أوضح الشيخ بهاء الدين سلام في «اللواء» (7/10/ 2019) ما قصده من مقال سابق له بعنوان «اوقفوا بناء المساجد» بعد ان أساء البعض فهم ما عناه جهلاً أو تحاملاً أو الإثنين معاً..؟!
فإذا كان المطلوب إقامة مسجد في كل حي ومحلة وزاروب فالمطلوب أيضاً وبالتزامن أن يقام بجوار كل مسجد مدرسة وجامعة ومستشفى ومؤسسة للرعاية الاجتماعية وهيئة لمساعدة الشباب على العلم والعمل وتأمين المسكن والعلاج وإكمال نصف الدين.
ورأينا إبداء رأينا المتواضع في الأمر...
في أمثال البيارتة التي ذكرها الحاج سعد الدين فروخ المثل القائل: «الزيت إن عازه لبيت حرام على الجامع» ونقل أنيس فريحة في معجم الأمثال من الأمثال السورية اللبنانية المثل: «جامع (بيت) بلا عيش قنيانه ليش؟» وتفيدنا واقعات الدهور وحادثات العصور ان بناء المساجد والزوايا والمدارس الخيرية ترافق دوماً مع إنشاء أوقاف يخصّص ريعها لوظائف تلك المؤسسات والتي لم تستمر بأداء الغاية منها إلا بفضل ريع الأوقاف المذكورة فلا تبقى معرضة في استمرارها على حياة الباني أو تدهور حالته المالية.
والصدقة هي أول وجه من وجوه البر التي اعتمد عليها وجود الوقف في الفقه الإسلامي. وهي المسندة الى قول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع بـــه أو ولد صالح يدعو له».
وقد قامت الأوقاف باعتبارها صدقة جارية بدور كبير في مجال الرعاية الاجتماعية والتكافل على مر الزمن وتأتي أهميتها من أنها تكثر في زمن الازدهار الاقتصادي ما يؤدي الى ثراء بعض الأفراد الذين يقدمون بعض أموالهم إيماناً واحتساباً فيما بعضهم الآخر يقصد الوجاهة والزعامة أو يتوخى غاية سياسية، في حين ان كثرة الأوقاف في زمن الكساد الاقتصادي تؤمن استمرار عمل المؤسسات الصحية والتربوية والدينية ومنها المدارس والزوايا من ريع الأوقاف المرصد ريعها الى تلك المؤسسات، مما يساعدها على تجاوز الأزمات. ولولا الصدقة الجارية لما استطاعت المدارس والمساجد والمستشفيات الصمود واستمرار خدماتها على مدى عقود من الزمن.
لم تسجل الأوقاف التي كانت مخصصة للتعليم والتطبيب ومواساة الفقراء في السجل الشرعي لمحكمة بيروت الشرعية العائد لسنة 1843م ولم تعرف تفاصيل ومحتويات الكثير من الوقفيات ولا تواريخ وقفها وأسماء واقفيها ومتولييها وبقيت بدون تحقيق حتى سنة 1878م عندما تأسست جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية من أجل التعليم والتطبيب والمواساة فارتأى مؤسّسوها ضم الأوقاف المخصصة للغايات المذكورة الى الجمعية، فتألفت لجنة برئاسة مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري للنظر بتلك الأوقاف، وتبيّن ان بعضها خرب والبعض الآخر لا ريع له ويحتاج الى ترميم ولا يرغب أحد بتعميره أو استئجاره والبعض الثالث لا يعرف من المتولي عليه، فجرى وضع لائحة فيها حملها عمر غزاوي (والد عبد الله غزاوي أحد مؤسّسي الجمعية) الى دمشق وحصل على توقيع والي سورية مدحت باشا بتسليمها للجمعية. ومن هنا كان حرص جمعية لمقاصد على بناء مدرسة بجوار كل مسجد.
المسجد مركز كبير
شهدت المساجد نشاطات متنوّعة فإلى جانب وظيفتها الدينية الأساسية، أقيمت فيها حلقات التدريس تحلق فيها الطلبة حول المعلم يتلقون علوم الحديث والفقه والتفسير والتاريخ والمنطق والفلك كما أقيمت في المساجد مجالس القضاة للبت في المنازعات وإحقاق الحق والعدالة. وكانت تحفر وتنفش على جدران المساجد الداخلية وأعمدتها الفرامانات والتنبيهات كما يشاهد في الجامع الكبير العمري في بيروت. وكان الخطباء يتولون إبلاغ المصلين بقرارات الحكام وقامت أبواب المساجد بدور توزيع الصدقات فوجدت قفة الخبز بجوار الجامع الكبير العمري التي كان يوضع فيها الخبز ليأخذ الفقير منها بعد صلاة الجمعة حاجته كما كان الحاج محمد علي المكوك يعلّم عند باب الجامع العمري الحساب والخط.
مما لا شك فيه ان الله تعالى فضّل الإنسان على سائر المخلوقات فجعله في الأرض خليفة لعمارها ومما جاء في سورة الاسراء «... وفضلناهم (أي بني آدم) على كثير ممن خلقنا تفضيلا» ويستتبع هذا التفضيل الحرص على حسن قيام الإنسان بهذه الخلافة بالحفاظ على صحته الدينية وعلى صحته البدنية بإنشاء المستشفيات وعلى صحته العقلية والفكرية بالمدارس والجامعات وكذلك العمل على استقرار عائلته وبيئته فيتلاقى دور المسجد الديني مع المجالي العسكرية الجهادية والعلمية والاجتماعية، وليس الاقتصار كما شاع اليوم من التفاخر بالجانب الهندسي والمعماري والفني للمسجد. ولأن المسجد هو بيت الله فهو أيضا بيت الجماعة التي استخدمته لتسيير أمورها التعليمية والقضائية والاجتماعية.
وشاعت في المساجد المملوكية في مصر والشام فكرة اعتبار المسجد كجزء من مجمع كبير يضم عدة مؤسسات كمدرسة ومارستان وصيدلية وصندوق زكاة وسبيل. ونشير هنا الى تجربة فريدة مماثلة جرت في بيروت سنة 1907 عندما تم بمسعى الوالي خليل باشا إنشاء مجمع الصنائع الذي ضم مدرسة داخلية مجانية مهنية تعليمية عملية ومستشفى للفقراء ومسجدا وحديقة عامة للطلاب.
ومن هنا ندعو المرجعية الدينية للعمل على إنشاء مؤسسات عصرية علمية وصحية واجتماعية ومالية وعقارية الى جانب الوظيفة الدينية للمسجد توحيدا لأعمال البر وترشيداً لها كما طالب الشيخ الداعية بهاء الدين سلام حفظه الله.
مؤرّخ