تحقّقت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية عام 1453م/857هـ، على يدي السلطان محمد الثاني، وذلك بعد عدّة محاولات قام بها المسلمون، منذ عهد معاوية بن أبي سفيان إلى عهد هذا السلطان الذي كان شاباً ورعاً طموحاً، وعالماً أديباً، نَظَمَ الشعر وترك ديواناً باللغة التركية، واتقن عدداً من اللغات كالتركية، والعربية، والفارسية، واليونانية، واللاتينية، والسلافية.
اعتلى السلطان أبو الفتح عرش بني عثمان، وهو في الحادية والعشرين أو الثانية والعشرين من عمره، وحكم مُـدّة ثلاثين سنة من عام 1451 حتى عام 1481م/855 - 886هـ.
يُعدّ السلطان محمد الفاتح من أعظم سلاطين بني عثمان، ومن قادة العالم العظام الذين لمعت أسماؤهم في الفتوحات والحروب التي خاضوها، كخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص، وطارق بن زياد، والاسكندر المقدوني، ونابليون بونابرت...
وبعد أن فتح عاصمة البيزنطيين العريقة، واتخذها عاصمة للدولة العثمانية وأطلق عليها اسم إسلامبول أو إسلامبولي، أي مدينة الإسلام (وحُرّف الاسم إلى اسطنبول أو استامبول)، تابع الفاتح فتوحاته في شرق أوروبا واليونان وشبه جزيرة القرم، حيث حوّل البحر الأسود إلى بحيرة عثمانية إسلامية. ورسّخ أقدام المسلمين في تلك الأقاليم وأمّن الحماية لعاصمته الجديدة من غزوات الروس والروم.
ضرب السلطان الفاتح الحصار على القسطنطينية، التي كانت حصونها منيعة وأسوارها ثلاثة متتالية وعالية، مُـدّة خمسين يوماً، وفي اليوم الحادي والخمسين استطاع المجاهدون المسلمون من اختراق الحصون والأسوار ودخول المدينة واحتلالها وفتح أبوابها، فدخلها السلطان، محاطاً بالعلماء والقادة الكبار، ظُهْرَ ذلك اليوم الذي كان يوم الثلاثاء الواقع فيه 29 من شهر أيار من عام 1453م/857هـ.
وأعلن أمام الملأ من سكان المدينة أنه يضمن للمسيحيين: حرية العبادة وإقامة شعائرهم الدينية وحفظ أملاكهم. ثم قام بجولة في أرجاء هذه العاصمة، التي يزيد عمرها على الألف عام، يتعرّف على معالمها وأسواقها الواسعة، ويشاهد بيوتها ذات الطبقات العالية والقديمة، ثم تابع سيره نحو كيسة آيا صوفيا.
كانت كنيسة آيا صوفيا معبداً عريقاً وبناء شامخاً، قائماً على 107 أعمدة، وشاهداً على فنّ العمارة البيزنطي الراقي، وعلى الرغم من مناعتها وجمالها إلّا أنّ عوادي الزمن وعوامل الطبيعة قد غيّرت الكثير من أشكالها وألوانها، فانهارت بعض الأبنية التابعة لها والمحيطة بها، وأصبحت خراباً، وبقيت قبّتها الضخمة واقفة ومتحدّية عاتيات الأيام والقرون.
إذن تابع الفاتح سيره إلى هذه الكنيسة وسط الأزهار المنثورة في طريقه من السكان المحليين، ووسط حشود البيزنطيين الذين اصطفوا بازدحام على طرفي الطريق يؤدّون التحية للقائد وجنوده باعتبارهم منقذين حقيقيين. ولما وصل الى ساحة آيا صوفيا نزل عن جواده، وانكبّت الجموع المحتشدة ساجدة على الأرض شكراً للّه تعالى.
أما بطريرك المدينة واتباعه فكانوا يبكون بكاء مرّاً خوفاً ورهبة، ولكن السلطان هدّأ من روعهم وخاطبهم قائلاً: «إنهض على قدميك! أنا السلطان محمد، أقول لك ولأصدقائك ولعامة الشعب، لا خوف على حياتكم وحرياتكم الدينية بعد اليوم من غضبي».
أُعجب السلطان الفاتح بهندسة العمارة التي شُيّد بها هذا البناء الغارق في القدم، وبأنواع الرخام النادر الذي رُصفت به أرضه، وبالفسيفساء الزجاجي المصنوع بألوان زاهية، والذي أضفى على هذا المعبد بهاءً وفخامة.
وبينما السلطان يتجوّل في أرجاء هذا البناء رأى جنديّاً يبكي من الفرح، ويحاول أن يُخرِجَ برأس خنجره قطعة صغيرة من الفسيفساء من الأرض، للاحتفاظ بها كخاطرة من الفتح، توجّه الفاتح نحوه على الفور وضربه بسوطه وصرخ «أترك! فليس هذا من الغنائم».
كان محمد الثاني حريصاً جداً في المحافظة على التراث التاريخي، بخلاف القوات الصليبية التي دخلت المدينة بطلب من الامبراطور البيزنطي لمساعدته في الدفاع عنها من غزوات المسلمين، ونهبت كل شيء في آيا صوفيا، وخلعت الصليب الذهبي من قبّتها وأذابته.
قدّر أهالي بيزنطية هذا الأمر جيداً، لذا رحّبوا بجيش الفتح، واعتبروه مخلّصاً لهم، إذ كانت الفروقات واضحة بين سلوك حلفائهم الصليبيين، وبين سلوك أعدائهم المسلمين. وهذا ما يُميّز الفتح عن الاستعمار. فالاستعمار غايته النهب والإستغلال والتدمير، أما الفتح فغايته الهداية والبناء والتطوير.
بعد الانتهاء من جولته أمر الفاتح بتغطية التصاوير والمنحوتات الموجودة على جدرانها، وقال: «أريد أن أصلّي صلاة الجمعة الأولى هنا، واليوم هو يوم الثلاثاء، وحتى ذلك الوقت جهّزوا المعبد للصلاة، وارفعوا الآن الآذان»، ثم انسحب إلى زاوية وأدّى صلاة العصر. وأخيراً أَمَرَ كاتبَه أن يكتب لسكان المدينة «عهد أمان» باللغة الرومية.
كتب هذا العهد زاغنوس باشا، وختمه السلطان محمد الثاني وسلّمه لبطريرك المدينة.
تجاوزت هذه الوثيقة «العهد» عصرها كثيراً في أهميتها، وفي التسامح الذي أبداه الفاتح لأهالي القسطنطينية، كما تجاوزت ظروف العصور الوسطى حيث انتقلت بالعالم من هذه العصور، إلى العصور الحديثة.
كانت جولة السلطان في كنيسة آيا صوفيا مقدّمة لشرائها، وتحويلها إلى جامع، وذلك بعد أن نَقَدَ أصحاب الشأن ثمنها من جيبه الخاص، وجعلها وقفاً للمسلمين. وقد ذكر السلطان الفاتح في وثيقة الوقف التي أصدرها: أن تبقى آيا صوفيا جامعاً، ودعا على من يستخدمها لغير هذا الهدف، فقال: «لعنة الله ورسوله عليه».
بقيت آيا صوفيا مسجداً مُـدّة 481 عاماً، ورمزاً معنوياً للفتح حتى عام 1934، ففي هذه السنة انتزع مصطفى أتاتورك قراراً من مجلس الوزراء في 24 تشرين الثاني قضى بتحويل جامع آيا صوفيا إلى متحف.
وفي الوقت الحاضر، وبعد أن أصدرت المحكمة التركية قراراً يقضي بإلزام الدولة التركية بتنفيذ وثيقة وقف السلطان الفاتح، وبإبطال قرار أتاتورك، نستطيع القول إن الحق قد عاد إلى أهله، ولكن بشكل منقوص، لأن الرئيس أردوغان الذي فَقَد الكثير من شعبيته، سمح لغير المسلمين بزيارتها والصلاة فيها.
ومع هذه المقدمة ننشر كتاب الأمان الذي أعطاه السلطان الفاتح إلى مسيحيي القسطنطينية.
وثيقة كتاب الأمان من السلطان الفاتح
وثيقة فخر
نحن السلطان المعظّم صاحب الأمر الأعظم السلطان محمد خان ابن صاحب الأمر الأعظم السلطان مراد خان؛ نقسم باسم الله خالق السماوات والأرض، وباسم النبي العظيم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وباسم كتابنا الجليل القرآن الكريم، وباسم أنبياء الله المائة والأربعة والعشرين ألفا، وباسم أبينا وروح أبينا، وباسم أولادنا، وباسم السيوف التي سَلَلْنَاها.
بناء على طلب الراهبَيْن السنيور بارابان بالیوس والسنيور فحمل ماركز دريفانغو والترجمان نيقولا بلازوني الذين أُرْسِلوا ممثلين من قِبَل كهنة المدينة الكاثوليك إلى باب همایوننا، نأذن لشعب غَلَطَة أن يؤدوا عباداتهم وعاداتهم بحُريّة مثل سائر الشعوب التابعين لنا.
يُهدم حصار غلطة فقط، ولا يُتَعرض لمساكن الأهالي ودكاكينهم ومزارعهم وطواحينهم وسفنهم ومحلاتهم التجارية وكل أموالهم. ويقومون برعاية أسرهم كما في الماضي، ويديرون شؤونها كما يشاؤون. ويُسمَحُ لهم ببيع بضائعهم التجارية في أرجاء ملكنا كافة.
كما يمكنهم أن يسافروا بحرية برّاً وبحراً، فهم معفون من الجمارك وأعمال السخرة، لكنهم مكلفون بدفع الخراج تحت الطاعة مثل سائر الطوائف الأخرى. يطبق هذا القانون والأحكام منذ اليوم وإلى الأبد، نقوم نحن بحمايتهم وحراستهم كما نحمي أنفسنا، يمكن لأهالي هذه المقاطعة أن يؤدوا طقوسهم في كنائسهم كما يريدون، ولا تحوّل كنائسهم إلى جوامع، غير أنه لا يسمح لهم ببناء كنائس جديدة ولا بقرع الأجراس.
يسمح لتجار جنوة أن يتجولوا ويتاجروا بِحُريَّة، لن نأخذ أولادهم لضمهم إلى الإنكشارية، ولن نستخدم الإكراه ضد الذين لا يقبلون ديننا. نعاهد أهالي غلطة على أننا: لن نحكمهم مثل العبيد، سنؤمرُ عليهم واحداً منهم، فليختاروا واحداً منهم لحل الخلافات بينهم.
لا يوسم رجال الدين (الأرهونط والقاهیال) بألفاظ قبيحة، كما هو مكتوب هنا، فإن التابعين للدولة الذين يؤدّون خراجهم أحرار.
تم تحريرها في جمادى الأولى من سنة 6961 من بداية خلق العالم، وسنة 857 للهجرة.
الفقير زاغنوس