بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 كانون الثاني 2018 12:05ص بعض من ذكرياتي مع الراحل الكبير المفتي الشيخ د. أحمد اللدن

حجم الخط
في صيف العام 2006 بدأت علاقتي به، وكانت علاقة طالب في الدراسات العليا بأستاذ ملأ اسمه الآفاق علما وتواضعا وسماحة، قابلته لأول مرة في كلية الدراسات الإسلامية في جامعة المقاصد فبادرني بالقول: « أقرأ مقالاتك وكتابتك وأرى فيها مستقبلا واعدا»: فشكرته وقلت له: «أرجو أن يكون رأيك في رسالتي كرأيك في مقالاتي»، فابتسم مجيبا: «المناقشة هي الفيصل بيننا»..
وجاء يوم المناقشة، فاكتملت اللجنة وبدأت الجلسة، وما هي إلا دقائق قليلة حتى احتدم الحوار بين المناقشين وعلت الأصوات وساد التوتر أرجاء الغرفة، فكان كل مناقش متسمكاً برأيه الذي يخالف رأي المناقش الآخر، حتى أصبحت الجلسة بعد ما يقارب الساعة وكأنها جلسة مناظرة بين عالمين كبيرين وليست جلسة مناقشة لرسالة ماجستير، كل هذا وأنا أتابع ما يجري راسما الابتسامة على وجهي دون أن أنطق بكلمة، إلا إذا ما طلب مني الكلام توضيحا لأمر ما، وبعد أكثر من ساعتين ونصف أعلن عن انتهاء الجلسة وطـُـلب من المناقشين الاجتماع في غرفة جانبية، فإذا به رحمه الله تعالى يخاطبني قائلا: «أريد منك فقط أن تفسر لي لم هذه الابتسامة على وجهك، ألست متوترا أن ينعكس هذا النقاش الحاد على رسالتك؟!» فأجبته بالقول: «يا شيخنا أنا أبتسم لأن رسالتي جعلت من علماء مشهود لهم بالعلم يتناقشون حولها أي أنها أثرت فيكم والحمدلله».. فابتسم ودخل الغرفة مع السادة المناقشين ليخرجوا جميعا بعدها ويعلنوا حصولي على شهادة الماجستير بدرجة جيد جدا..
صداقة أبوية
لم أكن أعلم أن جلسة المناقشة تلك التي تحولت إلى ما يشبه ندوة علمية لحدة الحوارات التي دارت بها ستكون فاتحة خير على شخصي وسأكون بعدها من المقربين إلى سماحته، ولكن «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ مَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ»، فتآلفت أرواحنا وتحابت قلوبنا وتصادقنا معا صداقة الاستاذ بطالبه حتى صرنا لا نفترق روحا وإن افترقنا جسدا..
كنت في كل عام وعند إعدادي لبرامجي الرمضانية سواء الإذاعية أو التلفزيونية  أحرص تمام الحرص على أن أزينها بحلقة مميزة معه، وفي كل مرة كان يكرمني بالقبول بتواضع قلّ نظيره في زماننا..
فكنت وفريق العمل نستيقظ في الصباح الباكر ونتوجه إلى ضيافته في تعلبايا، فيكون في استقبالنا على باب منزله مرحبا ومهللا وممازحا لنا بكل رقي، فإذا ما دخلنا إلى غرفة الاستقبال وجدنا المائدة ممدودة أمامنا بما لذ وطاب كتحية لقدومنا.
أذكر تماما كيف كان رحمه الله تعالى يتعمد أن يزيد لي الطعام كلما فرغت من تناول بعضها وحين أعتذر عن قبول المزيد يمازحني قائلا: «أنت في البقاع كلْ وإلا بزعل منك»، ثم نبدأ العمل ونقلب له البيت رأسا على عقب بسبب متطلبات التصوير، وعند الانتهاء كان يودعني بالقول: «أنتظر زيارتك مع الأسرة حتى نجلس سويا بعيدا عن ضوضاء العمل»..
من ذكرياتي اللطيفة معه أنني فاجأته مرة بزيارة إلى كلية الشريعة وهو يلقي درسا من دروسه، وأذكر أن الفصل كان مليئا بالطالبات فقط، فلما دخلت عليه وألقيت السلام خرج معي خارج القاعة قال لي ضاحكا كعادته: «إياك أن تدخل علي مرة أخرى هكذا، فإني رأيت الطالبات يخرجن هواتفهن ويلتقطن الصور وهن يقلن: «هيدا الشيخ تبع التلفزيون..شو بدك تعملي فتنة بالقاعة»..
عالم بحق
كان رحمه الله تعالى متواضعا في زمن شاع فيه التكبر.. جميلا في عهد انتشر فيه القبح..
وفيّا في أيام ساد فيها الغدر..
وعالما في سنوات سيطر عليها الجهل.. 
ومخلصا في بلاد كثر فيها تغيير المواقف..
ما زلت أذكر تماما كيف كان يستقبل المحن بصلابة وبتسليم، فلم يجزع ولم يتوانَ عن المواجهة ولكن برقي العلماء.. كلماته وأحاديثه تنبع من القلب لتدخل إلى قلوب السامعين فتتفاعل معها لتتحول إلى حكم مترسخة في عقول كل من حوله.
كنت كلما تحدثت معه عن ضرورة السعي في الإصلاح الشامل الذي يطال مختلف مجالات الحياة يردّ علي قائلا : «حتى يتحقق الإصلاح يا بني لا بد أن تسبقه الإرادة، والله تعالى بيّن في القرآن الكريم هذا الأمر إذ قال: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، فالمطلوب قبل أن نبحث عن وسائل الإصلاح أن تتحقق إرادة الإصلاح في نفوسنا وأن نتجه إليه بكل كياننا فلا نتلكأ ولا نبحث عن أعذار..» ثم ينظر إلي ويقول مبتسما: «إهدأ قليلا أيها الشيخ الثائر..».
وحين أتوسع في الحوار معه فأحدثه عن النكبات التي تعصف بحال الدعوة والدعاة اليوم يجيب بحكمة العلماء بأن النكسات التي نواجهها ليس في لبنان فحسب وإنما في عالمنا الإسلامي كله إنما هي من صنع بعضنا لأننا لم نحقق معرفتنا الصحيحة بشروط الدعوة، والحل يكمن في عملية تربوية دقيقة وشاقة ومتكاملة للدعاة من أجل النهوض بمستوى الدعوة،وما المشاكل التي وقعت في الكثير من بلاد المسلمين إلا نتيجة لهذه الأخطاء الفادحة..
رحلت لكن باقٍ
أما وأن الشيخ العالم قد رحل ... فنقول له بلسان الطالب المحب لأستاذه:..
رحلت أيها الصديق الكبير... ولكنك باقٍ بأخلاقك الرفيعة وبسمعتك الطيبة وبعلمك الذي أثمر في نفوس الآلاف من الطلاب...
رحلت جسدا ... وستبقى أثرا وعلما... من خلال مئات الحلقات والأحاديث التي يستفيد منها ملايين الناس في مختلف بلاد المسلمين...
رحلت ... ولكنك باق في قلوبنا عالما مرّ كالحلم الجميل في حياتنا ولن ننساك أبدا..

bahaasalam@yahoo.com