بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 أيلول 2022 12:00ص بيروتيّات (5).. مجلس الشيخ محمد المسيري الإسكندري في الجامع الكبير العمري

حجم الخط
درج البيروتيون على حضور مجالس التفسير والوعظ والإرشاد التي كان علماء المدينة أو من ينزلها من العلماء يلقونها في الجامع العمري الكبير. فيتحلّقون قاعدين القرفصاء حول الشيخ القاعد في صدر الجامع وأمامه الكرسي الذي يوضع عليه المصحف الشريف. وقال بعضهم في الكرسي المذكور:
حملت على ضعفي الذي كلمتُهُ
لهيبتها يصدع الجبل الراسي 
تداخل مني البعض في البعض هيبة
لأن كتاب الله أضحى على راسي
وكان التدريس والتفسير يتضمن شرح بعض أحكام القرآن الكريم وما يتعلق بها من علوم اللغة والحديث الشريف، يتخلله ذكر بعض حكايات الزهّاد وبعض شعر المديح والتصوف.

لجوء شيخ الإسكندرية الشيخ محمد المسيري إلى طرابلس وبيروت
يوم الخميس في التاسع من شهر محرم الحرام سنة 1222هـ/ 1807م وردت الى الإسكندرية مراكب الإنكليز وعددها 42 مركبا، 20 قطعة كبيرة والباقي صغيرة، وقالوا انهم جاءوا للحفاظ على الثغر من الفرنسيين، وأحضروا معهم خمسة آلاف جندي. فردَّ أهل البلدة بأن معنا مراسيم بمنع كل من يدخل، فقال لهم الإنكليز: إما أن تسمحوا بالرضا بالتسليم وإما بالقهر. ومنحوا الأهالي 24 ساعة، قاموا بعدها بضرب المدينة بالمدفعية وهدّموا الأبراج والسور، فطلب الأهالي الأمان. وكان محمد علي باشا خارج القاهرة وفور عودته إليها جمع معاونيه وقيل وفق رواية الجبرتي «سخط على أهل الإسكندرية والشيخ المسيري حيث مكّنوا الإنكليز من الثغر وملّكوهم البلدة ولم يقبل لهم عذرا في ذلك».
وتوقع المسيري شيخ الإسكندرية وأعيانها انتقام محمد علي باشا منهم، فقرروا السفر الى طرابلس الشام، وبالفعل في 23 أيلول سنة 1807 أرسل قنصل فرنسا في طرابلس رسالة الى تاليران، وزير خارجيته، يعلمه فيها بأن باخرة أحضرت الى المرفأ شخصية إسلامية مهمة هي «الشيخ أحمد المسيري» مع ستين شخصا من أتباعه وأقربائه وأصدقائه، وجاء في الرسالة أيضاً بحضور سفينة حربية الى المرفأ بقيادة سليمان باشا حاملا رسالة من محمد علي باشا الى مصطفى بربر تطالبه بتسليم الشيخ «الهارب» لأنه أسهم بشكل رئيسي بدخول الإنكليز الى الإسكندرية. ولكن بربر رفض الطلب المذكور محتجاً بأن الأهالي يرفضون إبعاد الشيخ، وأرسل بربر مائة وخمسين عسكريا خوفا من خطف المسيري ليلا لا سيما وان الشيخ كان يحمل ثلاثة وعشرين ألف كيس في كل كيس خمسمائة قرش.
ويبدو ان بربر آغا نصح الشيخ المسيري بالابتعاد عن الأنظار والسفر الى بيروت البلدة الصغيرة. ويتبيّن من أقوال مفتي بيروت الشيخ عبد اللطيف فتح الله ان الشيخ محمد المسيري توطّن في بيروت سنة 1223هـ وقَدِم معه بعض مريديه وأقربائه ومنهم عبد الفتاح آغا حمادة، وبقي ابنه الشيخ مصطفى المسيري متوطّنا في طرابلس الشام كما سنبيّن لاحقا. وهنا نشير الى ان عبد الفتاح آغا حمادة تزوج من الطرابلسية نفيسة بنت إسماعيل البارودي.
يذكر ان الجبرتي ذكر اسم الشيخ بـ«المسيري»، وجاء في رسالة قنصل فرنسا في طرابلس ان اسم الشيخ «أحمد المسيري»، أما في بيروت فذاعت شهرة المسيري على ان اسمه «الشيخ محمد المسيري الإسكندري» وقد جلس للتفسير في الجامع العمري الكبير وحضر مجلسه الشيوخ عبد اللطيف فتح الله وعلي الفاخوري ومحمد الحوت وغيرهم.
تكريم المسيري من مفتيي بيروت عبد اللطيف فتح الله وأحمد الأغر
لم تحظَ إقامة المسيري في بيروت بين سنتي 1222 و1237هـ (تاريخ وفاته) بأي أخبار حول مكان إقامته ونشاطه الثقافي والاجتماعي ولعل ذلك عائد الى عدم رغبة الشيخ بعدم لفت أنظار عيون محمد علي باشا الى محل إقامته. كما لم نعثر على معلومة في هذا الأمر من البيارتة. كان الشيخ محمد المسيري، عالم الاسكندرية، هاجر الى بيروت وتوطّن فيها فرحّب به علماؤها فمدحه المفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله بقصيدة مهّد لها بقوله «الشيخ محمد المسيري الإسكندري بلدا والمالكي مذهبا والصوفي مشربا المتوطن في مدينة بيروت المحروسة من عام ألف ثلاث وعشرين ومايتين وألف حتى الآن وذلك في ذي القعدة سنة ألف ومايتين وثلاثين» وجاء فيها:
قمْ ساهر الليل بين البدر والزهرِ
وشاهد الروض بين النهر والزهر
أما ترى البدر أهدى من أشعته
للروض فسطاس نور خاطف البصر
كأنه أكؤس البلور داخلها 
ريش الطواويس مثل العسجد النضر
وجاء فيها أيضاً:
العالم الجهبذ التحرير قدوتنا
أستاذنا الماجد المعروف خير سري
العارف الورع البرّ الجليل التقيّ
الزاهد الناسك القوّام في السحر
الصالح المخلص النصّاح من نفعت
فينا نصائحه من جهلنا الخطر
ما ان سمعنا بتذكير مواعظه
إلا ومنه اكتسبنا ثوب معتبر
شيخي المسيري من شاعت مناقبه
في حسن صيت بأسنى الحمد منتشر
نجل الكمالات والاسكندري بلداً
محمد ذو الكمال الفاخر العطر
طلق المحيا ضحوك الثغر باسمه
أخو البشاشة في مكث وفي سفر
{ كما مدحه المفتي الشيخ أحمد الأغر بقصيدة مطلعها:
شمس الكؤوس سرت في مشرق الدرر
تناولتها الثريّا من يد القمر 
والروض قد لعبت أيدي الرياح به
لعب الغرام بقلب بالولوع حريّ
وبين باناته قد صوّتت عجبا
ففيه كم أرقصت غصنا من الشجر
وفيها:
ألا بمدح إمام زاهد ورع
سميدع سيد شهم ومفتخر 
علّامة فاضل فهامة وكذا
دراكة مفرد نقّالة الأثر
محمد بن علي المرتضى علم 
فليس لي غيره حقا بمنتظر
هو المسيري لا يخفى على أحد
لأنه شمس دين الحق للبشر
سكندري زمان قد حظيت به
كم اجتماع له في سيدي خضر
سكندرية تيهي وازدهي قمرا
بين البلاد وجري بردة الفخر
بسيد تفخر الدنيا بخدمته
كانت رفيقته في حالة الصغر
سقيا لبيروتنا الغرّاء ان لها
فخرا بذا البدر صحوبا مع الخفر
فسيدي مالكي حقا بلا ريب
وشافعي حنفي والسيد الجزري
شيخ الحقيقة والعرفان قدوتنا
صدر الشريعة مولى صاحب الدرر
كرامة للشيخ المسيري في الجامع العمري
قعد المسيري للتفسير في الجامع العمري الكبير ومن كراماته فيه ما رواه الشيخ عبد الغني البنداق البيروتي، قال الشيخ عبد الله بيهم: حضرت درس الشيخ محمد المسيري الاسكندري في الجامع الكبير العمري في بيروت يوماً فأخذ الشيخ يفسر قوله تعالى {وأوحى ربك الى النحل} وكان الوقت شتاء. فقال بعدما شرع في تفسير الآية المذكورة: يا اخواننا هذه النحلة قد جاءت - وإذ بنحلة أقبلت فمدّ لها إصبعه الشاهد فوقعت عليه - وصار الشيخ المسيري يفسر كيفية عملها البيوت والشمع والعسل ويشير إليها الى أن أتمّ كلامه عن ذلك فطارت.
ونسب إليه ما رواه أن رجلاً جاء الى بعض الصالحين فشكا إليه كثرة العيال وقلّة ذات اليد، فقال: إذهب الى بيتك فكل من وجدت رزقه عليك فأخرجه من بيتك وكل من وجدت رزقه على الله فدعه مكانه. فقال له: ما منهم إلا ورزقه على الله. قال: هو ذاك.
وفاة المسيري
توفي الشيخ المسيري في ذي الحجة سنة 1237هـ/ 1822م ودفن في جبانة السنطية (التي دفن فيها فيما بعد الشيخ أحمد الأغر) وعمل له المفتي عبد اللطيف فتح الله تأريخا لأجل وضعه على قبره هو:
ان هذا الضريح روض نعيم
في جنان الخلود ذات القصور
حَلّه عالم إمام جليل
وشهير يا له من شهير
هو للعلم شمسه اليوم غابت
وتوارت الآن بعد الظهور
ذا المسيري محمد بحر علم
مفرد الدهر قد خلا عن نظير
صبّ ربي عليه أرّخ وأوحى
رحمة الله للإمام المسيري
كما نظم مفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغر تأريخا لوضعه على قبر المسيري وبيت التاريخ:
مذ كان في العلم وأرّخ جبلاً
قد فاز في مقعد صدق يا بشر
علاقة البيارتة بأسرة الشيخ المسيري
يتبيّن من ديوان مفتي بيروت الشيخ عبد اللطيف فتح الله ان صداقة جمعته بالشيخ مصطفى ابن الشيخ محمد المسيري الذي كان متوطّنا في طرابلس الشام. وفي جمادى الأولى حضر الى بيروت من طرابلس الشيخ مصطفى ابن الشيخ محمد المسيري وعمل للمفتي فتح الله موشحا أندلسيا مدحه به، فأجابه المفتي على عروض وضرب موشحه واصفاً الشيخ مصطفى إياه بـ«ولده القلبي» (من أدوار الموشح) قوله:
بابي كنه محيته الوسيم
فلقد راق جمالا وصفا
واللمى يجري على الدرّ النظيم
قد حكى الشهد وفاق القرقفا
فابتدر نحوي وبادر يا نديم
وعليّ أتل مزايا مصطفى
وقد مدح المفتي فتح الله الشيخ مصطفى المذكور بموشح أرسله له طي كتاب منه الى طرابلس، وأحد أدواره:
ذا مصطفى العرفان سعد البيان
وسيبويه العصر دون ارتياب
والحافظ الثبت بهذا الزمان
ومالك الوقت برأي صواب
هو المسيري الذكي الجنان
أعيذه دوما بآي الكتاب
وقد حضر للمفتي فتح الله موشح من الشيخ مصطفى المذكور ومعه هدية هي «سلة ليمون برتقال كبير حلو الطعم بهيّ المنظر»، فنظّم المفتي أبياتا وحرّرها له وهي:
عليّ بليمون كرمت أخا الندى
وقد كان عندي من أجل المواهب
من البرتقال الحلو طعماً وانه
كبير جميل الخلق من كل جانب
كأنك قد طلت النجوم من السما
فأهديتني منها بدور الكواكب
* مؤرخ