بيروت - لبنان

اخر الأخبار

10 أيلول 2022 12:00ص بيروتيّات (4).. من «الجامع» إلى «الجامع العمري الكبير»

بركة المسجد العمري بركة المسجد العمري
حجم الخط
أقام بلدوين الأول Boldawin I بعد احتلاله لبيروت سنة 1112هـ كنيسة بإسم القديس يوحنا المعمدان على أنقاض معهد روماني قديم إكتشفت آثاره سنة 1915م من قبل مهندس نمساوي يدعي دورفلر كان يعمل في بلدية بيروت أثناء الحفريات التي جرت لهدم المباني القديمة. وعرفت الكنيسة بكاتدرائية مار يوحنا المعمدان وبقيت كذلك أثناء حكم الصليبيين حتى سنة 1187م عندما فتح صلاح الدين بيروت ورفع رايته على قلعتها، وحوّل الكنيسة الى جامع.
إلّا أن الصليبيين استعادوا المدينة سنة 1197م فأعادوا المسجد كنيسة الى سنة 1291م عندما غدت بأيدي المسلمين نهائياً على أيدي المماليك. يقول صالح بن يحيى في كتابه «تاريخ بيروت» «لما قدّر الله بنزع بيروت من يد الفرنج استقرّت كنيستهم جامعاً وكان بها صور (على طراز الكنائس) فطلاها المسلمون بالطين وبقي الطين الى يوم الجد (أي جد صالح بن يحيي) فبيّضه وأزال عنه آثار تلك الصور»، وذكر أن على شمال الداخل الى الجامع من الباب الغربي (أي من سوق العطارين) محراب صغير عليه كتابة يونانية معناها «ان صوت الرب على الحياة». وعرف لدى البيارتة بالجامع ثم بجامع فتوح الإسلام وصولا الى الجامع الكبير والعمري.

أهمية الجامع ومسيرته
للجامع العمري الكبير محبة خاصة في نفوس البيارتة منذ أن تحوّل مسجداً إضافة الى كونه أكبر جوامع المدينة وأهمها، وكان يحتفل فيه بالأعياد والمواسم وتقام فيه الصلوات والموالد. فكان اهتمام ولاة الأمر بتحسينه وتوسعته. وفي تاريخه محطات مبيّنة في لوحات على جدرانه منها: نقيشة بإبطال ما كان استحدث على الخبازين ببيروت لنايب الحسبة الشريفة وهو في كل شهر على كل فرن خمسة أمداد وما كان الخبز بالأجرة أيضاً أمر بإبطال ذلك وأن لا أحد يأخذ رسماً باسمه لا يحدث خلافه وملعون إبن ملعون من يعود يجدّد ذلك أو يأخذ منهم شيئاً ولا يأخذ المحتسب إلا جامكيته. ونقيشة داخل جدار حجرة الأثر الشريف تؤرّخ تجديد الغرفة من السيد أحمد عز الدين سنة 1077هـ.
وفوق الباب المؤدي الى المئذنة أربعة سطور تتضمن تاريخ بناء المئذنة ومن بنيت في عهده أي «في مستهل محرم الحرام افتتاح سنة أربعة عشر وتسعماية والحمد للّه وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم».
{ في مسيرة تسمية الجامع عدة محطات:
ناصر خسروي علوي
قام ناصر خسروي علوي سنة 1045م برحلة دوّنت بإسم «سفر نامة» وصل فيها الى بيروت سنة 1047م ولم يشر فيها الى مسجد أو كنيسة مع انه كان يذكر في رحلته الجوامع التي كان يراها في مختلف مدن بلاد الشام، علما بأن كنيسة يوحنا المعمدان بنيت سنة 1110م.
جامع فتوح الإسلام
لا نغالي إذا قلنا ان اللوحات الموجودة في الجامع تعتبر بمثابة سجل تاريخي للكثير من الوقائع البيروتية منها نقيشة في الجدار الغربي الداخلي ونصها «بسم الله الرحمن الرحيم أنشأ هذا المكان المبارك الفقير الى الله سبحانه وتعالى عبد الله إبن الشيخ إبراهيم الخطيب الإمام في الجامع فتوح الإسلام في شهر رمضان المبارك من شهور سنة سبع وستين وألف: يا جامع الحسنين قد أنفقت مالي من حلال بفضل مولانا الكريم ذو الهلال 1067 والحمد للّه وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم» (1067هـ - 1656م) ما يدلّ على ان الجامع كان معروفا في السنة المشار إليها بجامع فتوح الإسلام.
أوليا شلبي الجامع الكبير
يمكن القول ان تسمية الجامع بالكبير كانت تمييزا له عن الجامع العمري الصغير أي جامع الدباغة، كما كانت تمييزا أيضا عن المساجد التي بنيت بعده كجامع الأمير منصور عساف وجامع الأمير منذر. ظهرت تسمية الجامع بالكبير أواخر القرن الثامن عشر فعندما قام الرحالة العثماني أوليا شلبي برحلة دوّنت باسم «سياحة نامة» في عشرة مجلدات زار لبنان سنة 1648 وزار بيروت سنة 1670 وقال «شيّدت في بيروت بعض الجوامع منها الجامع الكبير كان كنيسة في السابق... جامع عساف... جامع الأمير منذر... وجامع عمري هو جامع قديم..».
عبد الغني النابلسي والجامع الكبير
وزار الرحالة عبد الغني النابلسي بيروت سنة 1700 ودوّن رحلته بإسم «التحفة النابلسية بالرحلة الطرابلسية» وقال عن جوامع بيروت «والجوامع التي بها أربعة، الأول الجامع الكبير... يقال انه كان في الأصل كنيسة.. الثاني جامع الأمير منذر... وفي هذا الجامع رواقات بأقبية على عواميد عالية عظيمة... الجامع الثالث جامع الأمير عساف... الجامع الرابع جامع البحر وسُمّي الجامع العمري لأنه كما هو مشهور عندهم من زمان السيد عمر بن الخطاب...».
المفتي عبد اللطيف فتح الله والجامع الكبير العمري
جاء لقب الجامع بالكبير العمري على لسان المفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله، فقد ورد في ديوانه انه في 1229هـ/ 1813/ 14م «بني على بركة الجامع الكبير العمري... الشهير باطن بيروت قبة من الخشب مرصنة مرصّفة لتقي الماء والمتوضئين من البرد والحر»، وقد أرّخها في أربعة أبيات.
الجامع العمري أو البحر أو الدباغة
جاء في ديوان المفتي عبد اللطيف فتح الله انه «لما بنى أهل الخير والمبرات صحن الجامع العمري الشهير بجامع الدباغة تجاه البحر الملح الشهير باطن مدينة بيروت نظّم بناء للطلب تأرّخا له سنة 1232هـ/ 1817م».
خطيب الجامع العمري وإمامه
لا يوجد ثبت بمن تولّى الخطابة في الجامع العمري منذ سنة 1291م وما تبيّن من أقدم وثيقة وقفية بيروتية تعود لسنة 1625م وهي وقف إبراهيم العيتاني ذكر في هامشها أسماء لبعض الأشخاص منهم: زين الدين ابن تقي الدين «الخطيب» وتقي الدين ابن عبد الرحمن «الخطيب». والمقصود بالخطيب خطيب الجامع.
ورد في وثائق وقفيات الشيخ علي القصار على زاويته أنه في سنة 1091هـ/ 1680م كان حسين الخطيب هو خطيب الجامع وكان إمام الجامع الشيخ إبراهيم الإمام (لم يوصف الجامع بالعمري أو الكبير لأن أهم جامع في البلدة يقال عنه «الجامع»). وتبيّن من الوثيقة الشرعية الصادرة بتاريخ العاشر من شهر شعبان سنة 1208هـ/ 1793م ان وظيفة خطيب الجامع العمري كانت موجهة على الشيخ عبد الرحمن بن عبد القادر خليفة وذلك لصلاة الجمعة والعيدين.
وقد توالى على الخطبة والإمامة والتدريس في زمن متأخّر الكثير من الأئمة كالشيخ علي الفاخوري (الذي كان متولياً أوقاف الجامع) والشيوخ محمد المسيري الاسكندري ومحمد الحوت وأحمد الأغر وفي العصر المتأخّر الشيخ عبد القادر النحاس والشيخ محيي الدين المكاوي والشيخ شفيق يموت. وفي سنة 1908م دعي الشيخ رشيد رضا للتدريس والخطابة، فتلا درساً بالعمري وآخر بالنوفرة.
«تربة دار» مقام النبي يحيى
نالت المقامات والأضرحة هالة من التكريم وكان يتولى كل مقام فيه ضريح منسوب لولي أو نبي ناظر أو خادم يقوم بما يتطلبه المقام من صيانة ونظافة، وقد عبّر عن وظيفة خادم الضريح بكلمة «تربة دار» وهي من العربية التركية مثل بيرق دار وسنجق دار ودزدار وخزنة دار الخ.. عرفنا من متولي تربة دار مقام النبي يحيى عبد الله بكداش وكان تقياً ورعاً توفي سنة 1878م. فتولاها بعده الشيخ عبد الرحمن بكداش الذي عاد سنة 1898م من الأستانة محرزاً البراءة الشريفة بخدمة المقام وكان يقوم بتلك الخدمة سنة 1907م. وتولاها سنة 1895م الشيخ عبد الغني البنداق صهر نقيب الأشراف الشيخ عبد الرحمن النحاس الى سنة 1898م.
آل عز الدين الميقاتي والتوقيت بالجامع العمري
من الوظائف الدينية وظيفة المؤقت الذي يحدد أوقات الصلاة والمناسبات الدينية والأعياد وقد كان في كل مدينة إسلامية مؤقتاً عرف بالميقاتي. ففي غرة شعبان المعظّم سنة 1278هـ / 1862م جرت وظيفة التوقيت في الجامع الكبير العمري على الحاج سعيد والحاج عبد الغني ولدي أمين الميقاتي بموجب براءة شريفة مؤرخة في 13 محرم الحرام سنة 1273هـ/ 1856م.
وبعد وفاة الحاج سعيد سنة 1278هـ ووجد ابنه حسن به اللياقة لوظيفة أبيه وأن الحاج عبد الغني حضر وقتئذ الى المجلس الشرعي ومعه ابنه محمد من أهالي بيروت وحضر معه ابن أخيه حسن وقرر أنه صار عاجزاً والتمس قصر يده عنها لولده محمد مشاركاً لحسن فصار عمل إعلام بالتماس براءة شريفة بتوجيه الوظيفة المرقومة على محمد وحسن بالاشتراك.
مؤذّن الجامع العمري
من الطبيعي أن يكون للجامع مؤذن أو أكثر حسب أهمية الجامع وكبره. يتقدمهم رئيس ما يعرف بسر المؤذنين. عرف من وثيقة مؤرخة في 20 محرم الحرام سنة 1287هـ/ 1870م ان وظيفة سرّ المؤذنين مع آذان التسبيح الأول والثاني ليلاً في الجامع الكبير العمري بمعاش شهري قدره ماية وخمسين قرشاً موجهة على محمد سعيد أفندي ابن الشيخ حسن الجندي المقيد بمحلة الحدرة ومولده سنة 1261هـ وهو قائم بالوظيفة المذكورة بعد وفاة أبيه الذي كان قائماً بها قبله من مدة مديدة وليس بيده براءة الشريفة» وكان الشيخ سعيد أحد مؤسسي جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت.
قيّم الجامع العمري
ولما كان لكل جامع قيّم ففي 17 شعبان المنظم سنة 1280هـ/ 1864م تبيّن أن وظيفة قيّم أول في الجامع العمري الكبير في بيروت بماهية قدرها ماية غرش شهرياً موجهة من قديم على حسن ابن مصطفى شاكر البيروتي مولده 1258هـ ولما لم يكن بيده براءة شريفة بالوظيفة وفيه اللياقة والصلاحية لها فتمّ تنظيم إعلام بذلك.
مجالس التدريس والتفسير في الجامع الكبير
شهد الجامع العمري الكبير مجالس تدريس وتفسير ووعظ وإرشاد من قبل كبار العلماء والفقهاء والمدرّسين من البيارتة وممن زار بيروت وهو ما سنبيّنه لاحقا.
* مؤرخ