بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 آب 2018 12:05ص جمعية المقاصد بين دهاليز السياسة وأحابيل الساسة

حجم الخط
زعموا ان جمعية المقاصد  قصدت بعض مياسير التجار من الذين يسخرون اموالهم ظاهراً في عمل الخير وباطناً في سبيل الوجاهة تجاه الغير أو وسيلة للفت النظر من بدوٍ وحضر الى استعدادهم للبذل والعطاء من اجل مودة ولقاء وقبول ورضاء. إلا ان جيوبهم كانت مستغلقة كالأبواب الحصينة بعضها من وراء بعض إن عالجت باباً منها فانفتح لك بعد الكد والتعب وطول المزاولة قام من دونه باب آخر  فتضطر الى مثل ما كنت فيه واستأنفت ما فرغت  منه فما تظفر منهم بطائل. هؤلاء رأوا أنفسهم أكبر من دهرهم ودهرهم أصغر من عقلهم وكلامهم كالماء يسقي شجر الحنظل المر فما يزيد إلا مرارة، فما ينفع المقاصد ان يثني أحدهم عليها وليس يضرها ان يجهد في ذمها ولا هي احفل بشيء من ذلك. وغيرتهم مثل شفقة الضرّة على الضرّة  والذين اعتادوا العيش على الدخول الربوية (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) لم يجدوا لمساعدة الجمعية إلا تنزيل بعض الفوائد المركبة  فيما راحوا يبنون الصروح لغيرها .وتناسوا القول المأثور ذهب أهل الدثور بالأجور وبتمنعهم عن تقديم المساعدة للجمعية  وعجز الفقراء عنها غدا الحال في أزمة . ومع القلة يتولد النقار كما يقول المثل العامي، وأخذكل واحد من اهل الحل والربط  ينكر مسؤوليته عما آلت اليه أوضاع المؤسسات  الاسلامية ويعتبر نفسه بريئاً براءة الذئب من دم الفتى الحليوة (كما يقال في مصر) يوسف بن يعقوب عليهما السلام.

كان تأسيس جمعية المقاصد أفضل تجربة ظهرت في زمن بيروت في القرن التاسع عشر ولا تزال منذ مائة وأربعين سنة تشغل التاريخ وتملأ الدنيا  بجدارة واستحقاق ورغم هذه السنون فلم توفّ حقها من التدقيق والتقدير بسبب ندرة الأخبار والوقائع وتناثرها. 
والقراءة الموضوعية للأحداث  وليس القراءة المتحيزة  تثبت ان الذي لا ريب فيه ولا يختلف بشأنه اثنان ولا ينتطح به عنزان ان الجمعية اعتمدت في تأسيسها ومسيرتها الأولى على تمويل ذاتي بيروتي  سواء من الأوقاف البيروتية التي تسلمتها أم من البيارتة الذين تبرعوا  بقروش قليلة أثمرت بركات  كثيرة. 
لم يقصر المؤسسون بل أبدوا كرماً وشهامة وبذلوا الكثير بيد أن العبء كان فادحاً والحمل ثقيلاً لاسيما أن مشروعهم سيطول أمده والبذل سيستمر والمنح لا نهاية له .والتحمت الجمعية بواقع مجتمع بيروت الإسلامي ومسّت الحياة وخالطت المعاش مما أثبت مصداقيتها ووهبها الحيوية وأعطاها النضارة وجمعت بين العلمين الصحيحين علم الأبدان وعلم الأديان.
ومع بدء الأزمات الاقتصادية المترافقة مع اشتباكات سياسية، تفاقم العبء الملقى على عاتق الجمعية وهو السهر على تدبير ولو بحد أدنى للاستمرار في تسيير المدارس وتأمين احتياجاتها فبعدما كان العضو المؤسس للجمعية يقف يوم الجمعة  على أبواب المساجد لجمع التبرعات ويضع آخر صندوقاً في المسجد العمري الكبير، انتصبت الحاجة وبرزت الضرورة الى أسلوب جديد يسد هذه الثلمة ويغطي هذه الثغرة ويملأ هذه الفجوة، ومع بلوغ الأزمة ذروتها والمعضلة غايتها والمشكلة أقصى مداهــا لم يعد أسلوب الاعتماد على ما يتبرع به أمير أوغفير. فالاتكاء على الوسائل المتناقلة خطأ منهجي كالطبيب العصري الذي يداوي مرضاه بالسنا والسنوت وحبة البركة والرقى .فالرجوع الى الأساليب القديمة والاعتماد على نتائجها تباين ولا تناسب وتغايــــــــــر ولا تأتلف وتتنافر ولا توائم مع ما وصلت اليه الجمعية وما يعانيه الشعب والمجتمع.
فحالة الكسل العقلي والاسترخاء الفكري والبلادة الذهنية تتوافق مع حالة التردي فيختفــــــــي أو يكاد الإبداع والاختراع والابتكار ويشيع التكرار والاجترار والإتباع لأن الإبداع يتطلب أفقاً وسيعاً وقريحة متوقدة وبصيرة نافذة وعقلية متفتحة وفكر جسور وذلك كله مع صبر أيوب على البحث والتدبير والملاحقة إلا ان الكثير آثر السلامة وفضل العافية وانحاز لجانب الدعة.
ما يلفت الأنظار بشدة ويشهر الانتباه بقوة ويدعو للتفكير ويتطلب التأمل ويستدعي مراجعة النظر أن الجمعية عمدت الى استباق مخاطر الاستمرار فعمدت الى استثمار الأراضي الناشئة عن إلغاء الدفن في مقابر المصلى والخارجة والغرباء في مشروعات تدر ريعاً يسد بعض ما تحتاج اليه من نفقات ومصاريف فأنشأت مبانى البيبلوس والريفولي والبازركان ، بما مكنها من عدم الارتهان لأية مساعدة خارجية ولا الاعتماد على هبة يتبخر مفعولها ويغيض أثرها بتغير مزاج واهبها.
حلّ جمعية المقاصد من قبل رجال الاتحاد والترقي 
في التاسع من شهر رمضان المبارك سنة 1326هـ عقدت جلسة برئاسة القاضي الشرعي عمر خلوصي ونائبه الشيخ عبد الرحمن الحوت تقرر فيها الغاء شعبة المعارف الأهلية وتحويل اسمها الى جمعية المقاصد الخيرية كما تقرر تعيين لجان لمتابعة أوضاع المدارس وما يلزمها ولجنة لاستدرار مبرّات أولي الأريحية والسخاء ورجت من أولي الثروة واليسار أن يعاضدوها في سبيل إحياء النفوس بالعلم والتهذيب ورجت من كل من له قدرة على الإنفاق أن يعينها على مشروعها.
ويبدو أن هذه الجلسة كانت يتيمة لأن الجمعية استفادت من الانقلاب على السلطان عبد الحميد ومن إعادة العمل بالدستور لاستعادة أموالها وتسوية أوضاعها، إلا أن الوضع لم يستمر تحقيقاً للقاعدة الكلية التي تقول من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، فقد كانت بيروت وما زالت ساحة تعدد الآراء واختلاف الأهواء والمشارب فما أن أعاد مجلس الإدارة سنة 1909 انتخاب هيئة جديدة حتى دبّ الخلاف بين أعضائها.
ففي سنة 1909 قام رجال الإتحاد والترقي بإقصاء السلطان عبد الحميد والسيطرة على الحكم إلا أن رجال الانقلاب لم يكونوا متفقين على نهج الحكم فمنهم من كان يريد إقامة حكـــــــــــم لامركزي ومنهم من كان يدعو لقيام حكم دستوري مركزي وظهرت في بيروت بتلك الفترة الجمعية الإصلاحية استجابة لسياسة اللامركزية التي بدأ حزب الحرية والائتلاف تنفيذهـــا، إلا أن الجمعية جرى حلها بسقوط حكومة الائتلافيين وتأليف وزارة اتحادية شددت قبضتها على الولايات .وكما كان الأمر دوماً فالحبل تم في الأستانة والولادة تمت في بيروت فتعددت الاتجاهات السياسية بين أبنائها وتأسست فيها نوادي وجمعيات وفروعاً للأحزاب. ففي سنة 1908 انتخب عبد القادر قباني رئيساً لجمعية الجامعة العثمانية والشيخ عبد الرحمن سلام نائباً للرئيس وكان هذا الأخير رئيساً سابقاً لها وقد تمنع عن حضور حفلة استقبال لضباط الدارعة الحميدية التي وصلت الى بيروت. وبعد ستة أشهر من اختيار أعضاء نادي جمعية الإتحاد والترقي أعيد انتخاب هيئة جديدة. وكانت أهواء أعضاء جمعية المقاصد موزعة بين هذه الجمعيات.
وانعكس استلام الاتحاديين للحكم على جمعية المقاصد اذ كان أعضاء الجمعية من حزب الائتلاف والإصلاح. وبناء لاقتراح أحد مديري المدارس من الاتحاديين الغيت المدارس الأهلية وألحقت بوزارة المعارف وحلت الجمعية ووضعت الحكومة العثمانية يدها على أملاكها ومدارسها وسلمت الى قلم المحاسبة الخصوصية. 
اختلف السلطان عبد الحميد مع مدحت باشا فحلت جمعية المقاصد واختلف رجال الإتحاد والترقي مع أعضاء الجمعية الائتلافيين فحلت الجمعية ثم نهضت  بعد انتهاء الحكم العثماني وانطلقت مرحلة الاستثمار العقاري في مباني  البيبلوس والريفولي وقهوة الحمراء ومبنى المقاصد. إلا ان الحرب الأهلية أفقدت الجمعية مواردها وأبنيتها وأوقافها من جهة وحاصرتها فوائد القروض المصرفية من جهة ثانية حصاراً كانت الغاية منه الضغط إما للسيطرة على الجمعية أو لحلها.
وبقي الحال الى سنة 1918 عند انتهاء الحكم العثماني وبداية الاحتلال ثم الانتداب الفرنسي، فرأى رجال المقاصد الفرصة سانحة لاستعادة أملاك الجمعية ومدارسها فطلب المفتي الشيخ مصطفى نجا ذلك ووافقت السلطة على طلبه تدعيماً لسلطتها ومحاولة منها لاسترضاء الطائفة الإسلامية فتألفت هيئة جديدة سنة 1918 برئاسة المفتي نجا أخذت بتنمية موارد الجمعية وتحصيل أموالها فأكملت قهوة في محلة السنطية (المعروفة بقهوة الحمرا والذي كان نعيم أفندي ناظر اوقاف بيروت والمقرب من أبي الهدى الصيادي قد استولى عليها على أنها وقف بني عز الدين) فيها 19 مخزناً ويعلوها 21 غرفة ودائرة علوية في محلة ميناء الفحم من 12 غرفة ودار ومعصرة ودكاناً في محلة الرجال الأربعين وأدوات في محلة رأس النبع لمدرسة الإناث وطالبت 1989 باسترجاع المدرسة السلطانية . وبناء لطلب الجمعية ألغي سنة 1921 استملاك أرض المقابر الإسلامية من قبل البلدية.
نواب الشرع الشريف يتولون شؤون المقاصد ورعاية اموالها 
شكلت شعبة المعارف الأهلية وسيطاً أو برزخاً بين تأسيس الجمعية وتجديدها الأمر الذي يفرض  وقف الشعارات الزيوف التي يروجها البعض وينتقلون بها من مجلس الى آخر وفي كل قعدة وفي نهاية كل جلسة .اليست زلة لسان أو لفظاً عابراً أو رمية من غير رام أو خبط عشواء  أو هوسهم طائش لا يعرف من رماه أن ينسب وضع الجمعية الى هدر أو تقصير.
وعلى غرار ما قام به نائب الشرع الشريف عبد الله جمال الدين بدعم تأسيس الجمعية  وتسليمها الأوقاف  والدور الذي قام به بعد حلّ الجمعية سنة 1882م برئاسة شعبة المعارف الأهلية منشئة المدرسة السلطانية، عين الوالي خليل باشا نائب الشرع الشريف عمر خلوصي لرئاسة مكتب الصنائع مع أعضاء من شعبة المعارف الاهلية هم عبد القادر قباني والشيخ محمد الكستي والشيخ رشيد الفاخوري ومحمد اللبابيدي ومحمد ابراهيم الطيارة وامين حلمي اضيف اليهم نجيب طراد ونجيب الهاني وبشارة المهندس كما الف لجنة خاصة للمستشفى. 
وكان اهالي بيروت يعتبرون ان مدرسة الصنائع انشئت من اموال تبرعاتهم ومن أراضيهم التي وقفوها في موقع الرمل وبالتالي فان ملكية المدرسة وإدارتها يجب ان يعودا إما الى جمعية المقاصد اسوة بالمدرسة السلطانية، وإما الى ادارة الاوقاف الاسلامية، وعارضوا انتزاع الحكومة ملكيتها منهم . وتمثل هذا  الرفض بما ذكرته صحيفتا المفيد والاتحاد العثماني سنة 1911م بمناسبة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف الذي اقيم في ساحة  مدرسة الصنائع، من أن نائب الشرع الشريف في بيروت (عمر فخر الدين) ومفتي بيروت (الشيخ مصطفى نجا) ونقيب الاشراف (الشيخ عبد الرحمن الحوت) تخلفوا عن حضور الاحتفال. وان لجنة مكتب الصنائع كانت قد وضعت امام الباب  الرئيس للمكتب يوم الاحتفال صندوقاً لتلقي تبرعات الإعانة للمكتب فلم يوجد في الصندوق ولا متليك واحد اعتراضاً وإظهاراً لغضب الاهالي من عدم رد الحكومة العثمانية المكتب اليهم الممثلين بجمعية المقاصد الخيرية  الاسلامية (شعبة المعارف الأهلية) او بإدارة الأوقاف الاسلامية. وقد تنجلي حقيقة مراحل انشاء مدرسة الصنائع عندما تكشف سجلات الارشيف العثماني.

* محامٍ ومؤرخ


أخبار ذات صلة