بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 تشرين الأول 2017 12:05ص في الذكرى الثامنة لرحيله عن هذه الدنيا: د. مصطفى محمود..

نموذج للعالم الذي سخَّر كل إمكانيّاته في سبيل توعية المجتمع

حجم الخط
في هذا اليوم تمر علينا الذكرى الثامنة على رحيل العالم الكبير د. مصطفى محمود الذي كان وسيبقى أحد أبرز رجالات الفكر الإسلامي في القرن الماضي.
رحل قبل أن يرى تلك التغيرات التي طرأت على العالم العربي والإسلامي وأدت إلى تخبط الفكر في كل اتجاه بعدما كان رحمه الله تعالى قد جاهد بكل وسعه ليكون واحدا من الذين يتولون مهمة إصلاح الفكر.
ثمان سنوات... مرت على رحيله والمؤسف أن مكانه ما زال فارغا لم يأت أحد بعده ليكمل المسيرة أو ليتابع ما أفنى في سبيله العمر، وإنما انسحبت السلبية حتى على أعماله التي قدمها فبتنا لا نراها إلا قليلا ولا نسمع بها إلا نادرا.

من هو مصطفى محمود
ولد مصطفى محمود يوم 27 كانون الأول 1921 م درس الطب وتخرج عام 1953 ثم تفرغ للكتابة والبحث حتى ألف 89 كتابا منها الكتب العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية إضافة الحكايات والمسرحيات وقصص الرحلات.
تميز أسلوبه بالجاذبية مع العمق والبساطة كما أنشأ عام 1979 مركزه الاسلامي الشهير في القاهرة المعروف بـ «مركز مصطفى محمود» والذي يضم مسجدا ويتبع له ثلاثة ‏مراكز‏ ‏طبية‏ تهتم بعلاج ذوي الدخل المحدود ويقصدها الكثير من أبناء مصر نظرا لسمعتها الطبية، ‏وشكل‏ ‏قوافل‏ ‏للرحمة‏ ‏من‏ ستة عشر ‏طبيبًا‏، كما يضم ‏ أربعة ‏مراصد‏ ‏فلكية‏ ‏ومتحفا ‏للجيولوجيا‏، يقوم عليه أساتذة متخصصون ويشتمل على مجموعة‏ ‏من‏ ‏الصخور‏ ‏الجرانيتية،‏ ‏والفراشات‏ ‏المحنطة‏ ‏بأشكالها‏ ‏المتنوعة‏ ‏وبعض ‏الكائنات‏ ‏البحرية‏.
تعرض لأزمات فكرية كثيرة كان أولها عندما قدم للمحاكمة بسبب كتابه (الله والإنسان) وطلب عبد الناصر بنفسه تقديمه للمحاكمة بناء على طلب الأزهر باعتبارها قضية كفر!..إلا أن المحكمة اكتفت بمصادرة الكتاب, بعد ذلك أبلغه الرئيس السادات أنه معجب بالكتاب وقرر طبعه مرة أخرى!. 
قدم الدكتور مصطفى محمود 400 حلقة من برنامجه التلفزيوني الشهير (العلم والإيمان)
برع مصطفى محمود في فنون عديدة منها الفكر والأدب، والفلسفة والتصوف، وأحيانا ما تثير أفكاره ومقالاته جدلا واسعا عبر الصحف ووسائل الإعلام. 
توفى مصطفى محمود يوم السبت 31 تشرين الأول 2009 بعد رحلة علاج استمرت عدة شهور عن عمر ناهز 88 عاما.
تميز الأسلوب
تميز الراحل مصطفى محمود بأسلوبه الشيق والسهل والعميق في آن واحد، وقد كان كلامه وخاصة في برنامجه الشهير «العلم والإيمان» خير دليل على ما نقول، لم يكن متقعر اللغة ولا متكلف الموضوع ولا متصنعا في أدائه، بل طبيعيا وواضحا ومباشرا في أفكاره، يعرض المشكلة كما هي مهما كان نوعها.. يفصل أسبابها ويشرح أبعادها ويقدم الحلول بطريقة إسلامية واقعية قابلة للتطبيق وغير تعجيزية.
وكذلك لم يكن يخشى في الله لومة لائم، فإذا ما وجد فكرة خاطئة تنتشر في عقول الناس سارع إلى الإضاءة عليها بهدف التصويب والإصلاح وإن أدى ذلك إلى خوضه المعارك مع أكثر من جهة.
فحين وقف وطالب المسؤولين عن توجيه وتوعية المجتمع بإصلاح فكر الناس حول موضوع الشفاعة حتى لا تتحول إلى تواكل وعجز يتناقض مع ما أمر به القرآن الكريم واجه هجمة شعواء من قبل العديدين من مختلف الفئات فحورب وألقيت عليه تهم ما أنزل الله بها من سلطان وتعرض لظلم كبير ومع ذلك لم يتراجع ولم يخف ولم يتغير بل استمر في حملته التوعوية الاصلاحية.
ظهوره الإعلامي
أدرك الراحل د.مصطفى محمود ما توصل إليه كثير من علماء الاجتماع من أن مصادر التربية والتوجيه في العصر الحديث قد تعددت وتنوعت، بل واختلفت كثيراً عما كانت عليه في الماضي، مما يعني أن العوامل المؤثرة في الأنماط السلوكية والثقافية للناس جميعاً أيضاً قد تنوعت واختلفت عما كانت عليه، فقديما كانت مصادر التربية والتعليم محصورة في البيت والمدرسة والمسجد أما الآن فقد تحول العالم إلى قرية واحدة واسعة الحدود يشترك أهلها جميعاً بوحدة المصادر والمؤثرات، ومن هنا كان واجبا علينا كمسلمين أن نبحث بجدية و وعي عن صوابية هذه المصادر عبر عرضها على ميزان الشرع الحنيف الذي ارتضاه المولى تعالى لنا.
ومن هذه المصادر التي باتت في متناول الجميع منذ منتصف القرن الماضي تقريبا، ما يعرف بوسائل الإعلام، والتلفزيون خاصة، فهذه الوسيلة لم تعد محصورة في فئة معينة أو مكان محدد، بل ونتيجة للتطور التكنولوجي تحولت إلى ضيف ثقيل في كثير من الأحيان يدخل إلى بيوت الناس دون أي استئذان أو حياء.
فلقد أدرك مصطفى محمود الدور الخطير الذي يمكن لهذه الأداة أن تلعبه، فهي تدخل البيوت بغير استئذان لتقدم للمتلقي ما تشاء، وتتيح للناس التزود بشتى صنوف الثقافة باطلة كانت أم صالحة، كما أنها باتت تخصص لبرامج الفساد والمجون أكثر مما تخصصه للبرامج المفيدة. 
ومن هنا رأينا أن مصطفى محمود قد تحول إلى أحد المصادر الإسلامية التثقيفية البارزة التي لعبت دوراً كبيراً في تعليم المشاهدين إسلامياً وثقافياً وسلكوياً واجتماعياً وعلميا، وكذلك اجتهد بكل ما أوتي من علم وقوة لتقديم ما ينفع الناس في شتى النواحي.
كان في برنامجه «العلم والإيمان» يشتري المواد الفيلمية الوثائقية من حسابه الشخصي ويشحنها عبر البريد الجوي إلى مصر ليعرضها على الناس ويشرح لها بالصوت والصورة كل ما يثبت الإيمان في قلوبهم ونفوسهم، وقد تفاعل الناس معه بصورة غير مسبوقة، حتى باتوا ينتظرون برنامجه أسبوعياً بكل لهفة وشوق.
كلمة أخيرة
في ختام الكلام ... ربما علينا أن نسأل وبإلحاح.. 
لماذا كلما غاب علم من أعلامنا البارزين في مجال العلم والإيمان بقي ما قام به يتيما من بعده دون رعاية أو اهتمام أو دون خطة استكمالية تنمي وتبرز أعماله النافعة..؟!
ولماذا كلما رحل عالم من حولنا توقف جهده ولم نر من حولنا ( فردا كان أو مؤسسة) من يكمل المسيرة في سبيل نفع الناس..؟! هل أصبحنا عاقين بعلمائنا إلى درجة التنكر العملي لكل ما قدموه لنا..؟!
اسألوا الجيل الجديد من شبابنا في مختلف البلاد العربية والإسلامية... من الذي يعرف د. مصطفى محمود.. ومن الذي يدرك أعماله وجهوده ومساهماته وكل صنوف التعب التي تحملها في سبيل  أخراج هذا البرنامج وتقديمه للناس...؟!
ومن الذي سعى واجتهد ليبقى هذا الزرع المثمر منتجا في بلادنا خاصة في زمن شيوع القبح الاعلامي من كل حدب وصوب...؟!
إننا في ذكرى رحيل د. مصطفى محمود نحتاج وبشدة إلى إعادة الحياة إلى عقولنا ومفاهيمنا وتفكيرنا وأعمالنا ... لأن الواقع المعاش علميا وثقافيا وأدبيا وتربويا وإعلاميا يخبرنا بأن ما قدمه مصطفى محمود هو الباقي على قيد الحياة وأن واقعنا هو الميت حضاريا...؟!

bahaasalam@yahoo.com