في منزله في محلة برج أبي حيدر. فأبى المفتي أن يستلمها وقال للرسول: إن المبلغ الذي أتقاضاه كافٍ. وعبثاً حاول الرسول إقناعه بقبول المبلغ وصرفه على الفقراء فأجاب «إذا كان لا بدّ من صرفه على الفقراء، فأمامك مجال يمكنني مساعدتك به، فإن في بيروت مئات من العائلات المحتاجة يمكنني أن أقدم لك لائحة بها، فاشتر بالمبلغ دقيقاً وائتني به لنوزعه معاً عليهم».

روى محمد جميل بيهم أن الشيخ مصطفى نجا استفتي في عهد السلطان عبد الحميد في خلاف وقع بين وكيل السلطنة وبين أشخاص كانت لهم علاقة بالجفتلكات الهمايونيــــــة (مزارع خاصة بالسلطان) فأفتى لخصوم السلطان صراحة غير هيّاب ولا مبالٍ. ولما اطلع السلطان على الفتوى سرّبها وأنعم على الشيخ بوسام.

وقد حاول جمال باشا إبان محاكمات الديوان العرفي وتعليق المشانق، أن يأخذ توقيع المفتي على فتوى تعلن أن الشريف حسين ارتكب الخيانة العظمة لقيامه بالثورة على السلطنة ولذلك وجب على المسلمين قتاله. فأبى المفتي أن يوقّع على هكذا فتوى.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فلا بأس من ذكر موقف شيخ الأزهر الشيخ عبد الله الشرقاوي مع نابوليون أثناء احتلال هذا الأخير لمصر. اختار الفرنسيون الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الأزهر مع عشرة آخرين ليتألف منهم مجلس يدير أمور البلاد ثم اختاره رفاقه هؤلاء رئيساً لمجلسهم وسموه (الديوان العمومي) ثم ألغي وأنشيء مجلس سمّي «الديوان الخصوصي» وكان الشرقاوي عضوه ورئيسه. صنع نابليون شارات تجتمع فيها ألوان العلم الفرنسي وأمر أن يضعها رئيس الديوان الخصوصي وأعضاؤه على صدورهم. وذهب إلى حيث كان هذا الديوان مجتمعاً فأمر أحد أتباعه أن يعلق الشارة على صدر الشيخ الرئيس، فلما فعل مد الشيخ يده فنزعها وألقاها على الأرض وانصرف لساعته من الديوان غاضباً ساخطاً. وكان الشيخ يعلم أنها نسيج من ثلاثة ألوان فليس به ما يمس عقيدته ودينه. ولكنه كان يعلم أنهم يريدون منه أن يضع فوق صدره هذا الرمز الذي يبيّن أن حامله يدين للعلم الفرنسي بالاحترام والمحبة، وللمغير الفرنسي بالخضوع والطاعة. فنفر من ذلك نفرة الأبيّ الشجاع. 

 * مؤرّخ