بيروت - لبنان

اخر الأخبار

22 نيسان 2022 08:20ص حذارِ من السكوت على باطل أو بهتان

حجم الخط

لأن الكلمة هي الوسيلة الأمضى، ولأن الذكرى تنفعُ المؤمنين، ولأنه لا يتقدّم على القول الحسن والدعوة إليه إلا صدق الانتماء إلى الدين والاعتزاز به، فضلاً عن التمسك بقيمه واحكامه وتوجيهاته أجدُ نفسي منساقاً لمتعة الكتابة بعد متعة التحدث عن القيم بالمطلق والتي هي عين الحقيقة، ولبُّ المضمون، والتي عليها مدار التدين والسلوك، بل التي تعبر عن حقيقة التقوى.. وحقيقة التديّن ولم تكن القيمُ الإنسانية يوماً إلا قيماً دينية لأنها تهتمُّ بالانسان فهي تحفظ للإنسان حقوقه وتحدد ما عليه من واجبات، وهي التي تصونُ لسانه وسلوكه مع ضبط حركة حياته بل حتى مشاعره وعواطفه..

فالتقوى التي هي ذروة سنام الغايات الدينية ليست قاصرة على الإمساك عن الطعام والشراب والامتناع أو لجم الغريزة والشهوة،فذاك إن حدث فهو الحدُّ الأدنى الذي تسقط به فريضةُ الصيام بمعنى أن لا إعادة عليه ولا قضاء وهذا ربما أطلق عليه البعضُ صومَ العجائز أو الكسالى.. لأن التقوى لا تتحقق إلا بصيام الجوارح وضبط حركتها، وإلزامها حدود الله تعالى وخشيته..

التقوى أن تتقي غضب الله عز وجل وعذابه ووعيده فتُلزم لسانك كلمة الحق والصدق وما ينفع ويفيد، وما يحفظ عليك صيامك وثوابه وأجره وبركته وفضله، فلا يُكتفى منك ولا من غيرك أن لا تقول زوراً أو كذباً أو بهتاناً فكلها وأيم الله من الكبائر التي قام الدليل والوعيدُ عليها، وإنما المطلوب منك ومن كل أحد أن لا تلزم الصمت إذا سمعت منكراً من القول أو زوراً، أو بهتاناً وباطلاً.. فكأن المطلوب هو التصرف أو الفعل الإيجابي حتى لا تكون مشاركاً أو تخوضَ مع الخائضين.. وحذارِ من أن تسكت على باطل أو زور وبهتان وأنت قادرٌ على دفعه ولو بالحد الأدني.. وإلاّ فقد الصيام قيمته وهيبته وثوابه وأجره، وضَعْ نُصْب عينيك قول النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه:«من لم يدعْ قولَ الزورِ والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه»... وقوله صلوات الله وسلامه عليه: «ربَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوعُ والعطش، وربَّ قائم ليس له من قيامه إلا التعبُ والسهر»...

فالمطلوب من الصيام أو المرجو من الصيام تحقيق الغاية الكبرى التقوى.. وخشية الله تعالى..

وبذلك يكون الصائم متديناً..وملتزماً.. وتقياً.. ويُرجى أن يكون مستجاب الدعوة ومن أهل الرحمة والمغفرة والعتق من النار بإذن الله تعالى..

القيمُ التي نريد أن نتحدث عنها وندندن حولها هي إدراك المسلم الصائم الراكض إلى صلاة التراويح وأَنعِمْ بها من سنّة وشعيرة إدراكه للحقيقة والمضمون وليس الإكتفاء بتأدية الشعائر في إطار العادة والمألوف..

فرقٌ كبير بين العبادة التي تصقلُ الجوارح وتهذب النفس وتطهر القلب وتنيره وتستلُّ سخائم النفوس فتزكيها وبين العادة التي ربما تُكسب الإنسان سمعة ومظهراً ورياءً،ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:«وربَّ قائم ليس له من قيامه إلا التعبُ والسهر»..

فصومُ الجوارح وأخطرها اللسان.. الغيبة.. النميمة.. البهتان.. الكذب.. والزُّور.. والسُّخرية.. والاستهزاء، حتى ولو بالاشارة والغمز واللمز، ففي القرآن الكريم: «ويلٌ لكلِّ هُمزة لُمزة» وقوله تعالى:«لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك همُ الظالمون».

هو أول المطلوب لسلوك طريق التدين.. وفي الحديث الصحيح: «اتقِ المحارم تكن أعبد الناس».. نعم أعبدهم وأقربهم من الله تعالى هو ذاك الذي يتحرج من مشاركة الآخرين  في خوضهم في اعراض النّاس وكراماتهم التي باتت جزءاً من السلوى وقضاء الوقت.. يصلون، ويصومون.. ويلتحون ويعتمرون.. ويحجون وربما يتصدقون ويزكون.. ولكنهم مرضى اللسان.. ومدمنو الغيبة والنميمة.. والقيل والقال.. هذا كلّه ولم نتحدث بعد عن البهتان وتفجير الاحقاد.. والفجور في الخصومات.. وربما تتبُّع عورات الآخرين حتى وإن كانت لا قدر الله.

فالحديث النبوي الصحيح: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وفي رواية أخرى: «المسلمُ من سلم النّاس من لسانه ويده».. وفي حديث آخر: «لا يدخل الجنة قتات» أي نمام...

وعن ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وفسادُ ذاتِ البينِ هي الحالِقةُ» وفساد ذات البين هي ثمرة النميمة ونقل الكلام أو اختراعه.. وعندما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا أقول الحالقة للشعر، وإنما الحالقة للدين»... وهذا آخر حديث جاء في أوَّله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرُكم بأفضلَ من درجةِ الصيامِ والصلاةِ والصدقةِ؟» قالوا بلى يا رسول الله، قال: «إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ،ثم قال وفسادَ ذاتِ البَيْنِ هي الحالِقَةُ».. والسنة النبوية مليئة بمثل هذه الأحاديث التي منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَغْتَابُوا الناس، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرة أخيه تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ ولو كان في جوف بَيْتِهِ»..

بل إن المطلوب من المسلم المتدين التقي ان يُبادر إلى ستر عورات الآخرين، وهذا فعلٌ ايماني يبين فيه النبي صلى الله عليه وسلم واجبك تجاه الآخر، فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: «لا يرى امرؤ من أخيه عورة فيسترها عليه، إلا دخل الجنة»..

وفي حدث آخر: «من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة» وفي رواية: «من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة».. ويُروى عن الصدِّيق أبي بكر رضي الله عنه: «لو أخذت شارباً.. أي للخمر.. لأحببت أن يستره الله تعالى عليه..

ومن الاحكام الفقيه ان القاضي  لو علم عِلم اليقين أي بأمِّ العين زنا فلان.. لم يكن له ان يكشف عنه بل ولا ان يحكم عليه.. اللهم الا إذا توافرت الشروط ومنها الشهود الأربعة..

ولعلي اذكر بما اشتهر من حديث النبي صلى الله عليه وسلم انه قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعل وتتصدق وتؤذي جيرانها بلسانها فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا خير فيها هي من أهل النار.. وقيل أي للنبي صلى الله عليه وسلم وفلانة تصلي المكتوبة وتتصدق بالأثوار ولا تؤذي أحداً؟فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي من أهل الجنة».. وأي تتصدق بالقطعة من الاقط، والاحاديث والاخبار والآثار في هذا المعنى كثيرة وكثيرة جداً لسنا بصدد احصائها ولكنها محاولة لبيان المطلوب والمرتجى من الصيام.. صوم الجوارح.. وإلزامها حدّ الله تعالى وأوامره وأن المطلوب من المسلم ليس الإكثار من الصيام والصلاة والقيام وإنما تحقيق المضمون وضبط حركة الجوارح والمشاعر..

هذا ولم أتناول في كل ما مضى شيئاً عن الحقد والكراهية والبغضاء وسوء الظن وفساد السريرة وعتمة القلوب ومرضها،فذاك شرحٌ يطول ولو انه لا يُستغنى عن بيانه والاشارة إليه لخطورته وانعكاساته المميتة والقاتلة.

هذا المضمون وهذه الغاية هي روحف كل العبادات حتى في تلاوة القرآن الكريم، ففي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ربَّ تالٍ للقرآن، والقرآن يلعنه».. فكم هي الآيات التي تلعن الظالمين والمعتدين والكاذبين وأمثالهم، فإذا كان التالي منهم فلا يلومنَّ إلا نفسه.. وفي الحج يقال فيمن لم يُدرك تلكم الحقيقة (ولكن حجت العير)..

صحيح ان العبادات والفرائض لا بدّ من ادائها بالشروط الفقهية حتى تكون صحيحة.. لكن لا بدّ من التزام مضامينها حتى تكون مأجورة ومقبولة..