بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 تشرين الثاني 2017 12:05ص ثلاث فتاوى بسبب فتح شباك من المفتين في بيروت

الشيوخ محمد الحلواني وعبد اللطيف فتح الله وأحمد الأغر

حجم الخط
قضية صغيرة في نطاقها الجغرافي  كبيرة في أبعادها الاجتماعية والدينية والأخلاقية والمعمارية... قضية فتح شباك بين جارين في بيروت القديمة ضمن السور بين بيوت متراكبة مشتركة في المسيل  والمشرب  والمرور  ومشتركة أيضاً في الماء والهواء والضياء، قضية فتحت المجال للفقهاء لإعمال الرأي والبحث والتحري بعد الكشف على موضع النزاع ثم تجلى ذلك كله في ثلاث فتاوى  من المفتين  في بيروت: فتوى من الشيخ محمد الحلواني وتعقيب مؤيد من المفتي الأسبق الشيخ عبد اللطيف فتح الله وبحث فقهي ودراسة اجتماعية  من المفتي والقاضي السابق الشيخ أحمد  الأغر. 
أنتجت المؤثرات الدينية والمناخية طابعاً معمارياً في بيروت القديمة متمثلاً بالبناء المربع المغلق عن الخارج بحيطان صمّاء، والمفتوح من الداخل على فسحة سماوية  تتوسطها بركة ماء. وجعل مدخل البيت منكسراً حتى لا يشاهد المارة المتطفلون ما بداخل البيت. ونتج عن تلك المؤثرات تزويد النوافذ والكوى (القمريات) بكاسرات للشمس، وهي المشربيات المصنوعة من الخشب المخروط المعشّق مع بعضه. وكان  منها نوع مصنوع من عصي مجموع بعضها إلى بعض كان يسمى في بيروت «الشعاري» التي كانت تساعد في تخفيف أشعة الشمس والحرارة. وفي  ترطيب الهواء، وحجب الرؤية والإطلاع على المحارم في الوقت نفسه (كان احد اسواق بيروت القريبة من البازركان يعرف بسوق الشعارين نسبة الى صانعي الشعاري  لا الى الشعر كما وهم  بعضهم). 
وكان من الطبيعي أن تكثر النزاعات بين الجيران في نطاق جغرافي ضيّق كبيروت القديمة حيث تتراكب البيوت وتختلط المرافق الخاصة والعامة. وكثيراً ما كان حلّ هذه النزاعات يعتمد على حكمة القضاة والفقهــــاء ولا سيّما في قضايا فتح الشبابيك والكوى وتعلية جدران بخلفية الغيرة الأخلاقية التي هي من الإيمان، وتفيدنا سجلات محكمة بيروت الشرعية على مشاركة السلف الصالح في حلّ المشكلات الطارئة، فكان الكشف على الوضع المشكو منه سيتم من الشيوخ إبراهيم الأحدب ويوسف الأسير وقاسم أبو الحسن الكستي وكان القاضي يجري كشفاً حياً في موقع العقار برفقة «عمدة العلماء الأعلام الصلحاء الفخـــــــــــــــام الشيخ محمد الحوت والشيخ عبد الله خالد».
وما حصل في بيروت سنة 1842 م انه كانت  للسيد محمد البربير مكانة كبيرة في مجتمعه. وعندما توجه محمد البربير ونجله عمر وغيره من بني البربير الى دمشق قال الأغر:
           توجهوا لدمشق                      دار الهنا بالسلامه
          سيروا بعزّ وسعد                    على جناح الكرامه
وكان محمد البربير من كبار تجار بيروت ومن أوائل الذين تعاملوا مع تجار فرنسا في البورسلان حتى ان الفرنسيين ارسلوا له هدية من الفناجين كتب عليها «اشرب هنيئاً محمد البربير» وهو والد الشيخ ابراهيم  والشيخ محمد عمر صهر الأغر (زوج ابنته عنبرة) وصاحب ومدير المدرسة القادرية وكان موقعها  في محل المحكمة القديمة تجاه جامع النوفرة  والشاعر محمد مصباح الذي كان كاتبا في مجلس التحقيق والمحاكمات الذي نظر بحوادث سنة 1860 الطائفية في الجبل ، وقد توفي شاباً في طاعون سنة 1865م (له ديوان طبع بالمطبعة الأميركانية سنة 1290هـ/1873م  بعنوان البدر المنير في نظم مصباح البربير). 
كان محمد البربير يملك بيتاً وحديقة في وسط بيروت ويبدو أن أحد جيرانه، الذي كان يملك داراً ملاصقة لدار البربير وفيها عليّة، أقدم  على فتح شباك في عليّة داره تكشف حديقة دار آل البربير.ولم يكن في حينه من قانون يوجب ترك مسافات على الجيران مراعاتها في البناء وفتح النوافذ، كما أن الفقهاء لم يحددوا مسافة معينة، ولكنهم اتفقوا على ضرورة تأمين المنافع والحاجات الطبيعية للإنسان.
ونعود إلى دار البربير لنقول بأن السيد محمد البربير اعترض على فتح  الجار الشباك في عليته لأنها تطل على فسحة دار البربير وعلى علية داره. وتوجه محمد البربير سنة 1258هـ/1842م إلى مفتي بيروت في حينه الشيخ محمد الحلواني واستفتاه في الأمر. إلا المفتي المذكور قال بأن له شبهة فيما إذا كانت العلّية محل قرار النساء وأن من حق الجار فتح شباك يكشف العليّة؟ وطلب المفتي الحلواني من  البربير أن يأتيه بفتوى من دمشق ليقلدها.
وبعد أن أتى البربير بفتوى من دمشق تناقض فتوى المفتي الحلواني، أشاع في بيروت بأن الحلواني يفتي بالقول الضعيف. مما اضطر المفتي الحلواني  إلى أن يرسل فتواه إلى مفتي بيروت الأسبق الشيخ عبد اللطيف فتح الله لإبداء رأيه مؤكداً بأن الفتوى التي جاء بها البربير من دمشق مخالفة لفتواه لأن السؤال الذي طلب من دمشق غير السؤال الذي وجه اليه ومن المعلوم ان الفتوى على قدر السؤال.  فكتب الشيخ فتح الله  رسالة سماها «حكم فتح الشباك الكاشف على الجيران وسدّه وعمل الساتر له».  قال فيها بأن علة المنع من الفتح أو وجوب السد أو وضع الساتر ، هي حصول الضرر البيّن بأحد الجارين، وقد انتفت بسد أحدهما شباكه أو بوضعه ساتراً له، وأن الضرر البيّن هو ما يهدم البناء او يوهنه  أو يمنع الإنتفاع بالكلية، وأن سد الشباك أو وضع الساتر عليه يرفع الضرر البيّــن.
ووقعت رسالة المفتي عبد اللطيف فتح الله بيد مفتي بيروت السابق الشيخ أحمد الأغر الذي بعد اطلاعه عليها كتب رسالة بعنوان «دليل التيهان والحيران إلى معرفة حكم الكشف المضرّ على الجيران»؟ ورأى فيها أن الضرر اللاحق بالبربير غير بيّن (بيّن بلغة الفقهاء تعني الضرر الفاحش بلغة القانون)، لأن علية داره ليست محل قرار نساء آل البربير وجلوسهن بصورة دائمة. (وقد نشرنا فتوى الحلواني ورسالتي فتح الله والأغر في كتابنا « حقوق الجوار في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية»).
العدالة وحدود حرية المالك بالتصرف بملكه 
صوّرت العدالة بامرأة معصوبة العينين أمسكت بإحدى يديها ميزاناً معتدلاً وأمسكت بالأخرى سيفاً فإذا أخلت كفتا الميزان أعادهما السيف الى التعادل فقيل أن العدل مأخوذ من العِدل الذي يحمل الأثقال على ظهر الدابة فتساوي الثقل شرط  لاستقامة العِدلين. وقد عرفت الحقوق الرومانية بعض القواعد التي قامت على مبدأ هو أقرب الى الإنصاف منه الى فكرة التعسف في استعمال الحق وفي أمثالهم «الخبث لا يستحق الرعاية» و«الغلو في الحق يصل الى الظلم» وفيما عدا هذا فقد قال الرومان بما ينافي نظرية التعسف فقد ذكر في الديجست الروماني قول للفقيه كايــــــــــــــــوس «ليس لمعتدي من يستعمل حقه». وقال اولبيانوس انه «ليس بالمؤذي من يستعمل حقه». وظلـــــــــــــت القاعـــــــــــــــدة اللاتينية الشهيـــــــــرة «لا يسأل أمرؤ عن حقه الذي استعمله» هي الأصل السائد في القرون الوسطى ثم بدأت تتطور بفضل تعاليم الكنيسة وحرصها على تحقيق العدل. إلاّ أن الفقيه الفرنسي دوما رغم رأيه بتعريض من يتعسف باستعمال طرق المراجعة للمسؤولية إلاّ أنه رفض محاكمة مالك تعسف في التصرف بملكه وقطع المجاري الأرضية التي تغذي نبع جاره. ومع انتصار الثورة الفرنسية وسيطرة روح الفردية والحرية المطلقة أضحى الحق الشخصي مقدساً مطلقاً لا يجوز مسّه لأي سبب كان.
حقوق المالك في  الشريعة الاسلامية 
أقرّ الفقهاء أنه من التناقض أن يقال بتبعة شخص جاء بما أجازه الشرع  فاتفقوا على أن الجواز الشرعي ينافي الضمان (م/91 مجلة الأحكام العدلية) والذين قالوا بعدم الضمان إطلاقاً، اعترفوا بضرورة منع الشخص من الفعل لا لأنه أساء استعمال  حقــــه بل لأنه تجاوزه. فمن الأوليات الشرعية والقواعد الكلية في جميع الشرائع أن إجازة القانون لشخص بحق ما ترفع عنه كل تبعة تجاه الغير من جراء ما قد ينتج عن استعماله حقه ضمن حدوده القانونية من ضرر يلحق بالغير. وتشغل نظرية التعسف في استعمال الحقوق الخاصة مكاناً مرموقاً ويلجأ اليها الفقهاء كلما ضاقوا ذرعاً بنصوص القانون ولم يجدوا فيها ما يحقق العدالة.
أما الشريعة الإسلامية فقد بنت  العلاقات الإنسانية على أسس ومبادىء أخلاقية تهدف الى تمكين الروابط الاجتماعية وتحقيق التكافل الاجتماعي الذي هو استجابة للفطرة البشرية والحاجة الاجتماعية فحيث وجد الاجتماع وجد معه التنازع بين المتجاورين تنازع كانت الغلبة فيه للخير والتعاون.
والقواعد التي فرضتها الشريعة على المالك بشكل عام وعلى الجار بشكل خاص لا مثيل لها في كافة التشريعات الوضعية السابقة وقد بين الإمام الشاطبي في «الموافقات» أن الشارع قصد من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقاً لقصده في التشريع فالمشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد . فالحقوق كلها مقيدة بعدم المضارة وفي حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: لا ضرر ولا ضِـــــــرار. فلا يضر الرجل أخاه ولا يُضار كل واحد منهما صاحبه.  وقد وضع الفقهاء تطبيقاً للحديث الشريف قواعد قننتها مجلة الأحكام العدلية واعتمد في خطها العام منع التصرفات التي تلحق ضرراً فاحشاً بالغير وهو الضرر الذي يمنع المنفعة الأصلية المقصودة في البناء وهذا الاتجاه اعتمده قدري باشا الذي وضـــــــــــــع «مرشد الحيران» بتكليف من الحكومة المصرية على غرار المجلة. وطبقت هذه القواعد في فتح الشبابيك بين البيوت ولاسيما عندما يبني شخص في داره عليّة له شبابيك تطل على ساحة جاره التي هي محل قرار نسائه فإن يسوغ للجار تكليف جاره بسد الشبابيك إلا أن يبني هذا الأخير ساتراً بمنع الإشراف.
الغيرة من الإيمان 
ويبرر المفتي الأغر في رسالته سبب وضع الشعاري ويدعو المسلم الى أن يكون «أشد غَيرة وأقوى حفظاً على نسائه منهما على ذهبه» وعليه العمل على منع الكشف من شبابيك الجيران وأعطى مثالاً على ذلك بقوله «الشعاري وهي المعروفة والتي استعملها أهل هذه البلاد ووضعها لآجل عدم الكشف على حريمهم... وأنه يحصل من وضع  الشعاري كما جرت عادة بلادنا – نوع من  اطيفان  النفوس وانشراح الصدور والخواطر ومن سرور القلوب والنواظر وفيه دفع معظم هذا الفساد عن المنظور والناظر من رشيد سعيد ومن قاصر خاسر من الأكابر والأصاغر»..
ويشير الأغر الى عادة البعض من النساء فيقول «ان من عادة النساء الجارية في البلدان  وخصوصاً المخدرات منهن انهن لا  يجلسن في الشبابيك المفتوحة في العلالي خوفاً من انكشافهن من السطوح وغيرها لفرط حيائهن المعهود من غالبهن وشهد له الحديث الشريف» الحياء عشرة أجزاء فتسعة في النساء وواحد في الرجال». 
وقد انتقد المفتي  الأغر هذه الخلافات فيصف تصرفات البعض فيقول «كم اناس من المسلمين والذميين المجاورين لهم في سكناهم  تبرز نساؤهم من بيوتهن الى الاسواق ويمشين فيها مع الرجال من غير استتار بملاءة وغيرها بل يكنّ فيها كذلك كاشفات الرؤوس والشعور وغير ذلك  بلا مانع وإذا كان يقع عليهن الكشف فيما سكنّه من المساكن من الجيران من شباك وغيره فترى رجالهن قائمي النكير على من يكشف عليهن فيها ويخاصمونه لدى الحاكم الشرعي في شان ذلك ومنعه أشد الخصام وقد وقع عندي الكثير من ذلك..».
وقد جاءت القوانين الوضعية وأنظمة البناء لتحدد المسافات الواجب مراعاتها والتراجع عن حدود أرض الجوار. فارتفعت بذلك أية إشكالات أو منازعات.

*محامٍ ومؤرخ



أخبار ذات صلة