بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 أيلول 2022 12:00ص في ذكرى ولادة الرسول.. وعي المسؤولية واستكمال المسيرة

حجم الخط
نلتقي مجدّداً بذكرى ولادة رسول الله ، لا لنتذكّر الاسم وهو الّذي لا يمكن أن ننساه، لأنّه الحاضر معنا في الصّباح والمساء في كلّ صلاة، وعند كلّ قراءةٍ للقرآن، وفي كلّ حركة الإسلام المتصاعدة في الحياة، فيما الصّلاة عليه تتردّد في أرجاء السّماء من الله وملائكته، لتختلط مع صلوات المؤمنين في الأرض مع كلّ ذرّات الوجود فيها: {إنّ اللهَ وملائكتَه يُصلّونَ علَى النَّبي يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليهِ وَسَلِّموا تَسلِيماً} [الأحزاب :56]. 
إنَّنا نتذكَّر رسول الله  في ذكرى ولادته، لنستعيد معاني شخصيَّته الّتي تربَّت على يد خالقها وبارئها، بحيث أحاطتها برعايةٍ خاصّةٍ: «أدَّبني رَبِّي فَأَحسَنَ تَأدِيبي»، فهو - أي رسول الله  - سيكون الحامل لرسالةٍ هي خاتمة الرّسالات، حيث أراده الله سبحانه أن يكون الأسوة والقدوة لكلّ النّاس، يقتدون بأخلاقه ومواقفه وسيرته وحركته، وكلّ تفاصيل حياته، كي يسموا إلى الله، وليخرجوا من جهلهم وتخلّفهم وعصبيّاتهم وأنانيّاتهم إلى ظلّ المعرفة والوعي والحريّة والالتزام بالقيم الإنسانيّة: {لَقَد كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسوَةٌ حَسَنةٌ لِمَن كَانَ يَرجو الله وَاليَومَ الآخر} [الأحزاب:21].
وقد كان رسول الله  وقبل أن يتحمّل أعباء الرّسالة، محاطاً بملَكٍ يرعاه من قبل الله عزّ وجلّ، كما ورد عن الإمام عليّ في نهج البلاغة: «ولقَد قَرَن الله به مِن لَدُن أن كان فَطِيماً أعظَمَ مَلَكٍ مِن مَلائِكَتِه، يَسلكُ بِه طريقَ المكَارِم وَمَحاسِنِ الأخلاق». «ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء».
صفاته
وكان رسول الله  الصّادق الذي يبيّن للنّاس الحقيقة لا يبخل عليهم بها، وكان الأمينَ الّذي تحمّل المسؤوليّة والتزم بها، والحكيمَ في حلّ الخلافات، بحيث كان النّاس يرجعون إليه عندما تستعصي المشاكل بينهم، وكان الباحثَ عن شكاوى المظلومين يسعى إلى حلّها، وما «حلف الفضول» الّذي شارك فيه إلا تعبير عن وقوفه بجانب الّذين يُظلَمون في مكّة، حيث لا ظهير لهم ولا نصير.
وهو العابد للّه، الّذي يفيض حبّاً له وخشوعاً بين يديه، يختلي به في غار حراء بعيداً عن أعين النّاس، تاركاً عَبَدَةَ الأصنام، متفكّراً في حال الخلق وما يعانون منه نتيجة بُعدهم عن ربّهم.
وفوق كلّ ذلك، هو رسول الله الّذي أحبّه النّاس، ووجدوا عنده الحضن الدّافئ، يبثّون إليه همومهم وآلامهم وآمالهم، ومن خلال هذه الصّورة المشرقة اصطفاه الله.
انفتاحه على الآخرين
انطلق  برسالته الّتي بزغت مع نزول الوحي عليه بكلمات {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدّثر:2]، {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [الأحزاب:45-46]، يدعو إليها النّاس من خلال قلبه الوادع الحنون الذي عبّر الله عنه بقوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التّوبة:128]، فاتحاً قلوب النّاس عليه من خلال منطقه الرّحيم، يدعو لأعدائه وهم يرمونه بالحجارة ويضعون الأشواك في طريقه، ولا يتركون إساءةً إلا وينالون منه بها، وهو يقول: «اللّهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون». وعندما وصل إلى أعلى مواقع القدرة عليهم بعدما فتح مكّة، قال لهم بعد التّهجير والحروب والدّماء: «اذهبوا فأنتم الطّلقاء». ولذلك قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران:159]. 
وقد استطاع صلى الله عليه وآله وسلم أن يوصل رسالةً ممزوجةً بالمحبّة إلى العقول عبر القلوب، ومن خلال خُلُقه العالي حوَّل أعداءَه إلى أصدقاء، وكذلك من خلال أسلوبه الحواريّ الّذي كان ينفتح على الآخر، لا ليسجّل النّقاط عليه، بل ليؤكّد القواسم المشتركة معه، وليفتح النّقاش الجادّ في نقاط الاختلاف، وبذلك استطاع أن يفتح حواراً مع المشركين رغم انغلاقهم، حين قال لهم بلسان القرآن الكريم: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ:24]. تعالوا لنتّفق على قاعدةٍ مشتركةٍ بيننا، وهي الحرص على الوصول إلى الحقيقة.
وأكّد صلى الله عليه وآله وسلم النّقاط المشتركة مع أهل الكتاب، وأوجد صيغة تعايش بينهم وبين المسلمين، وفتح مجالَ النّقاش العلميّ الهادئ واسعاً في مواقع الاختلاف.
وأكّد أنّ علاقته مع الّذين يختلف معهم في الدّين لا تبنى على أساس الصّراع، بل على أساس العدالة والإحسان، ما دام هؤلاء لا يعلنون حرباً ولا يكيدون للإسلام وللمسلمين: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8].
الدّعوة بين اللّين والصّلابة
ودعا إلى اعتماد الرّفق القاعدة الأساس في التّعامل مع الآخر: «إنّ الله رفيقٌ يحبّ الرّفق ويعطي على الرّفق ما لا يُعطي على العنف».
ومع ذلك، أكّد صناعة القوّة في المجتمع الذي لا يحترم إلا الأقوياء ويُستضعف فيه مَنْ لا يملك القوّة: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال:60] . لذا تراه يقف صلباً متحدّياً يقاتل أعداءه في بدر وأحد والأحزاب وخيبر وكلّ المواقع، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190].
واستطاع رسول الله بقلبه ومحبّته، وبالقوّة المتنامية التي صنعها، أن يجعل النّاس يدخلون في دين الله أفواجاً.
كما استطاع أن يفتح أكثر من أفقٍ في العالم على الإسلام، ليصل صوت رسالته إلى أقوى قوّتين في العالم آنذاك؛ الرّوم والفرس، مؤكّداً بذلك عدم ضعف الرّسالة وموقعها. 
وقد أشار الله إلى هذا التمدُّد الرّسالي بقوله: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [سورة النّصر].
وفي الوقت نفسه، كان رسول الله حريصاً على بناء مجتمعٍ إسلاميّ متكافل متعاون متحابّ، قاعدتُه الأخوّة والإيمان، وشراعهُ الاعتصام بحبل الله، ومجاذيفُه عدم التّنازع والتفرّق. وهدفُه الدّعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:103] {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:104].
الحثّ على طلب العلم
وسعى صلى الله عليه وآله وسلم لجعل هذا المجتمعِ الجاهلِ الّذي لم يكن للعقل أو للعلم أيُّ دورٍ فيه، مجتمعاً متعلّماً، ولذلك اعتبر «العلم فريضةً على كلّ مسلمٍ ومسلمة»، واعتبر أنَّ الإنسان مسؤول عن كلّ الطّاقات المُودَعة عنده، سواء أكانت بشريّةً أم ماديةً، وهو معنيٌّ بتحقيق الأهداف المرجوّة منها، كما اعتبر العملَ اليدويّ أو المِهْنيَّ أو الفنّي عبادة.
وقد استطاع صلى الله عليه وآله وسلم بذلك أن يصنع حضارةً في أقلّ من مئة سنة، وأن ينفتح بالإسلام على كلّ مواقع المعرفة في العالم، حتى قيل إنَّ الحضارة الإسلاميّة هي أمُّ الحضارات في العالم.
هذا هو رسول الله  الّذي استطاع أن ينقل المسلمين إلى مراحل متقدّمة، وأن يُوصل الإسلام، من خلال جهده المستمدّ من تسديد الله له، إلى ما وصل إليه. 
لكن أين هم المسلمون من كلّ ذلك؟ هم، مع الأسف، كثرٌ، ولكنّهم غُثاء كغثاء السّيل، أشدّاءُ على بعضهم، رحماءُ على أعدائهم والّذين لا يريدون الخير للأمّة، بخلاف ما أراد الله سبحانه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
فهل لنا في ذكرى رسول الله  أن نستعيد وعينا للمسؤوليّة الكبيرة في حفظ هذه المسيرة الّذي بُذلت الجهودُ والتّضحياتُ في سبيلها؟!