من شروط تولية القضاء والإفتاء والتدريس أن يكون الطالب عالماً بلسان العرب لغة ونحواً كالأمر والنهي والخبر والاستخبار والوعد والوعيد والنداء وأقسام الأسماء والأفعال والحروف، وما لا بدّ منه في فهم معاني كلام الله تعالى من الكتاب العزيز وفهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بلغة العرب من ألفاظه، قادراً على استخراج المعاني المفهومة من الألفاظ المنقولة، عارفاً بطرق النظر وترجيح الأدلة بعضها على بعض، مع مراعاة الإيجار وتجنّب التكرار الى جانب البساطة في التعبير وقوةٍ في التدليل. وإن إتقان اللغة بابٌ لفهم النصوص الشرعية والأحكام الفقهية وحسن تطبيقها. ولما كانت لغة الأحكام والفتاوى تتجسّد في وضوح ودقة دلالات الألفاظ على المعاني الى جانب العناية بسلاسة العبارات وجزالة الألفاظ بالإضافة الى إتقان التسبيب وسلامة الاستدلال فقد كان على العاملين في والتدريس أن يتزوّدوا بعلوم اللغة الى جانب الفقه والتفسير والحديث والتوحيد والتاريخ، وأن يحفظوا القرآن والحديث ومشاهير القصائد والحِكم والأمثال، وكانت هذه العلوم تدرّس من قبل الشيخ محمد الحوت في الجامع العمري الكبير، وقد تخرّج من حلقات التدريس من الطلاب من أصبح مفتياً وقاضياً وشاعراً ومسؤولاً حقوقياً وكانت لهم آثار تُذكر فتُشكر.
الدروس الفقهية واللغوية وطريقة التدريس
علمنا من مخطوطات تلامذة الشيخ محمد الحوت، وعلى رأسهم الشيخ عبد الباسط الفاخوري، أسلوب شيخهم في التدريس والتفسير وذلك على طريقة الأمالي أو السؤال والجواب، ففي تلك المخطوطات يقول الفاخوري سألت شيخي (الشيخ محمد الحوت) فأملى عليّ وقال. وأنه أوضح في مجلس آخر ان شيخه أملى عليه كيفية تحديد سمت القبلة. وقد تمكّنا من معرفة الدروس التي تلقّاها تلامذة الشيخين الحوت وخالد من مصدرين: أولهما المخطوطات التي نسخها التلامذة ودرسوها، منها «منهج الطلاب» الذي اختصره شيخ الإسلام أبو زكريا الأنصاري و«فوائد في قواعد الإعراب» لجمال الدين بن هشام و«شرح العوامل الجديدة» للشيخ عبد الله خالد.. الخ.. مما بيّناه في كتابنا «تاريخ القضاء الشرعي في بيروت».
وقد نال تراث محدّث بيروت الشيخ محمد الحوت الكثير من الإهمال. ولولا أن بعض تلامذة الشيخ حفظوا بعض آثار شيخهم لضاع الكثير منه. وكان من وفاء تلميذه المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري، أن أورد في مخطوطاته بعض رسائل شيخه محمد الحوت وبعض الدروس التي كان يلقيها الشيخ في الجامع العمري الكبير. منها ما نشرناه في «اللواء الإسلامي» (6/6/1997). وكذلك جواب الشيخ عن سؤال تلميذه الشيخ الفاخوري عما جرى بين الصحابة في البيت الوارد في عقيدة أبي عبد الله الشيباني في «جوهرة التوحيد» والقائل:
ونسكت عن حرب الصحابة
فالذي جرى بينهم كان اجتهادا مجردا
كما أملى الشيخ الحوت على تلميذه الشيخ عبد الباسط الفاخوري عقيدته ورسالة في خلق الأفعال ورسالة في المقارنة بين فقهي الإمام الشافعي. وذكر في هذا المجال «قال شيخنا رحمه الله تعالى قد ألف الشافعي رحمه الله تعالى مذهبين. أحدهما الذي ألفه ببغداد وهو المذهب القديم ومن أصحابه الإمام أحمد بن حنبل والزعفراني والربيع المرادي. ثم رجع عن أكثره لأدلة اتضحت له، فألف الجديد بعد قدومه إلى مصر. ويسمى هذا الكتاب بالأم. ومن أصحابه البويطي والمزني والكرابيسي والربيع الجيزي. ثم إن أصحابه من بعده رجّحوا بعض مسائل من القديم لرجحان أدلتها. فإنه رحمه الله علق مسائل على صحة الحديث. فقال: «إن صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي ظهر الحائط. وهي إحدى وعشرون مسألة...»، ثم يفصّل الشيخ محمد الحوت تلك المسائل فيقول عن سابعها «إن صلاة العشاء الأفضل فعلها في أول الوقت كبقية الصلوات، وأن يسنّ تأخيرها إلى ثلث الليل الخ...». ويقول عن حادي عشرها «إن الجلد المدبوغ لا يحل أكله بعد دبغه لخروجه عن طبيعة اللحم إلى طبيعة الثوب، فيمتنع أكله لضرره».
شرح الشيخ محمد الحوت على شرح ابن حجر الهيتمي
وذكرنا في «اللواء الإسلامي» (8/10/2010) أننا عثرنا على حاشية للشيخ محمد الحوت على شرح ابن حجر الهيتمي للأربعين النووية في مخطوطة فريدة بخط المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري كتبها سنة 1263هـ ومما ورد في هامش الكرّاسة رقم 16:
«فائدة يروى أن أول من جمع الأولاد في المكتب عمر بن الخطاب، وأمر عامر بن عبد الله الخزاعي أن يلازمهم للتعليم، وجعل رزقه في بيت المال. وكان فيهم بليد وفهيم. فأمره أن يكتب للبليد في اللوح، ويلقّن النبيه من غير كتابة. فكان عمر يشهدهم على الأمور التي يخاف عليها الإنقطاع، كالنسب والولاء. فسأله الأولاد أن يجعل لهم التخفيف، فأمر المعلم بالجلوس بعد صلاة الصبح إلى الضحى العالية، ومن صلاة الظهر إلى صلاة العصر، ويستريحون بقية النهار. إلى أن خرج إلى الشام عام فتحها، فمكث شهراً ثم رجع إلى المدينة، وقد استوحش الناس من غيبته. فخرج الناس للقائه، فتلقّاه الصغار على مسيرة يوم، وكان ذلك يوم الخميس، وباتوا معه، ورجع بهم يوم الجمعة، فعيّدوا في خروجهم ورجوعهم. فجعل لهم التسريح في اليومين المذكورين. فصار ذلك سنّة إلى يوم القيامة، ودعي بالخير لمن أحيا هذه السنّة، ودعي بضيق الرزق لمن أماتها...».
حاشية للشيخ محمد الحوت على كتاب المعاني
وفي مجلس رابع شرح الشيخ الحوت شرح «مختصر المعاني والبيان» للإمام سعد الدين التفتازاني، عثرنا على نسخة لها بخط المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري كتبها في شهر ربيع الثاني (1312- 1390م) 264هـ/ 1848م. ودوّن عليها «قد وفّق الله إتمام مطالعة هذا الكتاب على شيخنا السيد الشيخ محمد الحوت في جامع الكبير العمري في بيروت في 29 شهر ذي الحجة سنة 1266هـ/ 1849م والحمد للّه رب العالمين الفقير إليه تعالى كاتبه عبد الباسط». وتأتي أهمية نسخة المفتي الفاخوري مما ورد في هوامشها من تعليقات الشيخ محمد الحوت كتبت في نهاية كل منها كلمة «حوت». ومن أمثلة الشرح نذكر ان التفتازاني بدأ في مقدمته بقوله «نحمدك يا من شرح صدورنا لتلخيص البيان في إيضاح المعاني ونوّر قلوبنا بلوامع التبيان من مطالع المثاني...»، فقال الشيخ الحوت «لوامع جمع لامعة وهي كل ما فيه بريق ونور يتعلق بها من مطالع المثاني فتكون مَن للابتداء، والمطالع جمع مطلع وهو مكان طلوع الكوكب، والمثاني جمع مثنى والمراد به الكتاب العزيز لأنه يثني بالقراءة أو تثني فهي الآيات وفيه تشبيه الكتاب بالأفق على طريق الكناية وإثبات المطالع تخييل، وذكر اللوامع ترشيح والمعنى نوّر قلوبنا بآيات القرآن الشبيهة بلوامع الكواكب الطالعة بجامع الهداية وبين المعاني والمثاني التوازن» (حوت).
دور الشيخ محمد الحوت في فتنة سنة 1860
كان للشيخ محمد الحوت ورفاقه من البيارتة الدور الكبير في استقبال النازحين الى بيروت هربا من الفتنة لطائفية إثر حوادث جبل لبنان سنة 1860. وقد كتب خليل الخوري في صحيفة «حديقة الأخبار» سنة 1860م (عدد 127) حرفياً «لا يخفى أن كثيرين من فقراء النصارى في جبل لبنان قد التجأوا الى بيروت منهزمين من نار الشرور التي ثارت في بلادهم، فصادفوا كل مرحمة ومجابرة من أهالي المدينة ولا سيما أمة الإسلام الذين بذلوا لهم المساعدة العظيمة بإعطاء محلات للسكن وبتفريق الخبز وجمع الحسنات، وكل ما يؤول لنفعهم مظهرين الغيرة التي هي من شعائر الإنسانية، وبذلك تمموا إكرام الغريب ونالوا الأجر عند الله والشكر عند الناس» ويتابع الكاتب «وهنا نثني على جناب العلّامة الشيخ محمد الحوت صاحب البر والفضل الشهير الذي لا يفتر عن الإنذار بالخير والصلاح حسبما انطوت عليه سريرته السليمة من محبة العموم وحب السلام. كما أننا لا ننكر فضل العلّامة الشيخ عبد الله خالد وجناب السيد عبد الله بيهم العيتاني رئيس مجلس التجارة وجناب السيد محمد البربير مع المتميزين من وجوه الإسلام الذين مارسوا أبهتهم بكل ما يوطد الألفة والمحبة بين الجميع».
الشعر المنسوب للشيخ محمد الحوت
كان الشيخ محمد الحوت مقلاّ في نظم الشعر. وقد عثرنا في ديوان المفتي الشيخ أحد الأغر «ان بعض أولاده القلبية أطلعه على أربعة أبيات محاسنها جليّة من نظم أحد علماء العصر من السادة الشافعية وهو من أهالي بلدتنا بيروت السيد الشيخ محمد الحوت الذي هو بالصلاح منعوت وطلب منه تخميسها فأجابه لمطلوبه وخمّسها كما يلي:
لآل شيبة في الإسلام مرتبة
لكم من الله قد عزّت ومكرمة
بالنص قد جاءكم عز ومرحمة
اكرم بنص به فخر ومنقبة
لآل شيبة في ذكر الكرامات
نص على فضلكم لا زال يغمركم
بأنكم دمتم الرحمن يشكركم
أهل الأمانات في الآيات يذكركم
وذلك النص ان الله يأمركم
الى الصّحابة أن أدّوا الآمانات
لا زلتم أهل بيت تمنحوا المننا
من ربكم ولمن فيكم يلوذ غنى
ودمتم الدهر أبواب الإله لنا
كفاكم الفخر رد المصطفى علنا
مفاتح البيت تأتي بالمسرّات
من أمّ ساحتكم يا سادتي وقصد
نال السرور وللخير العميم وجد
وحيث في فضلكم آي الكتاب ورد
لا تبتغوا شاهدا غير الكتاب فقد
أتاكم الفضل من ذكر وآيات
يذكر اننا كنا أول من نشر الأبيات الأربعة المذكورة للشيخ محمد الحوت وقد نقلها بعض الكتّاب دون أن يشيروا (كالعادة) الى مرجعها.
* مؤرخ