لم يكن المفتي الشيخ خليل الميس مجرّد عالم دين... بل كان حالة إنسانية وعلمية وفقهية نادرة قلَّ مثيلها في بلدنا... وكل من تعلّم على يديه وهم كُثر بفضل الله يدركون انهم كانوا أمام أب ووالد حنون قبل أن يكون معلّما أو مدرّسا...
فهو العالم المتواضع.. والأديب صاحب البلاغة.. والمدرّس صاحب البهجة.. والمفتي صاحب السماحة... وهو قبل ذلك كله المعلّم الذي تربّع حبّا في قلوب محبّيه... ولذلك شكّل رحيله تاريخ حزن لعدد كبير جدا من الدعاة والعلماء الذين تتلمذوا على يديه.. فماذا يقول هؤلاء في رحيل الكبير المفتي خليل الميس؟...
حداد
بداية، قال الشيخ الدكتور أسامة حداد، المفتش العام للأوقاف الإسلامية في دار الفتوى: أستاذي ومعلمي.. يا من فتحتُ عيناي منذ العقد الأول من عمري على مرافقتك بسيارتك من بيروت إلى الأزهر في عرمون، وكنتَ تحدثني وكأنني ابن من أبنائك، وتعلمتُ من سماحتك فقه الحياة مع الفقه الحنفي الذي تميّزتَ به من خلال تدريسك للفقه وأصول الفقه فكنتَ تعلّمنا كيفية الاستدلال والفتوى، وأهم من ذلك تعلّمنا منك فقه الواقع الذي يفتي الناس حسب واقعهم الاجتماعي وموقعهم الزماني والمكاني، على أساس قاعدة «اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان»، وقاعدة: «الضرورات تبيح المحظورات». وتعلمتُ من منهجك الوسطى منهج الاعتدال في الدعوة إلى الله، وفي تعاملي مع السائلين والمتعلمين، على أساس القاعدة النبوية الشريفة: «يسّروا ولا تعسّروا.. وبشّروا ولا تنفرّوا».
لك الفضل عليّ وعلى إخواني طلاب العلم في الأزهر وكلية الشريعة حين كنت تجمعنا بعد الدوام المدرسي وتزيدنا علماً من بحر علمك، وفهماً من محيط فقهك المتميّز..
ولا ننسى فضلك حين نجوتُ مع رفاقي في الأزهر من انفجار السيارة المفخخة التي استهدفت سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد في أول محاولة اغتيال لسماحته عام ١٩٨٣، حيث كنا متحلّقين حولها قبيل انفجارها، فناديتنا بتواضعك المشهور لنلعب معك كرة الطاولة في الطابق السفلي الرابع وانفجرت السيارة.. واحتضنتنا كاحتضان الأم الخائفة على أطفالها.. وتشرّفتُ بمرافقتك في إدارة الأزهر عندما كنت ناظراً وسماحتك مديراً راعياً معلّماً لي فنون الإدارة والقيادة..
ولا يغيب عن خيالي حين كنتَ تحمل خرطوم الماء لتنظف بيدك مدخل ودرج الأزهر وأنت المدير والمفتي والقائد، ونحن نقول لك: مولانا نحن نكفيك هذا العمل.. وكنتَ لا تقبل.. وهذا الموقف وهذا المشهد يجذبني كناظر الأزهر أن أتشرّف بخدمة التنظيف، فعلّمتني أن الخدمة ليست عيباً، وتذكّرت مشهد النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يحمل الأحجار على كتفه الشريف يوم بناء مسجد قباء.
ويتكرر هذا المشهد كثيرا سواء في أزهر بيروت أو في أزهر البقاع.. ومن تواضع للّه رفعه.. وتشرّفتُ برعايتك في الاحتفال الكبير عام ٢٠١٢ الذي شجعتني لإقامته في ساحة الصرح العلمي الكبير أزهر البقاع الذي بنيتَه بإخلاصك وهمّتك العالية.. وحضر الاحتفال أكثر من ٦٠٠٠ شخص لتكريم المتفوّقين في مسابقة السيرة النبوية الشريفة التي أجريناها في المدارس بدعمك.. وكانت فرحتك بالحضور لا توصف.. أما عن كرمكَ فكثرة المشاهد التي رأيتها منك لا تُعدّ ولا تحصى، ابتداء من مغلّف مالي جاهز في سيارتك وآخر في مكتبك لتعطي منه التلاميذ المحتاجين، مروراً بالموائد الدائمة لكل من يزورك في الأزهر أو في منزلك، وانتهاء بكل من قصدك بحاجة، وخير دليل أن آخر توقيع لك قبيل وفاتك كان على موافقة لمساعدة مالية لمحتاج مريض..
سيدي صاحب السماحة، يعجز القلم ومعه اللسان عند تعداد أفضالك.. فماذا عساني أن أكتب وأذكر؟..
صاحب السماحة، عندما وصلني خبر وفاتك عادت بي الذاكرة إلى ذكريات لا تموت في وجداني وكياني.. وكل محطة فيها تصلح لأن تكون مدرسة حياة.. من همّة ومواقف سياسية وإنسانية واجتماعية ودينية.. ولا أستطيع حصرها في هذا المقال ولا في غيره..
أسأل الله العظيم أن يتقبّلك يا شيخنا الجليل ومعلمنا.. يا باني المؤسسات.. يا صاحب الإنجازات.. أيها العلّامة المجتهد المتواضع صاحب الفضل علينا مولانا الحبيب سماحة مفتي زحلة والبقاع الشيخ خليل الميس.. نساله تعالى أن يتقبّلك بقبول حسن يليق بجوده ورضوانه ورحمته، وأن يجزيك عنّا وعن الإسلام خير ما جزى داعياً عن أمته ومعلماً عن تلاميذه..
رحمك الله وأسكنك فسيح جناته..وأسأل الله أن يجمعنا في الجنة بكم وبمعلمي صاحب السماحة المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد وأستاذي الشيخ الشهيد د. صبحي الصالح والعلماء والأولياء تحت لواء النبي صلى الله عليه وسلم.. كما أسأل الله تعالى أن يهيّئ للمسلمين قادة يسيرون على نهجك ويقتدون بقيادتك وهمّتك ومواقفك.. وعظّم الله أجركم..
الخانجي
أما الشيخ محمد الخانجي، إمام وخطيب مسجد قريطم، فقال: لقد فقدنا في لبنان عالما وفقيها ومربّيا جليلا، عاصرته الأجيال والخرّيجين من الجامعات الشرعية، كان نِعمَ المعلم في تعليم رسالة الشريعة السمحة، والعلوم الفقهية القديمة والمعاصرة، أمَّ جموع المصلين في مساجد متعددة في البقاع وبيروت وغيرها من المناطق، كان إذا تكلم على المنبر استمع إليه الناس بشغف وإنصات لتلك الكلمات الفكريه والفلسفية التي تخاطب العقول، خطابه كان نحو توحيد الأمة ورقيّها، كلاماته كانت تشعر المخاطب بعظيم المسؤولية الدينية والشرعية للمسلم، والحاجة التي يعيش المسلم فيها بهذه الدنيا الفانية، كان إذا خاطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداهم بيا قوم ليشعرهم بالحياة الجماعية وأن المسلم قوي بأخيه المسلم.
رحل شيخنا الجليل ملبّيا نداء ربه راضيا مرضيا إن شاء الله تعالى وكأني به يهتف بقول بلال: غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه، بعد أن قضى وقته وعمره في طلب العلم الشريف وتعلّمه وتعليمه والإفتاء، والإصلاح بين الناس بهديه والتيسير عليهم مستندا إلى قوة الدليل من القرآن العظيم وهدي الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه بجرأة الأتقياء وشجاعة العلماء، لقد أحبّ طلاب العلم وأحبّوه لزهده وورعه وقوة علمه وفكره.
عندما حضرنا جنازته رحمه الله شعرنا بالسكينة والرحمات، نظرنا الى جموع المعزين حيث كانت دموعهم تنهمر على وجنتيهم من ألم الفراق، عمّ الحزن الأقارب والأحبة والعلماء وطلاب العلم وكأن شيئا قد انسلخ منا ومنهم.
حقا لقد أتعب من بعده، بما ترك من إرث علمي ومؤسسات تعليمية وتربوية زاهرة مثل أزهر البقاع، هذا الصرح الشامخ الذي بناه على تلة مرتفعة يخرج منها نور العلم، والوسطية والسماحة والمحبة والأخوة.
إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وما نقول إلا ما يرضي ربنا... إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون...
اللهم إننا نشهد أنه كان يحبك ويحب نبيك ويغار على دينك وحرماتك فأجزه عن أمة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء.
سائلين الله أن يتقبّله في الصالحين وأن يجعله مع الشهداء والصدّيقين وأن يدخله جنة النعيم مع الأبرار والمتقين اللهم آمين.
العرب
بدوره قال الشيخ حسن العرب، أمام وخطيب في المركز الإسلامي في سبنيه - بعبدا: في سِيَر الرجال، كبار لا تُمحى آثارهم، ولا تُنسى أخبارهم.. نذكرهم ونذكر سِيَرهم بفرح وغِبطة.
من هؤلاء أستاذ التواضع الجمّ، والأدب الرفيع، والفهم الثاقب الدقيق، والحكمة البالغة، والهمّة العالية، والعزيمة الصادقة، والكلمة الحانية.
إمام العلماء الزاهدين، ومفتي المفتين العاملين، وقدوة الدعاة المربّين.
الفقيه، الأصولي، النظّار، المقاصدي، الخطيب المفوّه، الأستاذ الجامعي، المفتي الشيخ خليل الميس.
عرفته عن قُرب أيام الدراسة الشرعية حينما درّسنا مادّة فقه الإمام الأوزاعي، ومادّة مقاصد الشريعة في مرحلة الماجستير، وأجريت معه عدة مقابلات صحفية لجريدة «اللواء».. كلما التقيته كان يمازحني بقوله: أهلا بالشيخ الصغير.
كان همّه الأول الحفاظ على وحدة الأمة، ونشر العلم النافع، وبناء المؤسسات التي تنهض بالمجتمع..
صاحب فكر لامع، ورؤية ثاقبة، لا يكلّ ولا يملّ.. يومه حافل بالعطاء والإنجازات، يسابق الزمن.. كتب الله له التوفيق فأنجز ما سعى له.
رحمات الله عليه، وأكرمه بالزلفى لديه، وجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة، وألهم ذويه ومحبيه وطلابه الصبر والسلوان وعوّض الأمة خيرا.
القوزي
أما الشيخ د. مازن القوزي، رئيس دائرة المساجد في مديرية الأوقاف، فقال بدوره: ترجّل الفارس عن جواده وعن أي فارس أتكلم، الشيخ المربّي المفتي العالم خليل الميس.
انتقل إلى رحمةِ الله تعالى العالمُ الداعيةُ، المربّي، المفسر، الشيخ خليل الميس.
عرَفتُ الشيخ الشيخ خليل الميس رحمه الله تعالى قبل عشرين عاماً في أزهر لبنان فرع بيروت فقد كان مديرا آنذاك، قريبا من طلابه مشجّعا لحفظ القرآن والحديث ويرغب بكسر حواجز الخوف باختيار أحد الطلاب لإلقاء كلمة لخمس دقائق كل يوم صباحا. وأذكر أنه كان عندنا صندوقا للصف يدفع الطالب منا 250 ليرة جزاء لتكلمك اللغة العامية أو لم تعرف المعلومة، وفي نهاية العام يدفع من جيبه الخاص ما تبقّى من ثمن كتب قيّمة لجميع الصف لإثراء مكتبة الطلاب.
وهذه الشخصية حقيقة هي التي تبني رجالا صادقين وطلاب علم بل علماء. كان الشيخ الراحل عالمًا، لم يكن مِن هؤلاء الذين اتَّخذوا العلم وسيلةً للدنيا، بل كان عالماً مربياً، يدعو إلى الله بقولِه وحاله، وأخلاقه وسلوكه. لم يختلفْ مع أحدٍ، فقد كان تعاملُه مع الجميع بأدبٍ جمٍّ، وأخلاق عالية، وحكمة واضحة، أذكر من أخلاقه إن تكلم على أحد غيّر الموضوع وقد كان محبوباً من الجميع، وقد كان محبوباً عند الطلبة؛ لأنه كان رحيماً بهم، شفوقاً عليهم، حريصاً على تعليمهم، فقد كان يعامِلُهم معاملةَ اﻷب المربّي الذي يهمّه شأنُهم. وكان خطيباً مفوّهاً، تهتزُّ المنابر من تحت قدمَيْه، مع صدق اللهجة، والتأثير في النفوس. جاهز الكلمة أينما حل.
رجل بناء المؤسسات ورجال المؤسسات وكان الشيخ من حفَّاظ القرآن الكريم، ومن الباحثين في قضاياه، والحديث وأصول الفقه والفقه بجميع مذاهبه، أهل لبنان خصوصا وأهل العالم عموما يعرفونه عن قُرب، أثّر فيهم وأعطاهم روح العلم ومعانيه.
لُقّب، وهو أهل لذلك اللقب، بأبي حنيفة لبنان، كان يُحدِّثنا عن مشاريعه في البقاع وفي غيرها من الدول، وقد كان يتابعها ويُشرف عليها.
مهما تكلمنا ومهما استفضنا إذا جمعت الكلمات مع صفات الرجال وشروط المجتهد وصولا الى الحكماء والعقلاء في العلم والسياسة وغيرها اعلم اننا نتكلم عن صفات المفتي الشيخ خليل الميس، رحمك الله يا شيخنا ونفّعنا بعلومك.