ولدت جمعية المقاصد في مجتمع كانت له أساطيره وعجائبه وعوائده وتصوراته وتخيلاته لكائنات غير مرئية يتم تبادل الحديث معها ومخاطبة العجماوات. يخوف الأولاد فيه بالجن والغول، وتركن نساؤه وبعض رجاله لساحر أو فاتح مندل أو مدع بعلم الغيب يقرب البعيد ويبعد القريب يكتب حجاب المحبة والكره ويجلده ويخيطه ويشمعه ويحذر من فتحه. ويعلمون بناتهم ونساءهم أن غسل الثوب حرام نهار الجمعة وكذلك حرق المكنسة في الليل والتفاؤل بكبّ القهوة. ويتناقلون خبر امرأة اعترضت داية ليلاً وطلبت منها إشعال شمعة ثم اختفت وإذا الشمعة إصبع مخطوبة بالحناء أو أخرى اعترضت السابلة ليلاً رجلاً لإغوائه. ويعتقدون بأن الظواهر الطبيعية تتبدل فيمكن السير على الماء والانتقال بالخطوة من بلد الى آخر وإنزال المطر برفع الأيدي وانتقال الصوت آلاف الأميال يسمعه قابع في بلدة بعيدة فيرد عليه.
وقد اشاع بعض المغرضين ممن يدعي الغيرة والخوف على مسيرة المقاصد انها في معرض التخلي عن المساجد الستة التى تتولاها وليس خوفه هذا إلا كمن زعم انه خاف من الجوع على السمكة فجعل لها طُعمٌ في الشبكة. وما مثل الذين يشوشون على المقاصد ويظنون انفسهم أكبر من دهرهم ودهرهم اصغر من عقلهم إلا كمثل الرمح الذي قال في نفسه يوماً ان الله جعلني فوق ادوات الحرب فطعن غبّ ذلك فتحطم وصار الى الحداد فجعله مسماراً في حافر هجين. فجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية باقية كما تأسست خيرية وإسلامية.
أولى مؤسسو الجمعية ومن تولى إدارتها فيما بعد جلّ اهتمامهم لنشر الوعي بين المسلمين وتعليمهم أصول الدين والعبادات ورفع مستواهم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وكان التركيز على التعليم الديني الى جانب علوم الدنيا - كجزء أساسي يواكب الاهتمام باللغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم.
وفيما بدا أن أحد أسباب تأسيس الجمعية كان شكوى البعض مما كان يتعرض له الأولاد في مدارس الأجانب عن الوطن والدين ، كان من الطبيعي أن يلتفت المؤسسون ومن تبعهم الى إيلاء الشأن الديني حيزاً مهماً من نشاط الجمعية وبرامج التدريس في مدارسها. فكان من شروط التعليم في المدارس الأولى التي افتتحتها الجمعية سنة 1297 هـ ان يكون محصوراً بالقرآن الشريف وأن يخصص أحد المعلمين لتعليم القرآن الشريف والعبادات. وقد حافظت الجمعية على خاصية اعتبار تعلم الدين الإسلامي جزءاً من منهاجها التربوي وفاء لوفاء لانطلاقتها الأولى من الأوقاف الإسلامية التي كانت مخصصة في بيروت للتعليم والتطبيب ومساعدة الفقير وتقرر ضمها الى الجمعية.
يذكر ان البيان الاول للجمعية حدد مصارفاتها على المدارس فكان منها ثمن كتب أعطيت للتلامذة مجاناً ومعاش الشيخ سلامة معلم القرآن الشريف وما صرف على عمار جامع الأشرفية وتصليح باب جبانة السنطية ( بالسين).ومصاريف معالجة المرضى من الفقراء ومعاشات لبعض أشخاص فقراء ، فارتبط إنشاء المدارس لتعليم العلوم بإنشاء الجوامع لرفد التعليم بالإيمان وتهذيب الأخلاق والعقائد أي الجمع بين علوم الدنيا وعلوم الدين.
وتجلى اهتمام الجمعية بالتعليم الديني الإسلامي ولاسيما بالعبادات من حرصها على وجود جامع بالقرب من المدارس التي تؤسسها. وهكذا بني جامع عثمان بن عفان «ذي النورين»في رأس النبع قرب مدرسة للمقاصد بالاسم نفسه . وبني جامع الفاروق قرب مدرسة الفاروق في الطريق الجديدة.وجامع أبي بكر الصديق قرب مدرسة بالاسم نفسه في القنطاري. وجامع الحرج ضمن كلية الحرج. وجامع الأشرفية قرب المدرسة. وذلك لتعويد التلامذة وحثهم على أداء الصلوات ولاسيما صلاتي الظهر والعصر في الجامع.وأطلقت أسماء الصحابة وأهل البيت على مدارسها فكانت مدارس عثمان ذي النورين وعمر بن الخطاب الفاروق وأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب والحسين بن علي وفاطمة الزهراء وعائشة أم المؤمنين وخديجة الكبرى وكانت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية تقيم في آخر كل سنة دراسية حفلة لختم القرآن الكريم توزع بنهايتها جوائز على المتفوقين.
وقد حددت المادة الأولى من النظام الأساسي للجمعية والنظام الداخلي لسنتي 1919و1920 غرض الجمعية وهو «قيامها بما يمكن من مصالح المسلمين المحلية والمدنية على وجه يحفظ هداية دينهم ومصالح دنياهم» وجاء في المادة الثانية على أن «يعد عضواً مشتركاً في الجمعية كل مسلم يلتزم بذل مبلغ معين من المال لها في كل شهر وفي كل سنة».
وكان من ضمن اهتمام الجمعية تعليم حفظ القرآن الكريم وتأمين أحوال الحفظة فقررت الهيئة الإدارية في 3/1/1919م إثر وفاة حافظ القراءات السبع الشيخ علي صادق، إرسال الشيخ عبد الحميد العيتاني الى دمشق لتلقي القراءات السبع .ونجحت الجمعية سنة 1922م في ترتيب مدرسة للحفظة جعلت الجمعية مركزها في جامع الأمير منذر( النوفرة). وكان فيها ثمانية عشر طالباً يحفظون القرآن الكريم تحت تدريب وإرشاد استاذ يعلمهم أحكام القراءات والتفقه في الدين هو الشيخ حسن مكي . ثم جعلت الجمعية راتباً شهرياً لكل حافظ . وأضافت الى علم القراءات مبادىء الفقه واللغة العربية للحاجة إليهما في فهم الكتاب.العزيز وأحكام العبادات.
يذكر ان الجمعية قررت سنة 1921م بناء كلية في محلة الحرج وتسمية أول دائرة فيها باسم الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وعمدت بمناسبة افتتاحها الى تلاوة سيرة المولد النبوي الشريف.وكانت حريصة باستمرار على إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف والاحتفال بذلك في مدارسها. وكانت إدارات المدارس تقيم احتفالات في المدارس بالمناسبات الدينية كأعياد الفطر والأضحى والمولد النبوي وذكرى الهجرة والإسراء والمعــراج . كما الفت الجمعية سنة 1921م لجنة لإنشاء مستشفى إسلامي.
وكانت الكليات تعقد ندوات أسبوعية صباحية بعنوان «حديث الصباح» يتناول سير علماء المسلمين وتراثهم ويصار في آخر السنة إلى إجراء مسابقة بين الطلاب حول الأحاديث المذكورة والفائدة منها وقد كان لي شرف الفوز سنة 1956م بالمرتبة الأولى في المسابقة المشار إليها. كما درجت الجمعية على تنظيم امتحان عند انتهاء المرحلة الابتدائية لنيل شهادة ختم القرآن الكريم نلتها سنة 1952م.
وعززت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية رعايتها للعلوم الدينية بالاستعانة ببعض مشايخ الأزهر الشريف حتى فاق عددهم الخمسين عالماً اشتهر منهم مدرسنا الشيخ محمد الشال والشيخ فهيم أبو عبية الذي استمر في رئاسة البعثة الأزهرية مدة خمساً وعشرين سنة فضلاَ عن خطب الجمعة في جامع المجيدية.
التحذير من البدع ورعاية مختلف شؤون المسلمين
ورأى المؤسسون ما في المجتمع من الجهل والتخلف الفقير فيه لا يجد معلماً والمريض لا يجد طبيباً، وشهدوا انتشار الخرافات والبدع ، وسمعوا مفتي المدينة سنة 1875م يحذر مما كان يحصل من بدع في العشر الأواخر من شهر رمضان وما يحصل في الجنائز وبناء القبور من بدع مخالفة للسنة المطهرة. وما كان يحصل في المساجد من كثرة النائمين فيها ودخول الصبيان الصغار اليها وكثرة الكلام والتشويش على المصلين وقيام «حمّال الربعة» بتفرقة أجزائها الشريفة حين صلاة الجمعة ثم جمعها بتخطي رقاب الناس.
وقام مؤسسو المقاصد بدعوة علماء البلدة ومدرسيها وخطبائها للمذاكرة في إبطال العوائد والبدع المخالفة للشرع والآداب فعقد الاجتماع ليلة الجمعة الأول من شهر تموز سنة م وتم تنظيم محضر موقع من الحاضرين اتفق فيه على اتخاذ جميع الوسائل: لمنع خروج النساء خلف الميت وذهابهن الى المقابر وان يمنعن من الزيارة إلا في يوم السبت من كل أسبوع وأيام الأعياد مؤقتاً الى ان يتيسر منعهن من زيارتها مطلقاً . وإبطال ضوضاء العميان امام الجنائز حيث من السّنة تشييع الجنازة بالصمت والتفكر. ولبس الأبيض بدل الأسود في الحداد.
وكان في ذهن مؤسسي المقاصد أن الجمعية مسؤولة عن أحوال المسلمين عامة وفي بيروت خاصة فشكلت لجنة لرعاية المسلمين الفقراء. وشكلت لجنة تقوم كل سنة بالعناية بحجاج بيت الله الحرام عند مرورهم في بيروت واهتمت بالذين تقطعت بهم السبل لتسفيرهم الى ديارهم وشكلت لجنة تجمع التبرعات لترميم قناة ماء زبيدة، ولجنة للتخفيف من المجاعة التي أصابت العراق وطلبت من الحكومة الترخيص لها بفتح مستشفى المسلمين.وعندما افترش آلاف المهاجرين من مسلمي البلقان ساحة القشلة الهمايونية (السراي الكبير) في ايلول 1878م الفت الجمعية لجنة من مؤسسيها محمود خرما وهاشم الجمال وطه النصولي راجعت قومندان الموقع فأمر بناء لطلبهم بفتح الأماكن الخالية واشتغلوا طيلة الليل بنقل المهاجرين اليها.
ومن خلفية مسؤولية الجمعية عن أحوال المسلمين الدينية تصدت لمراقب الأوقاف الإسلامية الذي عينه الفرنسيون السيد شفيق ملك عندما أرسل كتاباً الى الجمعية يطلب فيه 174 ليرة سورية شهرياً من أموال الجمعية لتصرف على أربعة وعشرين حافظاً للقرآن الكريم ، فرفضت الجمعية هذا الطلب لأنها ستتخذ الوسائل الضرورية للحفاظ على حفظة القرآن الكريم وقررت مراجعة رئيس الجمعية المفتي مصطفى نجا لكتابة حجة وقفية لتكون مدارس الجمعية بتعليم أولاد المسلمين. إلا أن مراقب الأوقاف عاد وأرسل رسالة أخرى للجمعية يبلغها قرار المفوضية العليا بالإشراف على الجمعيات الخيرية الإسلامية، فاجتمعت إدارة الجمعية وقررت «لما كانت هذه المعاملة غير منطبقة على العدالة وحرية الأقوام الشخصية بإدارة أمورهم الذاتية ومختصة بالطائفة الإسلامية دون غيرها من بقية الطوائف وكان هذا التخصيص يمس بكرامة المسلمين كافة ولا يمكن لجمعيتنا قبول هذه المداخلة ولا الإشراف عليها...» وقررت مقابلة المفوض السامي من أجل ذلك، الذي احال الموضوع الى مدير الداخلية أسعد خورشيد (اغتيل فيما بعد) وكانت النتيجة ورود رسالة الى الجمعية من المندوب السامي الجنرال ويغان يصرح بعدم رغبة الحكومة في التعرض لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت وعدم الرغبة في ضمها الى الأوقاف.
* محامٍ ومؤرخ