بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 نيسان 2021 12:01ص شهر الأخلاق

حجم الخط
رمضان شهر الأخلاق، راؤه رحمة وميمه مغفرة وضاده ضمان للجنة وألفه أمان من النار ونونه نور بين يدي الله تعالى، ومن هنا كان لزاما على المسلم وقد دخل مدرسة رمضان أن يتعلّم منها مكارم الأخلاق؛ ليتخرّج من تلك المدرسة وقد حقق جملة عظيمة من تلك اللآلئ الدرّية، فرمضان شهر الرحمة والرأفة، والمرحمة والمغفرة، وصلة الرحم والصبر على طاعة الله وعن معصية الله، والصفح عمن أخطأ وأساء، والصدق مع النفس كما مع الغير، وأهمّه أن يكون الصدق مع الله ويظهر ذلك في الدوران مع الحل والحرمة حسب مراد الشارع، وعليه يندرج على كل شؤون حياته فيتحقق فيه: «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء»، وعليه يكون قد حاز الاستقامة تطبيقا لقول النبي  صلى الله عليه وسلم «قُلْ آمَنْتُ بِالله ثُمَّ اسْتَقِمْ»، من صام في نهار رمضان، ولم يصم لسانه من غيبة الآخرين وهتك أعراضهم، ولم تصم يده من إيذاء الآخرين والنيل منهم، ولم يصم قلبه من الأحقاد والغلِّ على إخوانه المسلمين، فإنَّ صيامه ناقص، وفيه تفريط كبير لحدود الله، فإذا لم يكن في السمع مني تصاون، وفي بصري غضٌّ وفي منطقي صمت، فحظِّي إذاً من صومي الجوع والظما، فإن قلت: إني صمت يومي فما صمت، قال  صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وحج واعتمر، وقال إني مسلم: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان».

المراقبة المطلقة للّه تعالى

ثم إن الصيام يحقق خلق المراقبة المطلقة للّه وخاصة إذا خلا بنفسه وشهواته دون الخلق فإذا امتنع عن المحرّمات سرا فمن باب أولى أن يمتنع عنها جهرا، وهذه أعلى مراتب الدين، مصداقا لقول النبي  صلى الله عليه وسلم أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فلا يظهر شيئا يخفي دونه، فعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي  صلى الله عليه وسلم أنه قال «لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة ‏بيضاً، فيجعلها الله عزّ وجلّ هباء منثوراً». قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلّهم ‏لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: «أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ‏ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها: وقد سأل النبي  صلى الله عليه وسلم يوما أصحابه فقال «أتدرون من المفلس، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار».

الإخوة الإيمانية

فمن أخلاقية المسلم في رمضان إذن أنه يشعر بإخوانه وتتحقق الوحدة الإسلامية العملية غير الشعارية خاصة وأنه كما ما تتحد الشعائر تتحد المشاعر مصداقا لقول الله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، فالصيام يسْمُوَ بنفوس الصائمِين، يهذب أخلاقهم ويزيل الضغائن من نفوسهم ولذلك سئل أحد الصالحين لِمَ شُرع الصيام؟ قال: «ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع، فالشبعان يصوم ويجوع؛ ليُواسي إخوانه الجَوْعَى، ويُقَاسِمهم طعامه؛ ولربما لو لم يَصُمْ ولم يصبه الجوع ما تذكّرهم وأدّى زكاة ماله لهم كذلك»، فألم الجوع صعب ومرارة الحرمان فتّاكة ولذلك كان الصوم محققا لخلق المواساة ومن أخلاقية الصيام أنه يؤصل مبدأ التسامح فقد قال النبي  صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْماً صَائِماً فَلا يَرْفُثْ، وَلا يَجْهَلْ فَإِنْ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ، بيد ان القرآن قد سطّر خلقا عظيما من أخلاق الصيام وهو التقوى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، تلك الحاسة الإيمانية القلبية التي تقي المسلم من الوقوع في سخط الله تعالى، وتجعل بينه وبين غضب الله وقاية بالعمل الصالح الخالص، فضلا عن أنها تحيي القلب بالمراقبة والخوف والوجل والحياء من الله عالم السر وأخفى. فكم يخرق الصيام بموبقات ومسقطات، وكم من لم يتعلم من الصيام فقه التقوى للّه والوقاية من غضبه بالاستحياء منه تعالى ولذلك قال أحد الصالحين إن صيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع، وعمل صالح له شافع، كم نخرق صيامنا بسهام الكلام، ثمَّ نرقّعه، وقد اتّسع الخرق على الراقع.

وفي الحديث أن رجلا قال للنبي  صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها. فقال: «هي في النار». ثم قال: يا رسول الله فلانة تذكر من قلّة صلاتها وصيامها، وأنها تتصدّق «بالأثوار من الأقط» بالقطع من العجين ولا تؤذي جيرانها. قال: «هي في الجنة». إن المؤمن لزاما أن يكون على صلة بالله طاعة وانقيادا، استعلاء على ضروريات الجسد كلها، لما في ذلك من إعداد للنفوس لتحمّل المشاق وإذلال النفس لقيادتها للطاعة، فالصوم يمكِّن الإنسان من قيادة نفسه لما فيه خيرها وسعادتها في الدنيا والآخرة، ويبعده عن أن يكون عبداً لشهواته لا يتمكن من منع نفسه عن لذاتها وشهواتها. إذن يمكن القول بأن جماع ذلك له هو أن يكون المسلم على خلق حسن؛ لأن النّبيّ  صلى الله عليه وسلم جمع بين تقوى اللّه وحسن الخلق، وتقوى اللّه تصلح ما بين العبد وبين ربّه وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه. فتقوى اللّه توجب له محبّة اللّه، وحسن الخلق يدعو النّاس إلى محبّته.

فلا يليق بمن بلغ رمضان وأدخل مدرسة الصيام في تغيّرها الإيجابي للمسلم أن يضيّع أوقاته بما لا يفيده بل يضيره ويضرّه ويحرم من بركة رمضان والتخرّج من مدرسته العظيمة بملء وقته بمتابعة ومشاهدة ومنادمة ما لا يصح ولا يجوز فضلا عن ان القران والصيام صنوان لذا قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، وحتى لا يحرم من الخير في رمضان لأنه من حرم فيه الخير فقد حرم والله تعالى جعل رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا وتأخّر قوم فخابوا فالعجب من اللاعب الضاحك في يوم يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «بُعدا لمن أدرك رمضان فلم يغفر له»، لذا هي فرصة ربما لا تتكرر وهو موسم ربما لا يعود لنا فالمسابقة لنيل شهادة أخلاقيات رمضان والفوز بالرضوان والمسابقة لمرضاته تطبيقا لقول الله تعالى {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.