جاءت رحلة الإسراء والمعراج لتخرج النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم من حاله الحزن التي تعرّض لها بعد «عام الحزن» الذي توفيت فيه السيدة خديجة زوجته، وعمه أبو طالب، واللذان كانا يدافعان عنه ويلهمانه الصبر على الدعوة وعلى أذى المشركين.
فقد ذهب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لعلّه يجد هناك أناسا يستمعون له ويؤمنون بالله، فما كان منهم إلا أن سلّطوا عليه سفهاءهم والصبية الصغار ليقذفوه بالحجارة حتى أدموا قدميه الطاهرتين، فاحتمى ببستان هناك وأسند ظهره الشريف إلى شجرة منه، ورفع عيناه إلى السماء والدموع تسري منها وقال دعاءه المشهور: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو تحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك»..
فماذا يقول العلماء في هذه الذكرى؟!..
دلي
الشيخ حسن دلي
بداية قال الشيخ حسن دلي، مفتي مرجعيون وحاصبيا، إن حادثة الإسراء والمعراج تلك المعجزة الإلهية تأييدا وشحذا لهمّة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى في كتابه الكريم {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، وردت هذه الآية في سورة «الإسراء» وسط القرآن الكريم وذلك دلالة على أهمية هذه الحادثة وعظمتها وتأثيرها على مسار الدعوة إلى دين الله وتصديقا لرسالة النبوّة التي أنزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وجاءت هذه المعجزة كرسالة ربّانية لتخفيف وطأة الحزن ودعما للرسالة التي نزلت على خير البريّة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك بعد أن توالت العديد من الأحداث التي ألمّت بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم من وفاة عمه أبي طالب ووفاة زوجته خديجة رضي الله عنها والأذى المتزايد من المشركين عليه وعلى صحابته الكرام وما تعرّض له من أهل الطائف من الأذى حتى سالت منه الدماء الذكية فكانت معجزة الإسراء والمعراج لتثبيت قلب محمد صلى الله عليه وسلم وصلّى إماما بالأنبياء والمرسلين فى المسجد الأقصى، والتقى بمعراجه من السماء الأولى وحتى السابعة بآدم ويحيى وعيسى ويوسف وإدريس وهارون وموسى وإبراهيم عليهم السلام من الله سبحانه وتعالى، وبعد ذلك ارتقى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الى سدرة المنتهى وذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم.
وفي رحلة المعراج فرضت الصلاة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم وطلب من ربه التخفيف عن أمته لأنها لا تطيق ذلك فاستجاب الله للنبي الكريم إلى خمس صلوات في اليوم والليلة، فحادثة الإسراء والمعراج كانت من رب العالمين فرصة للنبي صلى الله عليه وسلم للإطلاع على المظاهر الكبرى لقدرته حتى يملأ قلبه ثقة فيه، واستنادا إليه حتى يزداد قوة في مهاجمة سلطان الكفر القائم في الأرض كما حدث لموسى عليه السلام فقد شاء أن يريه عجائب قدرته قال تعالى {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى* قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى* قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى* وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىَ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوَءٍ آيَةً أُخْرَىَ} فلما ملأ قلبه بمشاهدة هذه الآيات الكبرى، قال له بعد ذلك {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَىَ}.
فقد ضمّت قصة الإسراء وأعلنت السورتان الكريمتان اللتان نزلتا في شأنه (الإسراء والنجم) إن محمدا صلى الله عليه وسلم هو نبي القبلتين وإمام المشرقين والمغربين ووارث الأنبياء قبله وإمام الأجيال بعده فقد التقت في شخصه وفي إسرائه مكة بالقدس، والبيت الحرام بالمسجد الأقصى وصلّى الأنبياء خلفه فكان هذا إيذانا بعموم رسالته وخلود إمامته، وإنسانية تعاليمه، وصلاحيتها لاختلاف المكان والزمان، فصلّى الله عليك يا صاحب الإسراء والمعراج.
أما عن الحكم من رحلة الإسراء والمعراج، فقال: انها مفاجأة حقيقية للمؤمنين والمشركين عندما سمعوا بخبرها، وقد تعددت الحكم من وجودها لعدة أسباب:
أولا: تهيئة المشركين لعهد جديد من النبوة والرسالة تتمتل في بداية مرحلة فاصلة في دعوته صلى الله عليه وسلم فكانت هذه الرحلة وذلك لريادة النبي صلى الله عليه وسلم وعلو مكانته وحقيقة دعوته.
ثانيا: ربط أمة القيادة بأسلافها وأصولها من الأنبياء والصدّيقين والشهداء من خلال إمامته عليه الصلاة والسلام بأنبياء الله صلوات الله عليهم.
ثالثا: الرفع من مكانة النبي صلى الله عليه وسلم بإيصاله الى مكان مميّز وله رفعة في قلوب المسلمين ألا وهو المسجد الأقصى.
الصلح
الشيخ خالد الصلح
أما مفتي بعلبك الشيخ خالد الصلح فقال: الإسراء هو انتقال النبي مع جبريل ليلا من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى، والمعراج هو صعودهما من بيت المقدس إلى السماوات العُلى، وأشهر الأقوال في زمن هذه الرحلة أنها قبل الهجرة إلى المدينة المنورة، في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب السنة الثانية عشر للبعثة، وجاءت هذه الرحلة بمثابة التخفيف عن النبي صلى الله عليه وسلم من الآلام والأحزان التي تلقّاها من قومه ولما تعرّض له من أذى أهل الطائف ومنعه أيضا من العودة لمكة ودخوله الحرم، وجاءت أيضا تعزية ومواساة من الله تعالى بعد وفاة زوجته خديجة وعمه أبو طالب فأكرمه عزّ وجلّ برؤية آياته الكبرى وأعلى شأنه بالمعراج إليه.
فلم يكن الإسراء والمعراج مجرد حادثة رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات الكبرى وتجلّى له ملكوت السموات والأرض، بل اشتملت تلك الرحلة النبوية الشريفة على معانٍ كثيرة وشارات حكمية بعيدة المدى، فأعلنت الرحلة إن سيدنا محمد هو نبي القبلتين وإمام المشرقين والمغربين ووارث الأنبياء قبله وإمام الأجيال بعده فقد التقت في شخصه الكريم في إسرائه مكة بالقدس والبيت الحرام بالمسجد الأقصى وحيث أنه صلّى بالأنبياء إماما فكان هذا إيذانا بعموم رسالته وخلود إمامته وإنسانية تعاليمه وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
لقد كانت حادثة الإسراء والمعراج منحة ربانية بعد محنة تعرّض لها الرسول صلى الله عليه وسلم فجاءت تلك المنحة على قدر من رب العالمين فيعرج به دون الخلائق جميعا ويكرمه على صبره وجهاده، حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مقدما على مرحلة جديدة وهي الهجرة والإنطلاق لبناء الدولة فهذا البناء لا بد أن تكون لبناته الأولى سليمة قوية متراصّة، فجاء هذا الاختبار ليخلص الصف من الضعاف والذين في قلوبهم مرض ويثبت المؤمنين الأقوياء الصادقين الذين شهدوا له عليه الصلاة والسلام بالصدق وعلو المكانة عند ربه.
لقد كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم بالروح والجسد إلى بيت المقدس وهذا ما عليه جماهير السلف والخلف لأنه لو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة ولما استبعده الكفار ولا كذّبوه وطلبوا منه الأدلة ووصف بيت المقدس والآيات على ذلك، وما صلاته عليه الصلاة والسلام بالأنبياء إلا خير دليل على أنهم سلّموا له القيادة والريادة وأن شريعته ناسخة لكل الشرائع السابقة، فمن هنا نرى بوضوح الرابط بين المسجد الأقصى والمسجد الحرام وأهمية المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين إذ أنه مسرى نبيّهم ومنه كان معراجه إلى السموات العُلى بل وقبلتهم الأولى.
فهذا الربط يشعر المسلمين بمسؤوليتهم نحو فلسطين المباركة والأقصى والوفاء له وتحريره من المشركين لأن بقاءه تحت الاحتلال حتما يهدّد المسجد الحرام وأرض الحجاز لأن الأقصى بوابة إلى المسجد الحرام وأرض الحجاز ووقوعه بأيدي اليهود يعني بعبارة أوضح أن المسجد الحرام والمدينة المنورة مهددة أيضا.
لقد أدرك الصحابة الكرام مسؤوليتهم نحو الأقصى فسعوا جاهدين إلى تحريره من الوثنية والشرك في عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وظلّ ينعم بالأمن والأمان قرابة خمسة قرون حتى جاء الصليبيون فعاثوا فيه فسادا وخرابا إلى أن جاء صلاح الدين الأيوبي فحرره من أيديهم وأعاد له مجده ومكانته مرة أخرى.
وها هو اليوم تحت الاحتلال ولا خلاص له إلا بصلاح الدين من جديد على أيدي المجاهدين في سبيل الله على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، واليوم هو في حالة النسيان أمام ما سمّي بالربيع العربي الذي أصبح على الأمة خريفا وشتاءً من كثرة الدماء التي أريقت باسم التحرير، فأصبحت الأمة تبكي على حالها بدل البكاء على القدس السليبة.