بيروت - لبنان

اخر الأخبار

26 تشرين الثاني 2022 12:00ص بيروتيّات (13).. من التراث المفقود للشيخ محمد الحوت رسالة في تحديد اتجاه القبلة تُنشر للمرة الأولى

حجم الخط
منذ أكثر من عشرين عاماً حضر الى مكتبي أحد المهتمين بتراجم علماء بيروت وآثارهم فأعطيته بعض مما عندي ووعد أن يحضر لي بعض مما عنده وغاب ولم يعد. ومنذ سنتين تقريبا اتصل بي هاتفياَ وزعم انه قرأ لي في أحد المقالات ان لديّ رسالة للشيخ محمد الحوت حول تحديد اتجاه القبلة ولديه رغبة بالحصول على صورة عنها فاعتذرت وذكرته بما حصل من تغيّبه. وقد رأيت من واجبي أن أنشر رسالة الشيخ محمد الحوت لفائدة الباحثين في تراث علماء بيروت وحفظا لها من الضياع.
وجدار القبلة هو صدر المسجد المتجه نحو مكة المكرمة وكانت القبلة الأولى لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ثم حوّلها الله تعالى نحو الكعبة المشرّفة وقد صلّى الرسول يوم نزلت آية صرف الصلاة في مسجد أبي سلمة - يُسمّى مسجد القبلتين - صباحا تجاه بيت المقدس وصلّى الظهر فيه تجاه الكعبة. والقبلة رمز وحدة المسلمين الذين يطلق عليهم أهل القبلة فكل مساجد الأرض لها وجهة واحدة فرضت على المهندس الانطلاق منها في بناء جدار قبلة المسجد.
كان مسجد الرسول في المدينة المنورة انموذجاً لبقية المساجد، فالنبي هو الذي بناه وحدّد جدار القبلة والمحراب. واعتبر الفقهاء انه لا يجوز الاجتهاد في المحاريب لأنها موضوعة بالوحي. ولأهمية اتجاه القبلة كتب بعض العلماء رسائل في كيفية تحديد هذا الاتجاه ومنها رسالة من الشيخ محمد الحوت أملاها على تلميذه الشيخ عبد الباسط الفاخوري الذي أوردها في أحد مخطوطاته وهي تُنشر للمرة الأولى.

نصّ الرسالة
«قال شيخنا رحمه الله تعالى:
قال الفقهاء رحمهم الله في بحث القبلة ان أقوى الأدلة عليها القطب الشمالي وقد نظّموا لذلك قاعدة دالّة على القبلة في البلاد هي:
أقوى الأدلة قطب في السماء بدا
فاجعله خلفك في شام إذا وجدا
وفي العراق فخلف الأذن تجعله
وتلك يمناك ثم الضد فاعتمدا
في مصر ان كان حقا ثم في يمن
قبالة الوجه خذ ما جاء مستندا
فقول هذا الناظم لهذه الأبيات وسكوت الفقهاء عليه صريح في ان القطب يُرى لأنه قال «قطب في السماء بدا» أي ظهر، وقد اتفق أهل الفلك على ان القطب لا يُرى وإنما هو نقطة مدار الفلك كالقطب في الرحى تدور عليه وإنما النجم الذي يُرى إنما هو الجدي وهو كوكب مضيء يتصل به نجوم صغار على كيفية القوس المعتدل الشكل وآخرها نجم مقابل للجدي كتقابل رأسي القوس وهذا النجم المقابل هو أحد الفرقدين وثانيهما نجم يقابله من خارجه أقلّ ضوءاً من الأول. ثم ان القطب الحقيقي الشمالي الذي هو مدار الفلك عليه هذا الجدي الظاهر المسمّى عند الفقهاء قطبا وبينه وبين الجدي نحو ثلاث درج فلكية، فإذا كان الفرقدان لجهة المشرق كان الجدي لجهة المغرب ويكون القطب شرقيا عن الجدي وإذا كان الفرقدان لجهة المغرب كان الجدي لجهة المشرق ويكون القطب غربيا عن الجدي وحينئذ يكون بين انتقال الجدي من المشرق الى المغرب مسافة ست درج فلكية. وكذلك عكسه. وهذا المقدار يخلّ في استقبال القبلة على قولهم انه يجب استقبال عين القبلة لأن بين أعلى مداره وأسفله ست درج فلكية وبين شرقيه وغربيه كذلك وهذا الفرق في رأي العين يبلغ نحو ذراع ونصف بذراع الآدمي وحينئذ الاعتماد عليه في غير تحقيق مداره في أي جهة هو في جهة المشرق أو في جهة المغرب خلل في سمت القبلة لأنه فرق كلّي.
ارتفاع القطب في طرابلس وصيدا ودمشق وبيروت
وارتفاع القطب في بر الشام عن أفقها ما بين ثلاثة وثلاثين درجة وما بين أربعة وثلاثين درجة وما بين خمس وثلاثين درجة فمثل صيدا وبيروت ارتفاع القطب فيها ثلاث وثلاثون درجة وثلث درجة وطرابلس الشام نحو أربع وثلاثين درجة ومثل حلب خمس وثلاثون درجة ودمشق تقارب طرابلس وهذا الارتفاع يسمونه عرضا وهذا الحد تقريب لا تحديد. والجدي المذكور يقع من أجزاء الكعبة على نحو ربعها إذا وقف شخص عندها بين المشرق والمغرب فيكون الجدي وراء ظهره والشخص مقابل للركن الشامي الشمالي فيكون ربع الكعبة عن يمين الواقف من جهة المغرب وثلاثة أرباعها عن يساره من جهة المشرق فهذا سمت الجدي على الكعبة المشرّفة. وأما سمته في المدينة المنورة فان المقابل لجدار المسجد يقع الجدي وراء ظهره فإذا جعل ظهره للجدار وقع الجدي على أنف الواقف فقبلة المدينة على الجدي والقطب من غير انحراف.
وذلك إذا كان الجدي فوق القطب أو تحته وبلاد الشام مقابلة للمدينة المنورة ومسامتة لها لكن بعضها مع انحراف وبعضها بدونه والمسامة لها أكثر أراضي حلب وبقية البلاد من حلب الى القدس الشريف غربي عن سمت الكعبة فلا بد لأهله من الميل لجهة المشرق وكلما بَعُد الشخص كان الانحراف أكثر فأهل القدس ونواحيها ينحرفون لجهة المشرق أكثر من غيرهم وهكذا الى أن نصل الى حلب ثم ان الجدي في أوسط الشتاء يكون في أول الليل فوق القطب والفرقدان تحته. وفي آخر الليل يكون تحت القطب والفرقدان فوقه وفي وسط الصيف بالعكس, وإذا اعتبرت الجدي في أوسط الشتاء والصيف كان الجدي بين المشرق والمغرب فتجعله وراء ظهرك وأما اذا كان الفرقدان لجهة المشرق والجدي لجهة المغرب كان مائل عن الاستقامة عن وسط السماء لجهة المغرب ثلاث درج وإذا كان الفرقدان لجهة المغرب والجدي لجهة المشرق كان الأمر بالعكس فلا بد من مراعاة هذا الميل ومدار الجدي وبنات نعش الصغرى المتصلة به ومدار الفرقدين ومدار بنات نعش الكبرى كمدار الفلك في كل يوم وليلة له دور واحد والدور للفلك والنجوم المذكورة ثابتة فيه فسبحان المدبّر العظيم.
سير الكواكب السيّارة
وأما الكواكب السيّارة فان لها سيرا خاصا وهي سبعة:
زحل ترى مريخه من شمسه
فتزاهرت لعطارد الأقمارُ
ثم قول الفقهاء ان أقوى الأدلة على القبلة القطب يريدون الجدي لانه هو الذي يُرى وأما القطب فانه لا يُرى كما تقدّم وحينئذ لا بد من مراعاة انتقاله فلا يعتمد عليه في كل وقت بل يعتمد عليه إذا كان الفرقدان تحته أو فوقه كما علمت وعجيب من الفقهاء حيث أطلقوا اعتبار القطب وشددوا في أمر القبلة حيث أوجبوا استقبال عين الكعبة في حالة البُعد وهذا ربما يكون متعسّرا لا يدركه أحد حتى ولا أهل الفلك وإنما يغلب على الظن ان قولهم أقرب الى الإصابة من قول غيرهم والتشديد في إصابة عين الكعبة في غير محله مع عدم دليل قطعي يدلّ عليه وإنما أدلتها ظنية لأنها غيب ولا يطّلع عليه إلا الله تعالى. وأما أهل الفلك فانهم اعتمدوا على طول البلاد وهو عندهم بالنظر الى بُعد المكان عن البحر المحيط لجهة المشرق فعلى حسب بُعد المكان عن المحيط من جهة المغرب يسمّون ذلك طولا، وقد جعلوا طول مكة سبعا وستين درجة فإذا كانت بلدة طولها أقل من مكة كأرض الشام وجب أن ينحرف أهلها لجهة المشرق لأن استقبال سمت القبلة وإصابة عين الكعبة.
وأما استقبال سمت الكعبة على الخط الذي يعتبره أهل الفلك تحديدا بحيث ينطبق سمت البلدين على خط واحد بميزان الربع فهذا لا يجب لأن الله تعالى قال في كتابه العزيز {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. وقد خاطب العرب بهذا الخطاب والناس لهم تبع ولم يكن في العرب من يعرف الفلك فلو توقفت صحة الصلاة على معرفة الفلك لكانت صلاة الصحابة باطلة فهذا أمر مردود فتبيّن انه سبحانه وسّع في ذلك ولم يكلّفنا بالأخذ بقول المنجمين والفلكيين ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة ولا من غيرهم، وقد قال الفقهاء انه يجوز الاجتهاد في المحاريب يمنة ويسرة غير المحاريب التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم  فلا يجوز الاجتهاد فيها لأنها موضوعة بالوحي وأما بقية المحاريب في بلد يكثر طارقوها فدلّ على ان الأمر متسع وعلى قولهم، أعني الفقهاء، انه يجب إصابة عين الكعبة مرادهم بحسب الظن. والاجتهاد كما صرّح بذلك كثير من العلماء اما إصابة حقيقة عين الكعبة فلم يقل به أحد إلا عند مشاهدة الكعبة المشرّفة فيجب حين ذلك بالإجماع والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب».
* مؤرخ