تأتي الذكرى الثانية عشرة لرحيل العلّامة الإمام السيد محمد حسين فضل الله، والوطن يفتقد حكمته وتسديده، والأمة في أمسّ الحاجة إلى مواقفه ورؤاه، وفلسطين تنتظره لتطلق كلمة الحسم، وجراحاتنا النازفة التي سبّبتها الانقسامات المذهبية والطائفية وعوامل التخلّف الكثيرة لا تكلّ عن إطلاق النداءات ليبلسمها. كيف لا وهو الحجة في الدين، والرائد في التبشير بالقيم الحضارية التي يقوم عليها الإسلام، باعتباره مرجعاً إسلامياً يتعدّى حدود الفوارق المذهبية، بل يتعدّى حدود الطائفية.
كان سماحة السيد محمد حسين فضل الله، يرى أنّ السنّة هم أهل الشيعة لأنهم يحبون أهل البيت، والشيعة هم أهل السنّة لأنهم يعملون بسنّة رسول الله، ولذلك كان يقول أرفض أن يقال سنّي وشيعي. كما كان يرى أنّ المرء أيام الرسول يشهر إسلامه بمجرّد النطق بالشهادة، والمسلم الملتزم هو الذي يلتزم الفرائض الخمس في الإسلام: الشهادة والصلاة والصوم والزكاة وحج البيت من استطاع إليه سبيلا. فلماذا هذا التمايز بين مسلم ومسلم؟ وكان يقول: ما دامت الفتوى تعالج مشكلات الناس في العالم كله، وما دمت محرزاً للشروط التي تعذرني أمام الله.. فإنّ مسؤوليتي الشرعية إظهارها للناس.. وكان يعلنها دون أن يخاف في الله لومة لائم.
ونحن من المعجبين بالعلّامة السيد محمد حسين فضل الله ليس لكونه الجامع بين المذاهب الإسلامية بل لكونه الرافض للعصبيات الطائفية، والداعية إلى الوحدة الوطنية بين المسلم والمسيحي في هذا البلد، وهو يعي أنّ الوحدة هي سياج الوطن الصغير، لبنان، في مواجهة أعتى التحديات التي تعصف به. كما أثبت السيد القدرة، وهو العالم والمرجع الشيعي، على أن يخترق الجدران المنصوبة بين الطوائف والمذاهب والمواقع السياسية، وأن يصل إلى الجميع، وأن يحظى باحترام الجميع.
فالسيد محمد حسين فضل الله هو الذي قضى حياته كلها يدعو إلى الإيمان والعمل مردداً «إن أمةً محمد رسولها وقائدها ونبيها.. هي أمة تحمل المسؤولية وتحمل على أكتافها الكثير من الأثقال ولا أمة تعيش على الإتكال»، وهو الذي رأى التناقض بين ما يقال وبين ما يفعل فتحدّث بلسان الناصح المحب لأمته «إنَّ على أي داعية لأي خط أو منهج أو فكرة أنْ يكون أول السائرين في الطريق الذي يدعو إليه»، وكان يدعو إلى الوحدة بين المسلمين مردداً بكلمات الصدق «الكتاب أولاً والسنّة معه ثانياً.. وعندها تتكامل ثقافتنا وينفتح إسلامنا الذي يرتكز على قاعدتين: كتاب الله وسنّة نبيه».
ولكن إعجابنا بسماحة السيد محمد حسين فضل الله مضاعف لكونه رجل العمل الإنساني والاجتماعي بامتياز. وتشهد بذلك جمعية المبرات الخيرية، ومن حولها كوكبة من المؤسسات التي تعنى بالأيتام وذوي العاهات وبالتنمية الاجتماعية بمعناها الأوسع وبالتربية الوطنية.
ونحن نستلهم من سماحة السيد قوله: «إذا أردنا الواقع أن يتغيّر.. فإنّ علينا أن نخرج أفكارنا وعواطفنا ومشاعرنا من هذه الزّنزانة الضيّقة الّتي تضجّ بعصبيّاتنا وذاتيّاتنا». فشتان بين الدين والطائفية، الدين رسالة، والرسالات على اختلافها تجتمع حول القيم الإنسانية التي تدعو إليها. أما الطائفية فعصبية، والعصبيات تتصادم وتحاول إحداها عبثاً إلغاء الأخرى. لذا كان يقول أنّ الأديان توحّد فيما العصبيات تفرّق. ومن هنا نرى، أنّ من أبرز العوائق الّتي تقف في وجه نشر الإسلام الجامع، هو جهل المسلمين، لا بعقائد بعضهم بعضاً وتمايزاتها الاجتهاديّة فحسب، بل بالجوهر العميق من أصول الإسلام وقيمه ورسالته الّتي جرى اختزالها طائفيّاً في كثير من موسوعات الفقه والحديث والتّفسير. كما ندعو إلى أن يكون عيد الأضحى في هذه السّنة عيداً يخفَّف فيه المسلمون من أحقادهم، ويعودون فيه إلى صفائهم، ويزيلون التوتّرات الّتي يراد لها أن تعصف بواقعهم. وأن يستذكروا في هذا الزّمن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: «المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه... لا ترجعنّ بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».
وختاماً، سنبقى نستلهم من سماحته في أن نقدّم الإسلام الأصيل، والصورة المشرقة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولصحابته، مؤكدين قدرة الدين من خلال فكره ورموزه على بناء حياة بعيدة عن كل أجواء الكراهية والحقد والانغلاق، التي يسعى المشوّهون لهذا الدين إلى أن يقدموه بها، بحيث يبدو معها مشكلةً للحياة بدلاً من أن يكون حلاً لها.
بوركت يا سماحة الإمام بهذا العمل الجبّار، الذي تولّيته بطاقاتك الجبّارة، على الصعد الفكرية والإنسانية والأخلاقية، في خدمة أهدافك الدينية والاجتماعية والوطنية. نحن واثقون من أنّ ذكراك سيبقى نبراساً مشعّاً للعمل الديني الخالص لوجه الله. وستبقى أيها الفقيد الكبير بإذن الله علماً من أعلام تاريخ لبنان والعالم الإسلامي، أحاطك الله برحمته الواسعة.
* محامٍ وأستاذ جامعي