بيروت - لبنان

اخر الأخبار

20 آب 2022 12:00ص بيروتيّات (1).. صيف بيروت: مروحة وصُبّيرة ولوح ثلج

حجم الخط
انعقدت على سطيحة كل بيت في بيروت العتيقة سهرات عائلية حميمة في صيف حار على ضوء القمر وهدير موج البحر وأريج الفل والفتنة والياسمين تتخللها ألعاب بريئة وأغنيات رقيقة منتهية بحكايات الشاطر حسن والبنات الثلاث. والسطيحة تصغير سطح، ويصحّ فيها ما قاله حبيب أبو شهلا في المصيطبة «ما صغّروكي إلّا تحبّبا».
*****
مروحة لا بد منها
نقل الجغرافيون في النشرة الجوية لمناخ بيروت انه حار رطب صيفا، بارد رطب شتاء. يبدأ صيف بيروت في شهر حزيران (يونيو) ويزداد الحر في تموز (يوليو) ففيه تغلي الماء في الكوز ويشتدّ الحر في شهر آب (أغسطس) فسمّوه اللهاب، وهو طباخ العنب والتين، فإذا جاء أيلول (سبتمبر) انكسرت صورة الحر. وفي هذه الأشهر يسكن الهواء، فيلجأ الناس الى مروحة من قش يروّحون بها عن أنفسهم، وقد قال فيها شاعرهم:
ومروحة تروّح كل همّ
ثلاثة أشهر لا بد منها
حزيران وتموز وآب
وفي أيلول يغني الله عنها 
وبما ان لكل جواد كبوة فلكل تموز زلقة دائمة من المطر تباغت النيّام في السطوح فيهبّون لجمع الفرش والأغطية ويهرعون الى داخل البيوت، كما حدث سنة 1888 عندما شكا الأهالي من حرّ تموز فأحالهم الى شهر آب الذي قال بلسان شاعرهم:
قالوا لتموز لقد أهلكتنا
فأجابهم اني انتقمت بما لديّ
قالوا وهل لك عندنا ثأر يفي
بحرارة تكوي بها الأجسام كيّ
فأجابهم لا تعجلوا في حكمكم
قصدي بألا أكذبكم بشيء
هي زلقة مصداق أمثال لكم
 فمتى أتى آب ترحّمتم عليّ
يذكر أن الهواء في بيروت كان ينحبس عند هبوط المساء فينتظر البيارتة الهواء الغربي الآتي من البحر يسمّونه «الهواء الحنون»، وتقول نساء الصيادين: «يا رب يدور غربي تيرجع حبيب قلبي». وبالتالي يصير هواء سطح بيروت نهارا أشدّ حرارة من سطح البحر وهوائه، فينتج عن هذا الفرق حركة للنسيم اللطيف المنتقل من البحر الى البر فيحلّ محل الهواء الحار الذي يتابع صعوده. أما في المساء فتتساوى حرارة الشمس على سطحي البحر والبر فتتوقف حركة الريح وينحبس الهواء.
ومن الطريف ان الهواء احتبس سنة 1894 واشتدّ الحر، فنظّم شاعر من طلاب كلية الطب الأميركية كان يتقلّب في فراشه بيتين هما:
للّه ما قاسيته في ليلة
هجمت عليّ بها الهواجس بغتة
سكرت بها الدنيا من الخمر وقد
مات الهواء بها بداء السكتة
فإذا جاء أيلول وأصبحت الليالي أكثر نداوة وأشدّ طراوة أدرك الأهالي ان الصيف قارب على الوداع وبدأت السحب تقترب من بعيد آتية من البحر وتمنوا لو يدوم الصيف الذي لو كانت له أم لبكيت عليه، وتذكّروا قول الشاعر:
يتمنى المرء في الصيف الشتا
فإذا جاء الشتا أنكره
لا بذا يرضى ولا يرضى بذا
قُتل الإنسان ما أكفره
الهروب إلى محلة الأوزاعي
وكان الأهالي يهربون من حر بيروت الى محلة الأوزاعي، فيسكن بعضهم في الغرف التي انشأها أهل الخير حول مقام الإمام، ويتوزع الآخرون في عرازيل يقيمونها قرب الشاطئ تعلو حوالي المتر عن سطح الأرض، توضع تحتها لوازم الخدمة وأواني الطعام وتُمدّ عليها البسط والزرابي وترفع حولها البرادي. ويسرح الأولاد على الشاطئ يلعبون ويطيّرون طيارات الورق الملون ثم يسبحون ويربطون أكياس الترمس اليابس بين الصخور كي يحلو طعمه المُرّ وكان الموج يذهب بالكيس بعيدا. وتمضي السهرات في العرازيل في الغناء وتدخين النراجيل والمباراة بالأمثال والأحاجي والألغاز والمواويل، فيما تتحلق النسوة حول عازفة عود أو مغنية ذات صوت جميل.
ثلج الجبل وثلج المعمل
كان الثلج الطبيعي يَردُ من الجبل وكانت له فيه مخازن خاصة مبنية في الصخر لا يزال بعضها باقياً في صوفر وضهر البيدر. ويبدو انه لم يكن نقيّا بدليل ان سليمان الشامي الحداد أعلن سنة 1903 انه يبيع الثلج الاصطناعي النقي الذي لا يزيد سعره عن الثلج الجبلي إلا بخمس بارات يوفّر بها المستهلك مائة بارة للطبيب والصيدلاني، ونصح السكان الذين تزايد فيهم التهاب الزلعوم وبحّة الصوت مقدّما لهم النصيحة مجانا. يُذكر ان سليمان المشار إليه كان ملتزما بيع الثلج من سنة 1881 وكان السعر يرتفع من 62 قرشا ونصف الى 90 قرشا للقنطار من أول تموز الى آخر الصيف، وكانت أماكن بيعه في ساحة السمك القديمة (باب إدريس) وكان محل ساحة البرج يفتح ليلا نهارا. وكانت قد طرأت للبعض طريقة لإنتاج الجليد بطرح مائة غرام من سولفات الصودا و45 غراما من أسيد نيتريك ضمن إناء مملوء ماء، فإذا وضعت ضمنه زجاجات من ماء الشرب برد الماء زيادة عن الدرجة المطلوبة في مدة قليلة.
ثم أخذ كثيرون يفكرون في إنتاج ثلج صناعي منهم إلياس الدباس الذي طلب سنة 1892م من الولاية منحه امتياز عمل الجليد ومبيعه وشروط ذلك. وفي سنة 1892م أسس عرداتي وداعوق معملاً للثلج الصناعي في رأس بيروت قرب جامع الداعوق عُرف بـ«المعمل»، وأجّروا مقاولة في باريس لاستجلاب آلة لعمل الثلج الاصطناعي تنتج خمسمائة كلغ بالساعة. وكانت قوالب الثلج تُلف بالخيش وتنقل الى البيوت لتوضع في البراد القديم المصنوع من الخشب والمغلّف قسمه الأعلى بالتوتيا وله حنفية.
الصبّير فاكهة الصيف
وتميّز صيف بيروت بثلاث شجرات يمكن أن تسمّى صديقة البيروتي وهي: الصبّار (الصبّير) والجميز والتوت، وأثمارها أهم فاكهة الصيف للبيارتة.
وأجود أنواع الصبّير هو الصبّير الرملي بثمره الكبير وطعمه السكري ولونه الزهري المائل إلى الحمرة بسبب أشعة شمس الصيف الحارقة.
والصبّير يكبر ورقه وشوكه ويتكاثر ويتلاصق حتى يؤلف حاجزاً سميكاً يصعب خرقه. وقد استغل البيارتة هذه السمة فجعلوا منه سياجات لبساتينهم وجنائنهم حماية لها من المتسللين وتركوا «ثغرة» بين نباتات الصبّير تصلح للمرور وكانوا يرققونها فيلفظونها بالتاء بدل ثاء، وتُشكّل باب البستان ومدخله. وكانوا أحياناً يلجأون إلى الاستعانة بكلب لحراسة البستان. وكان من الطبيعي أن يتولى الكلب حراسة الثغرة، وأن يعوي على كل من يحاول التسلل إلى الداخل أو قطف شيء من ثمار البستان.
فشبّهوا كل من يمارس دور الحارس بهذا الكلب فقالوا: مثل كلبة الثغرة.
يذكر أن نبات الصبّير المغروس في أطراف البساتين كان أحياناً ينمو فيتقدم فوق الطرقات والأزقة والدروب فيلحق ضرراً بالمارة لا سيما العابرين منهم ليلاً، مما حدا بالمجلس البلدي لبيروت سنة 1879م إلى إصدار قرار ألزم فيه الأهالي بقطع الصبّير البارز على الطرقات العامة خلال مهلة خمسة عشر يوماً تحت طائلة قطعها على نفقة أصحابها مع تغريمهم الجزاء النقدي.
* مؤرخ