وسألني آخر عن البيت القائل:
ليس الغبيّ بسيد في قومه
لكن سيد قومه المتغابي
فقلت إنه لحبيب بن أوس الطائي المعروف بأبي تمام. قال الجاحظ إن صلاح شأن الناس التعاشر وهو ملء مكيال: ثلثاه فطنه وثلثه تغافل لأن الإنسان لا يتغافل عن شيء إلّا وقد عرفه وفطن له.
ذكر الشيخ أحمد البربير أن من المدوح الإغضاء ويقال له التغافل ومن كلام بعض السلف «عظّموا مقداركم بالتغافل»، وقد روى البربير أن سيداً اشترى جملاً من اعرابي وأقبضه ثمنه، فجاء إليه الأعرابي في اليوم الثاني ودخل عليه مع الناس. ثم لما نهض طلب منه ثمن الجمل فأعطاه. ولم يزل في كل يوم يتردد إليه ويطلب منه ثمن الجمل وهو يعطيه الى أن بلغ عشرين مرة، فلما جاء بعد ذلك أعطاه وقال له سراً: قد فات ثمن بعيرك عشرين ثمناً. يعرّفه بذلك انه متغافل وليس بغبي.
وقال البربير «شاهدت مثل ذلك في كبير من مشايخ الدروز يقال له الشيخ شاهين تلحوق كان إذا نزل من الجبل الى بيروت يكون معه من الأتباع نحو المائة، فرأيته يوماً عند الصباح تأتي إليه أتباعه يطلبون منه أن يعيطهم دراهم لأجل الفطور ويزدحمون عليه فرأيت أحدهم أخذ منه ثم تأخّر قليلاً ثم طلب ثمن الفطور فأعطاه فتأخّر قليلاً ثم تقدّم فأعطاه الى المرة السابعة، فعندها مال إليه وقال له سراً: صارت هذه سابع مرة. فأخذ منه في المرة السابعة ولم يعد».
أبو فراس والشيخ أحمد الأغر
وقد واليت البحث عن أمثال هذين البيتين من الأبيات الشاردة والتي لا تكاد تجد أديباً ولا متأدباً لا يتمثل بها إذا كتب أو خطب، وقلّ في المتأدبين من علم أنسابها وعرف قائلها، كما أن كثيرين يرددون شطراً من بيت من الشعر ذهب مثلاً أو تضمّن حكمة ولم تعرف تتمته (صدراً أو عجزاً) ولا يعرف صاحبه، حتى اجتمع لي طائفة منها رأيت أن أنسب بعضها أو أكمل البيت أو أشير الى من تمثل به. من ذلك شطر البيت القائل: «وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر». وصدر هذا البيت: «سيذكرني قومي إذا جدّ جدهم». وقائله أبو فراس الحمداني من قصيدته: «أراك عصي الدمع شيمتك الصبر. أما للهوى نهي عليك ولا أمر»، والتي لحنها رياض السنباطي وغنتها أم كلثوم سنة 1964م.
يُذكر أن مفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغر خمّس مطلع قصيدة أبي فراس فقال:
رآني على حالٍ يحار بها الفكر. خمولاً حمولاً ساكناً ليس لي ذكر. كليماً وسكيتاً فقال أيا غرّ. أراك عصي الدمع شيمتك الصبر. أما للهوى نهي (لديك) ولا أمر.
أحمد الأغر وإبراهيم باشا
يُذكر أن مفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغر أفتى لمصلحة تاجر دمشقي كان يورد الطعام لجيش إبراهيم باشا، فغضب الباشا واستدعى الأغر الى دمشق سنة 1253هـ/ 1837م وسأله كيف يفتي ضده؟ فأجابه: لست أنا من أفتى ضدك بل كتاب الله. فسكت الباشا على مضض. ولبث الأغر عدة أيام في دمشق وطلب منه فيها تشطير بيت المتنبي: «ومن نكد الدنيا على الحر»... فشطره بقوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
صديقاً بدا منه لأعدائه ودُّ
وأنكد من ذا أن يرى وهو صابر
عدواً له ما من صداقته بدّ
أبيات شاردة
نردد: «كاد المريب بأن يقول خذوني». وصدر هذا البيت: «هيهات لا تخفى علامات الهوى». قاله إبراهيم بن سهل اليهودي ورواه ابن عاصم الأندلسي في كتابه «حدائق الأزاهر».
ونتمثل بقول الشاعر: عرف الحبيب مقامه فتدلّلا. وتتمته: وقنعت منه بموعد فتعلّلا. وهو للبهاء زهير شاعر من أشهر شعراء العرب. ويأتي بعد البيت قوله:
وأتى الرسول ولم أجد في وجهه. بشراً كما قد كنت أعهد أولا. فلعلّ طيفاً زاره منه فردّه. سهري فراح يقول عني: قد سلا.
وكثيراً ما كان البعض يرفع في دكانه لافتة كتب عليها: من راقب الناس مات غماّ. وهو صدر لبيت تتمته: وفاز باللذة الجسور. قاله سَلم الخاسر ابن عمرو بن حماد، وسُمّي الخاسر لأنه باع، كما قالوا، مصحفاً كان له واشترى بثمنه طنبوراً.
وكثيراً ما يتردد البيت القائل: «ومن لم يمت بالسيف مات بغيره. تعددت الأسباب والموت واحد»، وهو لابن نباتة السعدي وهو شاعر عصريّ المتنبي. روى ابن خلكان انه قال: كنت يوماً في دهليزي فدُقّ عليّ الباب فقلت من؟ قال: رجل من أهل المشرق. قلت: وما حاجتك فقال: أنت القائل (وذكر البيت)؟ فقلت: نعم. قال: أرويه عنك؟ قلت: نعم. فمضى. فلما كان آخر النهار دقّ عليّ الباب فقلت: من؟ قال: رجل من أهل المغرب. فقلت ما حاجتك؟ فقال: أنت القائل (وذكر البيت)؟ قلت: نعم. قال: أرويه عنك؟ قلت: نعم، وعجبت كيف وصل الى المشرق والمغرب؟
من شعر عمر الأنسي
يقول أبو بكر بن دريد الإمام اللغوي في مقصورته المشهورة: «والناس ألف منهم كواحد. وواحد كالألف إن أمر عني». والمقصورة المذكورة كان يدرّسها الشيخان محمد الحوت وعبد الله خالد لطلابهما وكان من بين الطلاب المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري الذي وضع فيما بعد شرحاً مفصّلاً للمقصورة لا يزال مخطوطاً. كما كان من الطلاب أيضاً الشاعر الشيخ عمر الأنسي (الصعقان)، وقد استوحى الأنسي بيت ابن دريد فقال مادحاً نقيب الأشراف في بيروت الشيخ عبد الرحمن النحاس: فإن الناس واحدهم بألفٍ. وألف في الحساب يُعد فردا. يذكر أن الشاعر الشيخ ناصيف اليازجي مدح الأنسي بقصيدة منها قوله: وإذا أردت قصيدة. نبّه لها عمراً ونم.
عندما نريد أن نصف من كابد الشوق والصبابة قلنا: لا يعرف الشوق إلا من يكابده. ولا الصبابة إلا من يعانيها. وقائله الأبله البغدادي محمد بن بختيار من شعراء الخريدة لصاحبها العماد الأصفهاني الكاتب . شاعر مولد رفيق توفي أواخر القرن السادس الهجري لقب بالأبله لقوة ذكائه.
الحجاج بن يوسف وخطبه
اشتهر الحجاج بخطبة بدأها بقوله: «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا. متى أضع العمامة تعرفوني». والبيت ليس له ولكنه لسحيم بن وثيل بن عمرو بن جوين بن وهيب الرياحي من قصيدة له طويلة. سبق البيت الذي تمثل به الحجاج: «أنا ابن الغرّ من سلفي الرياح. كنصل السيف وضّاح الجبين».
(وجلا من أسماء العرب وابن جلا كناية عن الأمر الواضح، والثنايا جمع ثنية في الجبل، يريد انه يطلع في الغارات من ثنية الجبل على أهلها، وقوله متى أضع العمامة كناية عن الحرب).
الخوري نعمة الله ملكي في استقبال الأمير
بعد انتصار الثورة العربية وصل الأمير فيصل الى بيروت في نيسان سنة 1919م وسار من المرفأ الى منزل عمر بك الداعوق تحت أقواس النصر ولافتات الترحيب وهتاف الجماهير، فألقى الخوري نعمة الله ملكي قصيدة أنهاها بالبيت:
ولبس عباءة وتقرعيني
أحبّ اليّ من لبس الشفوف
وهو لابن دريد ويأتي قبله:
لبيت تخفق الأرواح فيه
أحبّ إليّ من قصر منيف
عندما ينغمس شخص في أمر ويغالي في ذلك نقول: «وللناس فيما يعشقون مذاهب». وصدر هذا البيت: «تعشقها شمطاء شاب وليدها». يُروى أن أعرابياً نظر الى أمرأته فرآها تتجمّل وهي عجوز فقال لها:
عجوز ترجّي أن تكون فتية. وقد لحب (أي ذهب لحمها) الجنبان واحدودب الظهر. تدسّ الى العطار سلعة أهلها. وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر. فأجابته ببيتين، وجمعت عليه نسوتها فضربنه.
هل في الحبّ يا أمي ارحميني؟
ويقال لمن يعاني أم الحب وأرق الشغف ويطلب الرحمة: وهل في الحب يا أمي ارحميني. وصدر هذا البيت: فقلت لها ارحمي ضعفي فقالت..
وهو واحد من أربعة أبيات منسوبة الى قيس بن الملوح المعروف بمجنون ليلى. وفي سنة 1232هـ/ 1816م طلب عمر بيهم الكبير من مفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغر تخميس الأبيات الأربعة فجاء التخميس كما يلي:
لقد طلقت نوم العين بتّا. عساها أن تزور الصب وقتا. فصيّف هجرها فينا وشتا. وليلى ما كفاها الهجر حتى. محت رسمي بالحاط العيون. ذنوبي عند ليلى ما تماحت. فأتعبت الفؤاد وما استراحت. وسفك دمي لعينيها أباحت. وافتت حلّ هجري ثم راحت. الى قاضي المحبة تشتكينني. فمال بحكمه وإليه مالت. بقدّ قدّ قلبي ثم صالت. على عيني فسحت ثم سالت. فقلت لها ارحمي آلامي قالت. ومن يبغي الرحم يبتغيني. ألا أمي ارحميني فالتّجني. وصدك قد أذاب العظم مني. فقالت يا خلّي إليك عني. فمُتْ وجداً فما هذا التمنّي. وهل في الحب يا أمي ارحميني.
وما كان غير بشار بن برد الضرير يدرك أهمية الأذن فسار قوله: والأذن تعشق قبل العين أحياناً. وصدر البيت: يا قوم آذاني لبعض الحي عاشقة.
وبعد البيت: قالوا بمن لا ترى تهذي؟ فقلت لهم: الأذن كالعين توفي القلب ما كانا.
* مؤرخ