بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 تشرين الأول 2022 12:00ص صعوبات العمل السياسي الإسلامي في هذا الزمن - السياسة الميكيافيلية

حجم الخط
سماحة العلّامة السيد علي الأمين

العالم تسوده السياسة الميكيافيلية - ما هي صعوبات العمل السياسي الإسلامي في هذا الزمن؟..
صعوبات العمل السياسي الإسلامي لم تنشأ من عسر وصعوبة النظرية الدينية في الحياة وقد ورد في القرآن الكريم {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} ولا معنى لأن ينزل الله شريعة عسيرة التطبيق أو لا توجد إمكانية لتنفيذها في الحياة، بل قد وصفت الشريعة الإسلامية بالشريعة السمحاء كما ورد في بعض الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وآله الأطهار وصحبه الأخيار، وقد طبقت الشرائع السماوية في حياة البشر في مراحل متعددة من حياة البشر وحكمت حياتهم، وهذا يدلّ على أن الله تعالى أنزل الشرائع القابلة للتنفيذ والتطبيق، وإذا كان من صعوبة في العمل السياسي فهي تكمن في طبيعة الإنسان الذي سلّحه الله بالإرادة والاختيار ولم يشأ له أن يؤمن بالاكراه والاجبار، لأنه بذلك يسلبه إنسانيته وتفقد الفكرة والعقيدة جمالها وحسنها حينما تفرض على الإنسان بالقوة، وإنما أراد الله من الإنسان النبي أن يعمل بالطرق العقلانية التي تؤدي إلى كسب المعركة من خلال تأييد الناس للرسالة التي يحملها، ويسعى إلى تطبيقها، بعد القناعة الطوعية بها، قال الله تعالى في القرآن الكريم: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين..}.
فقد أراد الله من الأمة أن تبني ذاتها ومجتمعها من خلال عقلها وأرادتها وأن يكون إنجاز تطبيق النظام السياسي وليد قناعتها لأنه بذلك يستتب النظام وتندفع الأمة في مسيرة البناء إلى الأمام. وهذه الصعوبة النابعة من طبيعة الإنسان يوجهها كل عمل سياسي ينطلق من مبادئ ومُثُل يسعى إلى تحويلها إلى نظام يحكم الحياة الاجتماعية. وفي اعتقادي أن الصعوبات التي تعترض العمل السياسي للإسلام في العصر الحاضر يثيرها بعض الذين يعملون لتطبيق الإسلام، لاعتمادهم على بعض النظريات في الحكم والسياسة تلبس الدين ثوب الانتهازية والوصولية، وتجعل القاعدة الشعبية تبتعد عنه شيئاً فشيئاً ويؤدي إلى اهتزاز المصداقية للخطاب الديني في نفوس الناس، وبابتعادهم يهتز النظام مع أن الهدف كان المحافظة عليه. وفي مجال العمل السياسي للإسلام قد ينطلق بعض العاملين من قاعدة يمكن أن يُطلق عليها اسم (حفظ الدين والشريعة).
قاعدة حفظ السلطة والنظام
وقد ينطلق البعض الآخر من العاملين في مقام العمل السياسي من قاعدة يطلق عليها اسم (حفظ السلطة والنظام) والقاعدة الأولى فيما نفهم هي التي انطلق منها الأنبياء في العمل السياسي لتحكيم الدين في الحياة، فلم يكن همّهم أن يصلوا إلى سدة الحكم كيفما اتفق، ولو على حساب صفاء الشريعة وطهرها، بل كان همّهم المحافظة على بقاء الشريعة بعيدة عن المناورات السياسية التي تسيء إليها وتشوّه وجهها المشرق ولذلك كانت تتمتع مواقف الأنبياء بالثبات والصلابة على المبدأ، لأن السياسة الدينية تنبثق عن الأحكام الشرعية الثابتة التي لا تتبدّل من خلال المصالح والمفاسد التي يتصورها الحاكم، بل هي تعبير صادق عن الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة).
فالحرام يبقى حراماً وإن توقف الوصول إلى السلطة على ارتكابه، والحلال يبقى حلالا وأن كان يضر ببقاء السلطة، لأن النظام مبني على المحافظة على تلك المحرّمات والمباحات وغيرها التي تمثل الشريعة، وتكون السلطة السياسية في خدمة الشريعة وأحكامها وليس العكس، فالتجسس على الناس حرام وإن كان فعله ينفع النظام بحسب تصور الحاكم السياسي لأن الحاكم الحق هو الله تعالى قد حرّم التجسس وهو الأعلم بالمصالح والمفاسد. ونقد الحاكم السياسي مباح والاعتراض عليه حلال وان كان قمع الحرية ينفع في استمرار النظام بحسب فهم السلطة الحاكمة وإدراكها، لأن المهم على قاعدة حفظ الدين والشريعة ليس بقاء النظام السياسي وإنما المهم استمرار الحق وبقاء المبادئ التي تمثلها أحكام الشريعة المؤسسة على المصالح والمفاسد التي يعلمها الله تعالى، ولم تؤسس على المصالح والمفاسد الآنية التي تدركها السلطة السياسية الحاكمة على الأرض من البشر غير المعصومين وقد عبّر الإمام علي «عليه السلام» عن ثبات الموقف السياسي بقوله: (واعلموا عباد الله أن المؤمن يستحل العام ما استحل عاما أول، ويحرم العام ما حرم عاما أول، وان ما أحدث الناس لا يحل لكم شيئاً مما حُرَم عليكم، ولكن الحلال ما أحلَ الله والحرام ما حرمَ الله).
ولأن الإمام عليه السلام انطلق من قاعدة حفظ الشريعة والدين لم يستخدم الوسائل التي تمكّنه من الاستمرار في السلطة وبقاء النظام، ودفع حياته ونظامه ثمناً للثبات على المبادئ، ولإن لم يستمر في الحكم ولم يبقَ النظام، ولكن بقي الحق الذي كان يمثله ويسعى لتجسيده النور الذي يضيء الدرب للأحرار والمجاهدين، وبقيت تجربته في الحكم الكعبة التي يحج إليها المفكرون ويحنّ إليها عشاق المبادئ المخلصون، ولو انطلق الإمام عليه السلام في عمله السياسي من قاعدة حفظ السلطة والنظام لاستمر حكمه أربعين سنة لا أربع سنوات لأنه كان بإمكانه أن ينشئ أجهزة للقمع تحت عنوان المحافظة على الدولة والنظام الشرعي، لأن وسائل القمع والمحافظة على السلطة ليست من مبتكرات العصر الحديث بل هي أمور تدركها حتى الأنظمة المتخلفة، بل تقوم عليها، ولكنه كان يقول: (قد يدرك الحول القلب وجه الحيلة، ولكن دونها حاجز من أمر الله ونهيه وإنما ينتهزها من لا حريجة له في الدين).
كان بإمكانه أن ينشئ جهاز مخابرات يقمع به الناس وكان بإمكانه أن يبذر الثروة ويصرف الأموال لشراء النفوس والذمم، فيطيل بذلك عمر النظام، ولكن هل تبقى للمبادئ من قيمة؟، وهل يبقى للحق والشريعة من أحباب؟، وهل يبقى للإخلاص والتضحية في سبيل المبدأ من معنى؟، وكيف تبقى المصداقية لشريعة فرضت نفسها على الناس بتلك الأساليب الميكافيلية التي ترتد سلبا على المسألة الإيمانية وتلقي بظلال الشك على قضايا الدين برمّتها، ولهذه الأمور وغيرها آثر علي «عليه السلام» أن تسقط دولته على أن يعصي الله تعالى في بقائها باستخدام الوسائل غير المشروعة والتي كانت متوفرة لديه وكان يعلمها ويعرف كيف يقوّمهم ويجبرهم على الطاعة والانقياد ولكنه كان يقول: (لا أطلب النصر بالجور) وكان يقول: (واني لعالم بما يصلحكم ويقيم اودكم ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي).
صعوبة العمل السياسي في عصرنا
وصعوبة العمل السياسي للإسلام في العصر الحاضر نشأت من أن بعض المتصدّين للمسألة السياسية من رجال الدين وغيرهم، أراد أن يجمع في عمله السياسي بين قاعدة حفظ النظام والسلطة وبين قاعدة حفظ الدين والشريعة، فوقع في شرك السياسة الميكافيلية التي تعتمد على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، وقد بالغ بعض رجال الدين الإسلاميين وزاد على ميكيافيلي حينما قال: ان الغاية تنظّف وتطهّر الوسيلة، وهذا كلام تفوح منه رائحة حب السلطة التي لم تكن غاية حتى تبرر الوسائل غير المشروعة أو تنظّفها وتطهّرها، وفي الكلام المتقدم الذي نقلناه عن الإمام علي دلالة واضحة على نبذ هذه الوسائل وكراهيتها وان أدّت إلى سقوط الدولة والنظام لان المهم أن لا يسقط الفكر والمبادئ التي كان يحملها النظام، ولان بقاءها في النفوس غير مشوّهة هو الذي يشكّل نقطة العودة إلى السلطة.
وأما إذا شوّهت تلك المبادئ في النفوس نتيجة السياسة الميكافيلية والمحافظة على السلطة فقد يطول عمر السلطة والنظام ولكن لا يكتب البقاء الطويل لنظام يخلو من المبادئ وليس المهم البقاء المؤقت في السلطة على حساب المبادئ الشرعية، لأن السلطة في نظر الإمام علي «عليه السلام» هي لإقامة حق ودفع باطل، ولا يمكن أن تعتمد على الباطل في دفع الباطل، أو في تثبيت السلطة، وقد أشار الإمام علي «عليه السلام» إلى هذه الحقيقة وهي أن السلطة ليست غاية حتى تستخدم الوسائل غير المشروعة لتثبيتها والمحافظة عليها، عندما قال لعبد الله بن عباس الذي دخل عليه وهو يصلح نعله قائلاً له: (ما قيمة هذه النعل؟ فقال ابن عباس: لا قيمة لها، فقال عليه السلام: والله لهي أحب إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً).
والخلاصة أن المنطق الديني يتجافى مع منطق السياسة الميكافيلية التي يعتمدها دعاة الحفاظ على السلطة والنظام على حساب الحق الذي تمثله المبادئ التي لا تتغيّر ولا تتبدّل بقيام السلطة السياسية، ويبقى ميزان التفاضل بين الأشخاص والأنظمة هو العمل على إحقاق الحق وأن أدّت مصادقة الحق إلى أن يخسر الأشخاص مواقعهم وتفقد الأنظمة سيطرتها، كما قال الإمام علي «عليه السلام» (إن أفضل الناس عند الله من كان العمل بالحق أحبَّ إليه وأن نقصه وكثره من الباطل وأن جرَّ إليه فائدة وزاده).