لم يعد من الجائز للباحث في تاريخ بيروت حبّاً بها أم إدّعاء الغيرة عليها، أن يهمل التدقيق في صحة ما يرويه سواء في رسالة ماجستير أو دكتوراه، ولا سيما بعد الكم الهائل من الدراسات والمقالات والأبحاث فيمن كتب في تاريخ المدينة أو ادّعى وصلاً بها.
ففي سنة 2018 أصدرت دار نلسن للباحث باسم مروان فليفل كتاباً بعنوان «موقف البيارتة من الثورة ضد السلطان عبد الحميد الثاني 1908-1909م» والكتاب بالأصل رسالة ماجستير في التاريخ الحديث والمعاصر قدّمت إلى جامعة بيروت العربية.
ومع تقديرنا للجهود التي بذلها الكاتب في رسالته وتقصّيه الأخبار وتحليله للوقائع والأحداث، واحترامنا للمشرف على الرسالة، نجد أن الحق أحق أن يتبع ففي الرسالة أخطاء يقتضي التوقف عندها وبل وتصحيحها.
تكرّرت الإشارة في الصفحات 15 و19 و31 و32 الى أن بيروت تحوّلت سنة 1888م إلى ولاية استناداً إلى إرادة سنية صدرت سنة 1306هـ/1888م، وسبب الخطأ في ذلك أن الكاتب لم يرجع إلى مرسوم إنشاء ولاية بيروت ولا دقّق في تاريخ الإرادة السنية وتاريخ الفرمان وقد رجعنا إلى هذين التاريخين فتبيّن لنا ما يلي ان ولاية بيروت أعلنت سنة 1887 وليس 1888. نظراً لأهمية موقع مدينة بيروت، فقد أمر السلطان عبد الحميد الثاني في 9 ربيع الثاني سنة 1305هـ بتشكيل ولاية بيروت وتفويض علي باشا بها، ولكن الفرمان بإنشاء الولاية حرّر في 13 ربيع الثاني سنة 1305هـ أي بعد أربعة أيام من الأمر السلطاني. وقد سار جمهور المؤرّخين على اعتبار سنة 1888م هي سنة إنشاء ولاية بيروت. وبرأينا يقتضي بعد التدقيق اعتماد سنة 1887م. وذلك لأن سنة 1305هـ تبدأ يوم الإثنين في 19 أيلول (سبتمبر) 1887م. وشهر ربيع الثاني سنة 1305هـ يبدأ يوم السبت في 17/12/ 1887م. فيكون 9 ربيع الثاني 1305هـ/ موافق ليوم الأحد في 25/12/1887م. ويكون 13 ربيع الثاني سنة 1305هـ/ يوافق 29 /12/ 1887م.
ذكر الكتاب (ص 22) أنه بحلول سنة 1884م «تدفّقت مياه نهر الكلب على حوضي بيروت في منطقة الأشرفية» ومع أن الكاتب أدرج في مصادر دراسته جريدة «ثمرات الفنون» إلا أنه لم يبحث فيها برويّة لأن العدد الأول منها الصادر في 14 ربيع 1292هـ و20 نيسان 1875م أورد نبذة لغوية رائعة للشيخ يوسف الأسير في وصف ماء نهر الكلب الجاري إلى بيروت. وذكرت الصحيفة في العدد الخامس تفاصيل الاحتفال الذي نظم في 14/5/1875م احتفاء بوصول ماء نهر الكلب إلى بيروت للحوض العالي في الأشرفية بحضور والي سورية حمدي باشا والأمير عبد القادر الجزائري الحسني وولي عهد مكلمبورغ وقومندان موقع بيروت ومتصرّفها رائف أفندي والقاضي والمفتي الشيخ محمد المفتي الطرابلسي الأشرفي والعلماء والأعيان. وتلي في الاحتفال الخطاب الذي أرسلته الشركة الإنكليزية منفذة المشروع وفيه ثناء على رئيس مجلس بلدية بيروت في حينه أحمد أفندي أباظة. وفي النهاية أجريت النوافير.
وأشار الكتاب (ص 23) إلى «أن الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير زرع غابة الصنوبر لحماية المزروعات والحدائق من زحف الرمال» كذا... وهذه الغابة هي مثل ليلى حبيبة المجنون التي ادّعى الكثيرون وصلاً بها وهي منهم براء. فمن الرحالة والكتّاب من نسبها إلى فخر الدين، منهم من نسبها إلى إبراهيم باشا المصري وآخر إلى رستم باشا المتصرف ومنهم أيضاً من عزا زرعها إلى محمود نامي بك حاكم بيروت أثناء الحكم المصري إلخ... ولو ألقى كاتبنا نظرة على كتاب الشيخ طه الولي «بيروت في التاريخ والحضارة والعمران» (من ص 102 إلى 114) وبحثه المستفيض حول غابة صنوبر بيروت. لما نسبها بشحطة قلم إلى فخر الدين.
ولم يجد الكاتب من مطاحن للقمح في بيروت إلا مطحنة واحدة وقد علمنا بوجود واحدة في محلة الغربية بزقاق الرصيف ملك محمد علي بيضون وأخرى ليوسف القبطي في ميناء الحسن (سجل 1305/1308هـ) رقم 174 و«ثمرات الفنون» (عدد 1064 سنة 1896م).
النظام القضائي في بيروت
ويبدو أن الكاتب لم يطّلع على النظام القضائي في بيروت فعندما ذكر أركان الولاية جعل بينهم «نائب الوالي قاضي الشرع» (ص 41) مع أن القاضي لم يكن نائباً للوالي بل نائب لقاضي عسكر الأناضول، فقد جعل النظام العثماني للقضاء قاضيين أحدهما عرف بقاضي عسكر الأناضول يعيّن نواباً له في الولايات الأسيوية، وعرف الثاني بقاضي عسكر الروملي يعيّن نوابه في الولايات الأوروبية (أرض الروم).
يؤكد لنا الكتاب (ص 42) بأن بلدية بيروت أنشئت سنة 1867م. بينما لو عاد الى صحيفة «حديقة الأخبار» لعلم ان بلدية بيروت انشئت سنة 1864م برئاسة عبد الله بيهم.
ويشير الكاتب الى أن البلدية لم تتمكن من القيام بواجباتها حتى تولّى أحد رجال بيروت «ويدعى فخري بك»؟ وكان قد أشار في ص 32 إلى رئيس بلدية بيروت هو إبراهيم فخري بك ويبدو من القولين أن (المدعو) فخري بك هو غير إبراهيم فخري بك مع أنهما شخص واحد هو إبراهيم فخري بك ابن محمود نامي بك وقد ولد في بيروت وتعلّم الهندسة في فرنسا (أوضحنا ذلك في مقال سابق في «اللـــــواء»).
وبالعودة إلى القضاء أخبرنا الكاتب (ص 60) بأن مجلة الأحكام العدلية تطبق على المسلمين في مسائل الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وميراث و الحقيقة أن المجلة تعتبر بمثابة قانون مدني ولا تدخل فيها مسائل الأحوال الشخصية.
ذكر الكاتب دون تحقيق أو تقديم إثبات أن بعض أهالي رأس بيروت تنازلوا عن بعض أراضيهم في سبيل إنشاء الجامعة الأميركية (الكلية السورية الإنجيلية سابقاً) وهو لا شك يعلم بأن التنازل عن هذه الأراضي وتمليكها للجامعة كان يتم بموجب عقود تسجل في المحكمة الشرعية وإلى أن يبرز أصل هذه العقود نجزم بأن أحداً لم يتنازل عن أرضه (مجاناً) للجامعة...
ويحدثنا الكتاب عن عادات سادت زمن السلطان عبد الحميد (ص 76) كاحتفال البيارتة بالعيدين والصلاة بالمساجد إلخ ولو اطّلع الكاتب على جريدة «صحيفة الأخبار» الصادرة منذ سنة 1858م وعلى ذكريات الشيخ عبد القادر قباني المنشورة في «الكشاف» سنة 1927م لتأكّد ان هذه الاحتفالات كانت تجري قبل السلطان عبد الحميد بكثير.
أعمال المؤتمر العربي الأول
وعندما تحدث الكاتب عن أعمال المؤتمر العربي الأول الذي انعقد في باريس سنة 1913م أكد (ص 178) ورود «رسائل عديدة إلى المؤتمر كلها تؤيّده». ولو اطّلع على العدد 1330 تاريخ 10/6/1913 من جريدة «المحروسة» لوجد فيها نص التلغراف الذي أرسل من بيروت احتجاجاً على المؤتمر وعلى المشاركين فيه ووقّعت البرقية من عدّة علماء وخدّام العلم الشريف منهم مفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا وأمين الفتوى فيها الشيخ حسن المدور ومحمود فرشوخ وحسين الحبال وغيرهم.
أشار الكاتب (ص 65) الى أن جمعية الفنون تأسّست بقيادة الحاج «سعد الله حمادة» ومن مراجعتنا لوقفيات آل حمادة العائدة للسنوات 1142هـ/1729م و1146هـ/1733م و1148هـ/ 1736م لم نجد فيها اسم سعد الله بل تكرّر فيها اسم سعد الدين وسعد. وهو ما نرجّحه بأنه المشار إليه هو سعد الدين. إلا ان كل ذلك لا يمنع من الإشادة بالجهد الذي بذله الكاتب في الفصل الثاني من الكتاب الذي يتناول أسباب الثورة على السلطان عبد الحميد ودور التدخلات الأوروبية وإشارته في الفصل الثالث الى موقف البيارتة من السلطان عبد الحميد في عهده وبعد خلعه. ويمكن اعتبار هذين الفصلين من أهم وأفضل ما كتب بالموضوع ذاته.
* مؤرّخ