بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 تشرين الأول 2020 12:01ص رفع الأسعار واحتكار السلع قتل للقيم وإنتهازية مرفوضة..

د. حجازي: ما نعيشه جريمة بحق المجتمع تستوجب العقوبة.. وللدعاة دور في رفع الصوت

حجم الخط
إن من أهم الصفات التي يتميّز بها التاجر المسلم المراقبة الذاتية للّه تعالى والحرص على حل المعاملة، والأنسنة في التجارة صدقا بيعا وشراء فالتَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ، لأنه سمح في بيعه وشرائه مُنْظِرٌ ذوي العسرة، وقد ورد في الحديث الصحيح أن من أنظر معسرا أو وضع عنه أظلّه الله في ظلّه، فهو غير مطفف في المكيال ولا متلاعب بالميزان أو غاش في بيعته ولا كثير الحلف عند معاملاته، فهو لا يأكل حراما ولا يتعامل بحرام، لا يغش ولا يخدع، لا تعامل بالربا ولا بالنجش، لا يدلس في بيعه ولا يقامر في تجارته ولا يحارب الله فيما أولاه الله إياه ففي التعامل الحرام إعلان حرب من الله على من يواقعها فضلا عمن يتعامل بالربا، ومن هنا كانت الأخلاقيات التي يتعامل بها التاجر المسلم أنموذجا رائعا وبابا واسعا من أبواب الخير بين النّاس.

إن الإسلام حثّ على التجارة وبارك بها وأهلها واعتبر أن تسعة اعشار الرزق في التجارة، وأن التاجر الصادق الذي يسعى على أهله هو كالمجاهد في سبيل الله، وأن اليد العليا خير من اليد السفلى، وفي كل خير وأن تكون معطيا بالخير هو  خير، إلا أن خطأ يرتكبه كثير من التجار وخاصة في أوقات الأزمات وهو الاستغلال لحاجيات الناس رفعا للأسعار واحتكارا للبيع قوتا ودواء طمعا وجشعا وفقدا لمعالم الإنسانية الحقة وقتلا للقيم وفتكا بالآداب وانتهازية ممجوجة حيث لا يكفر إلا بنفسه وينسى ان الرازق الذي هو الله بيده أن يسلبه ذلك ويعاقبه في صحته وماله، ولذلك فقد حذّر  النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء التجار واعتبرهم فجارا، ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال «إِنَّ التُجَّارَ هُمُ الفُجَّارَ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ أَوَلَيسَ قَد أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلِكِنَّهُم يُحَدِّثُونَ فَيَكذِبُونَ، وَيَحلِفُونَ فَيَأثَمُونَ»، فالتجارة من أفضل أنواع الكسب لمن كان صادقا في بيعه وشرائه مقيما أوامر الله في حياته.

رسالة إلى كل تاجر

وقد ذكر أهل العلم علّة حديث النبي صلى الله عليه وسلم في اعتبار التجار فجارا أنه  لمَّا كان من دَيدَنِ التجار التدليس في المعاملات، والتهالُكُ على ترويج السلع بما تيسّر لهم من الأيمان الكاذبة ونحوها، حكم عليهم بالفجور، واستثنى منهم من اتقى المحارم، وبرَّ في يمينه، وصدق في حديثه، ولم يستغل عوز الناس ويدخر بضاعة هي قوت ودواء  أساس لا يستغني الناس عنه  وخاصة فيما يتعلق بأمراض فتاكة لا يقبل احتكارها لأن ذلك موجب لحرمة هذه المعاملات وإثم لمرتكبيها مباشرة وتسببا، لأن ذلك من الفساد، والله تعالى يقول {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}، ولذلك أوصى لقمان ابنه فقال يا بني استعن بالكسب الحلال؛ فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته؛ فسلوك بعض التجار في أوقات الأزمات من الاحتكار لأساسيات حاجات الناس هو نقص في الدين من المحتكر وهو آثم مرتكب لمعصية، بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على كل محتكر بأن يبتليه الله بالمرض والإفلاس من جميع الأموال المحرمة التي جمعها من وراء هذه السلوكيات الخاطئة, فقال عليه الصلاة والسلام: من احتكر على المسلمين طعاما ضربه اللّه بالجذام والإفلاس، بل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن المحتكر ملعون، وأن «مَنِ احْتَكَرَ طَعَاماً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى»، وحذّر من رفع الأسعار فوق المعتاد، فقال صلى الله عليه وسلم: مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لَيُغْلِيَ عَلَيْهِمْ، كَانَ حَقّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَقْذِفَهُ فِي مُعْظَمِ جَهَنَّمَ رَأْسُهُ أَسْفَلُهُ.

إن الاحتكار جريمة بحق المجتمع تستوجب عقوبة دنيوية تلزم التاجر المحتكر ببيع سلعته بثمنها الأصلي بل وعمل الدولة لحماية الأفراد من عبث العابثين، ومصاصي دماء الشعوب، وذلك باتخاذ الإجراءات المناسبة الكفيلة بقطع دابر الاحتكار، وإعادة الثقة والطمأنينة إلى نفوس المواطنين، فعلى الدولة بيع السلع المحتكرة بموافقة أصحابها أو بالرغم عنهم  وبالسعر المعتاد، معاملة لهم بنقيض مقصودهم لما في ذلك من إعادة الاعتبار والاستقرار للمجتمع والطمأنينة لأفراده، وهذا أمر حتمي ولازم.

الرسالة التي توجّه للتاجر أن يرقب الله في تجارته، فمن أخلاقيات المسلم أن يحب الخير للغير كما يحبه لنفسه لأن من فرّج كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسّر على معسّر يسّر الله عليه وفرج الله عنه، والرزق لا يمكن أن يكون مشمولا بالمادة فقط بل إن من أعظم الرزق الصحة والعافية والطمأنينة وراحة البال وإن جبر الخواطر مزيل للمخاطر فكيف بتعامل التاجر مع الناس في أوقات الأزمات؟! وقد قال عليه الصلاة والسلام: رحم الله امرءا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا اقتضى.

واجب العلماء والدعاة

إن على الدعاة مسؤولية كبيرة وخطيرة جدا في توجيه التاجر للعمل بأخلاقيات الإسلام وتحفيزه على ذلك وتحذيره من عواقب أفعاله المخالفة وكذلك تبيين الأحكام الشرعية التي غفل عنها كثيرون وتلاعب بها الاقتصاديون، ومن هنا كانت خطورة عدم التوجيه الدعوي للتاجر تعليما وترغيبا وتحفيزا وتحذيرا أنها تسهم في الوقوع في أوحال المحرمات، فكان لا بد من تكاتف الجهود وتكثيف العمل الدعوي وخاصة في منابر الوعظ والتوجيه ومجالس العلم ووسائل التواصل المتنوّعة لأن المجتمع لا يمكن أن ينصلح أمره إلا بالعلم وتطبيق الأحكام الشرعية التي تتعلق بفقه المعاملات المالية وخاصة المسائل المعاصرة والمعاملات المصرفية.

وكما هو مستقرأ أن خطورة الوضع الاقتصادي يتولد منها إشكاليات مجتمعية كبيرة ومتعددة تطال المجتمع بأسره ويتضرر من جرّائه الإنسان، ولذلك لا بد للدعاة من نشر قيم الإسلام وتعاليمه وخاصة في المعاملات الاقتصادية لأن بذلك يطمئن الإنسان ويسعد الجميع، وهذا أمر بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم من خلال سنّته العملية، فأخلاقيات التاجر المسلم باب عظيم من أبواب الخير ونشر السلم المجتمعي، والدعاة مؤتمنون على نشر الدين كما التجار هم مؤتمنون كذلك على تطبيقه عمليا من خلال الالتزام بالأحكام الشرعية والآداب المرضية في التجارات المتعددة وهذا يسهم في الاستقرار والازدهار للمجتمع الإنساني.