كانت الهجرة ولا تزال مناسبة يستعيدها المسلم في ذاكرته ليتذكّر الظروف والمعاناة التي مرَّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الرسالة النبوية وليتعلّم من خلالها وفي ذكراها أهمية تحقيق الوحدة الإسلامية والإرتقاء بالأمة من مجموعات متعبة محاصرة إلى أمة تمتد لمشارق الأرض ومغاربها لتجسّد من خلال تلك الذكرى حقيقة دور المسلمين في وحدتهم وقوتهم وعزّتهم. وفي هذه الذكرى، ذكرى رأس السنة الهجرية التي شكّلت أساساً تاريخياً لهذه الأمة وتلاقيها على الشهادة للّه ولرسوله وللمؤمنين، حول هذه المناسبة تحدّث إلينا مجموعة من قضاة المسلمين مؤكّدين على أهمية الحفاظ على هذه الوحدة وتعزيزها وتقويتها وعلى ضرورة الإرتقاء فوق خلافاتها حتى لا تصبح تلك الأمة التي «تتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها»، وفيما يلي نورد آراءهم كما ذكروها.
مرحلة انتقالية
{ بداية قال القاضي الشيخ أحمد درويش الكردي حقيقة أن للإحتفاء برأس السنة الهجرية لا بد من العودة إلى بدايتها، كانت السنة الهجرية لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة كانت سبباً لجمع كلمة المسلمين وقوتهم ووحدتهم، وكانت إنتقالاً من حالة ضعف إلى حالة قوّة ومن حالة تشرذم إلى حالة إتحاد، وهذا يدعونا ويدعو المسلمين اليوم إلى نبذ كل الخلافات لأن الخطر الذي يدور حول العالم العربي والإسلامي على حد سواء خطر عظيم يكاد يدفعنا للقول وقد صدق في واقعنا قول النبي عليه الصلاة والسلام: ستتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. فالعالم كله اليوم تآمر على المسلمين والعرب ولكن بأشكال مختلفة، توزعت الأدوار والهدف واحد، يتمنّع أحدهم ويؤيّد أحدهم ويهاجم بعضهم ويهادن الآخر، هو تقسيم أدوار ليس أكثر لأنهم لا يزالون يطمعون في هذه الأمة وأن يمتصوا خيراتها وقدراتها واللعب على مشاعرها وأحاسيسها. من هنا نقول، أن الأمة اليوم يجب أن تجتمع بمناسبة رأس السنة الهجرية على وحدة الكلمة ونبذ الخلاف وإزالة كل ما يسبّب الفتنة والقتال بين الأخ وأخيه وبين بلد وآخر. ولنتكلم ولنتعلّم أن هذه الأمة بحاجة أكثر ما تكون إلى وحدتها وقوتها وإعتصامها بكتاب ربّها وسنّة نبيها.
الهجرة كانت معلما تاريخيا عظيما لذلك أرّخ به أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. بحسب ما هو مشاهد في الأفق الخلاف بين المسلمين يمتد طولا وعرضاً ويزداد يوم بعد يوم لأن أعداء هذه الأمة إستطاعوا أن يدخلوا في قضية الخلاف المذهبي والعرقي واللغوي، وبالتالي اليوم نرى منازعات عرقية مذهبية، والعراق والشام ولبنان هي أكبر شاهد على ذلك. إستطاع الغرب بكل مكوّناته أن يأخذ تحالفات كثير منّا لمحاربة الإرهاب وهو في باطن الأمر وحقيقته إستعملنا حتى نحارب الإسلام وليس الإرهاب، نحن قولاً واحداً ضد الإرهاب وضد قتل أي نفس بريئة وما يفعله المجرمون في الأرض الذي تسمّوا بإسم الأنظمة والقيادات الفاسدة لا يقلّوا إرهاباً عن الإرهابيين الذين نعرفهم، لقد زرعوا في أوطانهم الفزع والخوف بدل أن يزرعوا الأمن والأمان والإستقرار والعدل والمساواة، كل هذا نستطيع أن نقول أننا نحن لا بد أن نعرّف الإرهاب قبل كل شيء لا يصحّ أن نقاتل عدوّا مجهولاً ليس له تعريف ولا كيان بحجّة محاربة الإرهاب.
رحلة بناء الأمة
{ وقال القاضي الشيخ خلدون عريمط: عندما نحتفي بذكرى الهجرة النبوية الشريفة نجسّد إرتباطنا بالإسلام ووحدتنا مع المسلمين في سائر أرجاء الأرض، فنعتزّ بنبيّنا صلى الله عليه وسلم ونباهي به الأمم في مشارق الأرض ومغاربها لأننا في هذه المناسبة نستعيدها لنؤكّد على وحدتنا وارتباطنا بتاريخنا كأمة مناضلة تعمل للحفاظ على حضارتها ولتأكيد إرتباطها وترابطها مع ذلك التاريخ بكل ما يمثّله في ذاكرتنا.
إن هجرة رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلّم كانت الأساس للإنتقال من الظلمات إلى النور ومن التشرذم إلى الوحدة ومن القبلية إلى الحضارة، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان الهادي والجامع والموحّد الذي ارتقى بالأمة من حال إلى حال فعزّز بهذه الهجرة صلاتها ووحّد صفوفها وهداها إلى الصراط المستقيم.
لم تكن هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مجرّد انتقال لأفراد من حال إلى حال، بل بناء لأمة على مداميك ثابتة وإرتقاء بها من التشرذم إلى الوحدة، فعزّز بذلك قوة المسلمين وأسّس لأمّة غدت مع الوقت تمتدّ من أقاصي الأرض إلى أقاصيها، إننا حين نستعيد ذكرى الهجرة النبوية الشريفة نتطلّع إلى حاضرنا اليوم حيث ستتداعى علينا الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، لا نستطيع إلا أن نؤكّد على أن هذه الوحدة باقية ما بقيت الأرض، مستمرة إلى ما شاء الله لأننا نؤكّد من خلالها أننا خير أمة أخرجت للناس، ونؤكّد من خلالها على أن لا مجال لتفتيتنا وشرذمتنا وتقسيمنا لأن الله معنا ومن كان مع الله سدّد الله خُطاه وعزّز دوره ورعاه وحماه.
إننا حين نرى ما يجري هذه الأيام من صراعات وإنقسامات وخلافات على مستوى كل قطر من أقطار الدول الإسلامية وعلى مستوى الشعوب الإسلامية وما نلحظه من خلافات وصراعات وانقسامات لا نستطيع إلا أن نؤكد على أن وحدة المسلمين باقية إلى ما شاء الله، وإن كل الإنقسامات والخلافات والصراعات لن تفتّتنا ولن تشرذم صفوفنا لأن الله معنا، ونحن حينما نتطلّع إلى ما يجري في سوريا والعراق ومصر وتونس والجزائر ولبنان وفلسطين ونتطلّع إلى ما يطال المسلمين في بورما والصين وسائر دول العالم نتيجة إتحاد أعدائنا تشرذم صفوفنا لا نستطيع إلا أن نؤكد على أهمية مناسبة كهذه المناسبة ودورها في تعزيز وحدتنا وتجميع صفوفنا، والتأكيد على أن ما يشاؤه الله هو ما يتحقق وأن كل هذه الصراعات والخلافات التي تشرذمنا لن تستطيع النيل من هذه الأمة التي أمدّها الله بالقوّة والتي ستبقى أبيّة قوية عزيزة منيعة. ليس غريباً ما نعانيه هذه الأيام كمسلمين من إنقسامات وخلافات وإختلافات، فهي حالات تتكرّر في كل الظروف التي يتمكن فيها العدو من النيل من وحدتنا وقوتنا وعزّتنا ومنعتنا ولكن كل هذه الظروف الآنية تبقى رهناً لقدرتنا على إستعادة وحدتنا.
وليس غريباً علينا هذه الأيام ما يشهده المسجد الأقصى من عدوان إسرائيلي يتهدّده فإن وعد الله لنا بالنصر وبإستعادة قوّتنا لندخل المسجد كما دخلناه أول مرة ولنكبّر ما علا تكبيره ووعد الله حق، ونحن نعاهد الله على أننا أهل الحق وعلى أننا أهل لإستعادة بيت المقدس وللإنتصار على العدو الإسرائيلي.
إننا في ذكرى رأس السنة الهجرية نؤكد مرة أخرى على أن ثقتنا بالله قادرة على أن تحقق كل ما دعانا الله إلى تحقيقه.